الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لذا فقد كان جمهور البلاغيين محقًّا عندما رأى طباق السلب كما يكون بين الفعلين يكون بين الاسمين؛ حيث يثبت الاسم مرة ويُنفى مرة أخرى، وقد يكون بين فعل واسم من مادة واحدة، إحداهما مثبتة والأخرى منفية، كما رأينا في الشواهد التي مرت بنا.
أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني
والسؤال بعد أن عرفنا أن الطباق هو اجتماع اللفظين المتضادين هو هل يُعد اجتماع المعنيين المتضادين من قبيل الطباق أيضًا؟
السؤال بطريقة أخرى: ما هي أقسام الطباق باعتبار التضاد والاتفاق في المعاني؟ وهل تُعد من قبيل طباق السلب؟
ذهب إلى هذا ابن أبي الإصبع، فقال: ومن شواهد السلب والإيجاب أيضًا قول تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6)؛ لأنه عز وجل سلب عن هؤلاء الموصوفين العصيان وأوجب لهم الطاعة، ومن المعروف هنا أن الذي يقابل المعصية هو الطاعة، وهي مستفادة من فعل المأمور به، أي: أن التضاد هنا بين المعاني وحدها دون الألفاظ، غير أن الناظر في الآية يتبين له عدم وجود تضادٍ بين المعنيين؛ لأن المعصية هنا منفية، وفعل المأمور به مثبت، والمؤدَّى واحد من التركيبين فلا تضاد إذن، ولكن الإمام فخر الدين بن الخطيب يقول في هذه الآية:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ} في الحال، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} في المستقبل، ومعنى هذا: أن التضاد لا يتم بين معاني التراكيب الموجودة، وإنما يتم بين أشياء خارجة عنها لا تُفهم من التراكيب ولا تدل عليها هذه العبارات والطباق لا يتم إلا بين الألفاظ والمعاني جميعًا، أو بين المعاني وحدها دون الألفاظ، أما ما يتم بين معانٍ لا
تُستفاد من الألفاظ مباشرةً، فلا، ثم إن المستقبل لا يتضاد مع الحال، وإنما الذي يتضاد معه هو الماضي، فمن هنا لم يكن لهذا التأويل وجه مقبول في باب الطباق.
غير أن الخطيب القزويني حينما رفض أن يكون في الآية تضاد ذكر كلام الإمام فخر الدين بن الخطيب ورد عليه بما يصلح أن يكون ردًّا على بن أبي الإصبع وليس على الإمام فخر الدين، قال القزويني: قيل: ومنه قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6) أي: لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل، وفيه نظر؛ لأن العصيان يُضاد فعل المأمور به، فكيف يكون الجمع بين نفيه وفعل المأمور به تضادًّا، والذي قال: أن هناك طباقًا بين: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} هو ابن أبي الإصبع وليس ابن الخطيب.
أما السبكي فكان له رأي آخر، فهو ينظر إلى أصول الكلمات قبل النفي؛ فإن كان بينها تضاد فهي تطابق وإلا فلا، يقول: لا يعنون بالطباق أن يكون مضمون الكلام متضادًّا، بل يعنون أن يكون المذكوران بحيث لو جردَا من النفي والإثبات كانَا في أنفسهما متضادين، فالتضاد هنا بين العصيان وفعل المأمور به، ألا ترى أن المصنف وغيره جعلوا من الطباق قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود} (الكهف: 18) هكذا يقول السبكي، وإن كان تحسبهم أيقاظًا يُفهم أنهم رقود، فيوافق قوله:{وَهُمْ رُقُود} ولا تضاد، كذلك قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه} (الأنعام: 122)، لو أخذنا الموت والحياة باعتبار الإسناد لَما كان بينهما تضاد، فإن قوله:"كان ميتًا" يُفهم أنه حي لدلالة كان غالبًا على الانقطاع فهو يوافق أحييناه، وكذلك قوله:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44) ليس الطباق بين عدم خشية الناس وخشية الله، فإن الذي بينهما تلازم لا تقابل، بل الطباق بين مطلق خشية الناس وخشية الله.
والذي ذهب إليه السبكي هو في الحقيقة بعيد، فالنظر إلى أصل الكلمات دون نظر إلى النفي والإثبات يهدم طباق السلب من أساسه، والسبكي نفسه يعترف أن مقاييسه التي قررها هنا، لا تنطبق على قول الله تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم 6، 7)، فالنظر إلى أصل الكلمات قبل النفي ينفي أن يكون في الآية الكريمة طباق، وأهل الفن يذهبون إلى أنها من الطباق، والأمثلة التي أوردها وأخذ يؤولها لتتفق مع نظرته، لا يستقيم التأويل فيها، وفي الآية الأولى وهي قوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُود} حسبان اليقظة إثبات لها، وإن لم يكن يقينًا فهو إثبات راجح، وفي الآية الثانية قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا} يثبت الموت أولًا ثم يحييه الله تعالى، ولو لم يكن هناك موت لما كان هناك معنى للإحياء، فهما أمران ثابتان يقينًا.
وفي الآية الثالثة: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} نهي عن الخشية من وجه وأمر بها من وجه آخر، واحتساب المتعلق في التعبير ضرورة، والتضاد بين الأمر بالفعل والنهي عنه، واضح في هذه الآية وفي غيرها.
وهكذا يتبين لنا أن ما ذهب إليه السبكي لا يستقيم له ولا يضطرد فيه قياس باعترافه هو.
ومن الواضح في هذا اللون أن المعاني لا تتضاد؛ لأن المعنى المضاد يحوله النفي إلى موافقة المعنى الآخر، ووجود اللفظين المتضادين في التعبير يوهم أن هناك تضادًّا، وما دامت حقائق المعاني لا تتضاد في مثل هذا اللون فلا ينبغي أن يدخل دائرة الطباق؛ لأن الطباق قائم أساسًا على التضاد في الجملة بين الألفاظ والمعاني جميعًا، وهذه قاعدة مهمة، أو بين المعاني وحدها على أقل تقدير، والذي معنا
هنا لا يندرج تحت النوع الأول ولا تحت النوع الثاني، فلماذا يصر السبكي إذن على أن يكون من الطباق؟!
فالذي إذن تستريح إليه النفس، وأنه يمكن أن يكون هذا اللون ملحقًا بالطباق؛ لأن ملمح التضاد فيه قائم على أساس وجود الألفاظ المتضادة في الجملة، والتوسع في هذا النوع جائز؛ لأن الألفاظ التي معنا لا تتضاد حقيقة فالذي يضاد العصيان هو الطاعة وفعل المأمور به قائم مقام الطاعة ومؤد إليها، ولهذا قلنا أن هذا النوع يتوسع فيه كما يتوسع في الطباق.
فليس من الضروري أن تكون الألفاظ التي معنا متضادة على الحقيقة، فكل ما أدى إلى الطباق فهو مقبول، ومما نحن بصدده قول الله تعالى:{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} (الرعد: 20)، فحقيقة المعنى في الجملة المعطوف عليها المثبتة يلتقي ولا يتناقض مع حقيقة المعنى في الجملة المعطوفة، ولكن نظرًا لوجود الألفاظ المتضادة في الجملة من الوفاء بالعهد ونقض الميثاق، فإنها يمكن أن تكون ملحقة بالتضاد.
وفي قول الله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} (النجم 59، 60) جمعَ بين تضحكون المثبت وضده تبكون المنفي، ونفي البكاء يجعل المعنى غير متضاد مع الضحك المثبت، ولكن وجود اللفظين المتضادين - {تَضْحَكُونَ} و {تَبْكُونَ} - في الأصل يجعل هذا النوع ملحقًا بالطباق، ولا يصح أن يدخل باب الطباق؛ لأن المعاني غير متضادة في الحقيقة.
هذا كلام مهم في تحديد معالم الطباق كما تشير إليها هذه الآيات والأحاديث التي نحن بصدد الحديث عنها.
في قولهم: من لم يقدمه حزم أخَّره عجز، نجد كذلك أن حقيقة المعنى في الجملة الأولى متفقة مع حقيقة المعنى في الجملة الثانية، ولكن وجود اللفظين المتضادين في الأصل -يقدم ويؤخر- يجعل هذا اللون أيضًا ملحقًا بالطباق، وأيضًا في قول أبي تمام:
ولقد سلوت لو أن دارًا لم تلح
…
وعلمتَ لو أن الهوى لم يجهل
لا ترى تضادًّا على الحقيقة بين حلم الشاعر وعدم جهل الهوى، ولكن وجود اللفظتين -علمت ويجهل- وهما متضادان على التوسع يجعل هذا اللون ملحقًا بالطباق، وفي قول أبي تمام:
ولقد سلوت لو أن دارًا لم تلح
…
وعلمت لو أن الهوى لم يجهل
لا ترى تضادًّا على الحقيقة بين حلم الشاعر وعدم جهل الهوى، ولكن وجود اللفظين -علمت ويجهل- وهما متضادان على التوسع، يجعل هذا اللون ملحقًا بالطباق وإن لم يكن منه، وفي قول عبد الرحمن بن حسان:
ذُممت ولم تُحمد وأدركت حاجتي
…
تولى سواكم شكرها واصطناعها
لا ترى تضادًّا بين ذُممت المثبتة ولم تحمد المنفية، والذي بين المعنيين هو الاتفاق لا التضاد، ولكن اجتماع ذُممت وتُحمد في البيت يجعل هذا النوع ملحقًا بالطباق، وربما كان هذا هو ما ألمح إليه حازم القرطاجني حينما قال: قد يوجد في الكلام ما صورته صورة الطباق وليس بمطابقة من جهة المعنى كقول قيس بن الخطيم:
وإني لأغنى الناس عن متكلَّفٍ
…
يرى الناس ضُلالًا وليس بمهتدي
فضلالًا المثبت لا يتضاد في المعنى مع المهتدي المنفي، ولو اتحد إثباتًا أو نفيًا لتضاد المعنيان، ومن هنا قال: إن صورته صورة الطباق وليس بمطابقة، وهذا ما سوغ لنا إلحاقه بالطباق.
هذا إذا كان المعنيان المتضادان مختلفين، أما إذا اجتمع المعنيان المتضادان كان جميعًا منفيين فقد ذهب ابن أبي الإصبع إلى أن هذه الصورة من طباق السلب حيث يقول: طباق السلب هو أن يأتي المتكلم بجملتين أو كلمتين إحداهما موجبة والأخرى منفية، قد تكون الكلمتان منفيتين، ومثَّل لذلك بقول الفرزدق:
لعن الإله بني كليب إنهم
…
لا يغدرون ولا يَفون لجار
يستيقظون إلى نهيق حمارهم
…
وتنام أعينهم عن الأوتار
وفي هذا المقام جمع الشاعر بين كلمتين متضادين "يغدرون ويفون"، وكلاهما منفي، ولا يؤثر في المعنى عنده أن الغدر المنفي غدر مطلق وأن الوفاء المنفي وفاء مقيد، وأوضح منه ذلك الباب الذي عقده ابن فارس في كتابه (الصاحبي) بعنوان: باب نفي الشيء جملةً من أجل عدم كمال صفته، قال فيه: قال الله في صفة أهل النار: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74)، فنفى عنه الموت؛ لأنه ليس بموت مريح، ونفى عنه الحياة؛ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة، وهذا في كلام العرب كثير. ومنه قول الشاعر:
من كل بلهاء سقوط البرقع
…
بيضاء لم تُحفظ ولم تُضيع
فالضدان هنا منتفيان معًا؛ لأن الصفة ليست مكتملة، قريب من ذلك الباب الآخر الذي سماه: باب نفي في ضمنه إثبات، ومثله قوله تعالى:{لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّة} (النور: 35) قال أبو عبيدة: {لَا شَرْقِيَّةٍ} تضحى للشرق، {وَلَا غَرْبِيَّة} تضحى للغرب، ولكنها شرقية غربية يصيبها ذا وذا الشرق والغرب، ومنه قول الشاعر:
وأنت مسيخ كلحم الحمار
…
فلا أنت حلو ولا أنت مر
حيث جمع بين الحلاوة والمرارة، ونفاهما معًا؛ يعني أن فيه ذا وذا.
ومؤدَّى ما سبق في طباق التضاد هو أن الطباق على نحو ما يكون بين الألفاظ المتضادة، يكون بين المعاني المتضادة، كأن يجتمع معنيان متضادان ويكون أحدهما مثبتًا والآخر منفيًّا كقوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6) لأن الذي يقابل المعصية الطاعة، وهي مستفادة من فعل
المأمور به، أو يكونَا منفيين كما في قوله تعالى:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (طه: 74) فنفى عنه الموت كما قلنا؛ لأنه ليس بموت مريح ونفى عنه الحياة؛ لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة.
هذا كله يدخل في الحقيقة في طباق السلب؛ لأن المعاني المجتمعة متضادة، وهي في الوقت نفسه منفية، فسواء دخل النفي أحد الضدين أو دخلهما معًا فهو من طباق السلب، وقد سبق أن ذكرنا ترجيح رأي الجمهور الذي يرى أن طباق السلب شأنه شأن طباق الإيجاب، كما يكون بين الفعلين يكون بين الاسمين، حيث يُثبت الاسم مرةً ويُنفى مرةً أخرى، وقد يكون بين فعل واسم من مادة واحدة، إحداهما مثبتة والأخرى منفية كما رأينا في الشواهد.
على أننا فيما مضى أشرنا إلى صورة واحدة مما يُلحق بالطباق، وهي تلك التي افتقدت التضاد في المعنى.
وهناك فيما يُلحق بالتضاد صورتان أخريان:
الأولى: أن يُفتقد التضاد في اللفظ والمعنى جميعًا في الكلمات المذكورة، ولكن يكون هناك نوع تعلق بين إحداهما وما يُضاد الأخرى، فمن ذلك قوله تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (الفتح: 29)، فالمذكور هنا الشدة والرحمة، وهما لا يتضادان لا لفظًا ولا معنًى، ولكن الرحمة تتعلق بما يُضاد الشدة، وهو اللين تعلقٌ سببي، فالرحمة مسببة عن اللين، واختيرت الرحمة على اللين؛ لأنها محببة إلى النفوس، والمرء يتعلق بها ويرجوها دائمًا، أما اللين فإنه يُوحي بالضعف والرخاوة، وهذا أمر مستكره في المسلم، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} (التوبة: 50) فالذي معنا هنا الحسنة والمصيبة، ومن الواضح أنهما لا
يتضادان، فالذي يُضاد الحسنة هو السيئة وليست السيئة هي المصيبة، ولكنها أعم منها، فالسيئات قد تكون مصائب وكوارث تصيب الإنسان في نفسه وماله وبنيه، وقد لا تكون كذلك، ولكن إذا لم تكن المصيبة مضادة للسيئة، فإن بينها وبين ما يضادها -وهو الحسنة- علاقة عموم وخصوص.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} (القصص: 73) وهذه الآية وإن كانت من المقابلة فلا بأسَ من النظر فيما بين السكون وابتغاء الفضل؛ لأنه مما نحن فيه، إننا نرى هنا في الآية تضادًّا ظاهرًا واضحًا بين الليل والنهار، ولكنه ذُكر بعدهما على طريق اللف والنشر:{لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} ، ولا نجد بين السكون وابتغاء الفضل تضادًّا لا في الظاهر ولا في الباطن، الذي يُضاد السكون هو الحركة، ولكن إذا افتقدنا التضامن بينهما فإننا نجد علاقة سببية بين الحركة وبين ابتغاء الفضل، فابتغاء الفضل مسبب عن الحركة، والعدول عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل؛ لأن الحركة ضربان: حركة لمصلحة وحركة لمفسدة، والمراد الأولى لا الثانية.
ومن ذلك قوله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوه} (المجادلة: 6) فالذي معنا: {أَحْصَاهُ} {وَنَسُوه} ، ولا تضاد بينهما لا في اللفظ ولا في المعنى، فإنما يُضاد النسيان هو التذكر، والإحصاء لا يكون إلا عن تذكر تام، فالذي ينسى لا يحصي، إذ لا سبيل له إلى ذلك، أما الله سبحانه وتعالى فلا يضل ولا ينسى، ومن هنا جاءت العلاقة بين الإحصاء والتذكر أو بين الإحصاء وعدم النسيان، والأفضل أن يكون مقابل النسيان هو عدم نسيان وليس التذكر، ذلك أن التذكر عادةً لا يكون إلا بعد نسيان -ومعاذ الله أن يلحقه نسيان- فالعلاقة هنا بين الإحصاء وعدم النسيان.
ومن ذلك قول الشاعر:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
…
ومِن إساءة أهل السوء إحسانا
ففي الشطر الثاني طباق ظاهر بين الإساءة والإحسان، ولكن في الشطر الأول نجد الظلم والمغفرة وهما لا يتضادان، فالذي يُضاد الظلم هو العدل أو الإنصاف، ولما كانت المغفرة تجاوزًا عن المجاوزة أو الرد على الظلم كانت قريبة من العدل؛ لأن المجازاة الصحيحة يجب أن تكون مساوية للظلم الواقع عليك، فإذا تجاوز الجزاء مقدار الظلم لم يكن عدلًا وإنما يكون ظلمًا وعدوانًا، ومن هنا اشترطت المثلية في الرد على العدوان في قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} (البقرة: 194) وإذا لم يستطِعْ الإنسان أن يزن الرد بميزان دقيق بحيث لا يتجاوز الظلم الواقع عليه، فيقع في العدوان، فأولى به أن يغفر، ومن هنا كانت المغفرة أقرب إلى العدل فألحقت بالطباق. ومن ذلك أيضًا قول بن المعتز:"طلاق الدنيا مهر الجنة".
فالذي معنا هنا هو الطلاق والمهر، ولا تضاد بينهما، والذي يُضاد الطلاق هو الزواج، ولكن لما كان الزواج لا يتم بدون مهر كان ذلك قريبًا مما يُضاد الطلاق، فألحق بالباطن.
والصورة الثانية التي تلحق بالطباق: هي إيهام التضاد، وهو الجمع بين لفظين يتضادان في ظاهرهما ولكن معنيهما غير متضادة؛ لأنها لم تُستخدم في حقائقها ولم تُنقل إلى معانٍ متضادة للمجاز، فالتضاد هنا تضاد ظاهري فقط، فالطباق لا يقوم على التضاد في ظاهر الألفاظ وإنما يقوم على التضاد في المعاني، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد:
مستعبر يبكي على دُمنة
…
ورأسه يضحك فيها المشيب
فالذي معنا هنا كلمة يبكي وكلمة يضحك، وهما لفظان متضادان من حيث الظاهر، ولو كان المقصود بهما حقائقهما لكان ذلك من الطباق الظاهر، ولكن فعل يبكي هنا هو فقط المستعمل في معناه الحقيقي أما يضحك فلا؛ لأنه عُني به ظهور الشيب في شعر الرأس، ولا تضاد بين البكاء وظهور الشيب في الرأس، ولكن لما عبر عن هذين المعنيين غير المتضادين بلفظين يتضادان في حقائقهما، كان ذلك لاحقًا بالطباق، ولم يكن طباقًا، ومن ذلك قول البحتري في بِركة المتوكل:
فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها
…
طريق الغيث أحيانًا يباكيها
فالذي معنا هنا يضاحكها ويباكيها، وهما متضادان من حيث الظاهر ولكن لا تضاد على الإطلاق بين مضاحكة حاجب الشمس لبركة المتوكل، وبين مباكاة الغيث لها، فاللفظان هنا مجازيان معًا، ولكن تتضاد المعاني الحقيقية لهما؛ ولهذا ألحقا بالطباق كسابقه.
والجمع بين الضحك والبكاء على المجاز فيهما أو في أحدهما كثيرٌ في الشعر العربي، خذ مثلًا قول الشاعر:
جن النبات في ذراها وزكا
…
وضحك المزن به حتى بكى
وقول الراضي القرطبي:
ضحك المشيب برأسه
…
فبكى بأعين رأسه
وقول دعبل وهو علَم في هذا الباب:
لا تعجبي يا سلمُ من رجل
…
ضحك المشيب برأسه فبكى
وقول الحسين بن المطير:
كل يوم بأقحوان جديد
…
تضحك الأرض من بكاء السماء
والضحك والبكاء في كل هذه الصور لم يُعبَّر بهما عن المعاني الحقيقة المتضادة وإن كان في ظاهر الألفاظ تضاد، ومن هنا أطلق على ما كان من هذا القبيل إيهام تضاد وألحق بالطباق، وليس الأمر كذلك في قوله تعالى:{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} ، فإن هذا من قبيل الطباق؛ لأنهما متضادان لفظًا ومعنًى، ومن ذلك أيضًا قول علي رضي الله عنه في الأشعث بن قيس:"وهذا أبوه كان ينسج الشمال باليمين".
والذي معنا هنا هو الشمال واليمين، والأسبق إلى الذهن أنهما لفظان متضادان ولكن حينما تتبين المعنى على هذا الأساس تجده بعيدًا؛ لأن اليد الشمال لا تنسجها اليمين، ولكن إذا دققت النظر رأيتَ أن المقصود بالشمال لا بد أن يكون ممن ينسج، والشمال التي تنسج هي التي مفردها شملة، وهي ما يضعها الإنسان على كتفيه أحيانًا، ويلفه على رأسه أحيانًا أخرى، يستدفئ بها في الشتاء ويتزين، وما زالت هذه العادة معروفة إلى الآن في بعض ريف مصر.
ولا تضاد بين الشمال التي تنسج وبين اليمين بحال، وإنما ظاهر الألفاظ هو الذي يُوهم ذلك، ومما هو قريب من ذلك قول بعضهم لآخر وقد طُلب منه دينه فأنكر وحلف: طلبت منه اليسار فأعطاني اليمين.
فالجمع بين اليسار واليمين هنا يوهم أن هذا من قبيل التضاد، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك؛ لأن اليسار هنا المقصود منه الغنى والذي دل على ذلك هو ذكر طلب الدين، والمقصود باليمين هو القسم والذي دل ذلك هو ذكر الحلف، ولولا ذكر هذه المناسبة ما فهمنا منهما هذين المعنيين، ولا تضاد بين الغنى وبين الحلف حتى يكون بينهما طباق، ولكن ظاهر الألفاظ هنا يوهم التضاد.
فالذي يُلحق بالطباق على هذا ثلاثة أنواع وليس اثنين كما ذكر كثير من البلاغيين:
الأول: أن يجتمع اللفظان المتضادان وأحدهما مثبت والآخر منفي، فلا تضاد بين معنييهما في الحقيقة كما في قوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} (التحريم: 6)، فالمعصية منفية وفعل المأمور به مثبت، والمؤدَّى واحد فلا تضاد إلا على تأويل، لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل.
الثاني: أن يجتمع اللفظان اللذان يتضاد معنياهما الحقيقيان في أصل الوطء ولكن يعبر بهما عن معان غير متضادة، ويكون هذا بالمجاز تارة وبالتورية تارة أخرى في أحد اللفظين، أو فيهما معًا، ومثاله كما ذكرنا قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122)، فإنه بالنظر إلى كونه كان ميتًا يُفهم أنه حي فهو يوافق أحييناه، والحق أنه أثبت الموت أولًا، ثم الإحياء فيما بعد، وهما على أي حال مجازان.
الثالث: أن يجتمع اللفظان وليس بينهما تضاد لا في اللفظ ولا في المعنى، ولكن بين أحدهما وما يُضاد الآخر نوع تعلق كما في قوله تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} (الفتح: 29)، فالمذكور -كما قلنا- الشدة والرحمة، وهما لا يتضادان لا لفظًا ولا معنًى، ولكن الرحمة تتعلق بما يُضاد الشدة وهي اللين تعلق سببي.
ولنتساءل الآن: لِمَ كان نوع الطباق في قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} موضعَ نزاع بين علماء البلاغة؟ وما وجه ذلك النزاع؟ وما السبب فيه؟ مع ذكر مثالين توضح من خلالهما مرادَ البلاغيين بما هو ملحق من التضاد بالطباق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.