الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
(المقابلة)
تعريف المقابلة لغةً واصطلاحًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
المقابلة في لغة العرب: مِن قابل الشيء بالشيء مقابلةً وقِبالًا أي: عارضه، فمقابلة الكتاب بالكتاب وقباله به: معارضته، والمقابلة: المواجهة، والتقابل مثلُه، يقال: تقابل القوم يعني: استقبل بعضهم بعضًا، ومنه قول الله تعالى في وصف أهل الجنة:{إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47)، جاء في التفسير: أنه لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض، فالمقابلة على هذا معناها في اللغة: المعارضة والمواجهة.
أما في اصطلاح البلاغيين: فمعناها أن يؤتَى بمعنيين متوافقين أو معانٍ متوافقة، ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب، كذا في (الإيضاح) للخطيب القزويني، فترى هذا المعنى في قوله الله تعالى:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} (التوبة: 82). وقول أبي دلامة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعَا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
فقد جاءت الآية الكريمة: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} بمعنيين متوافقين، وإن كانا غير متناسبين، ألا وهما الضحك والقلة، ثم جاءت بما يقابل هذين المعنيين وهما البكاء والكثرة على الترتيب؛ حيث جاء الضحك أولًا في الطرف الأول من المقابلة، فجاء مقابله وهو البكاء أولًا في الطرف الثاني، وكذا القلة والكثرة جاء كل منهما ثانيًا في كِلا الطرفين.
وفي البيت:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعَا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
جاء الشاعر بمعان متوافقة متناسبة، هي الحسن والدين والدنيا، ثم جاء بمقابل هذه المعاني وهي القبح والكفر والإفلاس على الترتيب كذلك، حيث إن القبح
من الطرف الثاني يقابل الحسن، والكفر يقابل الدين والإفلاس يقابل الدنيا التي أراد بها الغنى، ومعنى التوافق في التعريف: ما كان خلاف التقابل، فيشمل المتناسبين أو الأمور المتناسبة كما في مراعاة النظير؛ ولذا فقد تجتمع المقابلة ومراعاة النظير كما في بيت أبي دلامة السابق؛ حيث إن الطرف الأول من المقابلة -وهو الحسن والدين والدنيا- أمور متناسبة، فهي مجلبة للسعادة وتجتمع في الذهن بهذا المعنى، وكذا تجد الطرف الثاني -وهو القبح والكفر والإفلاس- بأنها مجلبة للشقاء ولها ارتباط في الذهن بهذا المعنى. كما يشمل التقابل المعنيين غير المتناسبين أو الأمور غير المتناسبة كما في الآية السابقة، فلا تناسب بين الضحك والقلة، ولا بين البكاء والكثرة.
وقد عرّف قدامة ابن جعفر المقابلة بقوله: هي أن يصنع الشاعر معاني يريد التوفيق بين بعضها وبعض أو المخالفة، فيأتي في الموافق بما يوافق وفي المخالف بما يخالف وعلى الصحة، أو يشترط ويعدد أحوالًا في أحد المعنيين، ثم يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده، وفيما يخالف بضد ذلك، وقد مثل ابن قدامة للمقابلة بقول الشاعر:
وإذا حديث ساءني لم أكتئب
…
وإذا حديث سرني لم أسر
فقد جعل بإزاء سرني ساءني، وبإزاء الاكتئاب أسر، وهذه المعاني غاية في التقابل، والمتأمل في تعريف قدامة خصص التوافق في المقابلة بما كان متناسبًا، وعلى هذا فإن هذا اللون عنده يشتمل على لونين من المحسنات البديعية وهو مراعاة النظير والمقابلة، بينما المقابلة عند جمهور البلاغيين -على ما أوضحنا- تعم ما كان من المعاني متناسبًا وما كان منها على غير التناسب.
ويجرنا هذا إلى الحديث عن بيان الفرق بين المقابلة والطباق؛ إذ كثير من البلاغيين يرون أن المقابلة نوع من الطباق، وأنها داخلة فيه، فالخطيب القزويني يذكر هذا اللون بعد فراغه من الطباق وأقسامه بقوله: ودخل في المطابقة ما يُخص باسم المقابلة، وكذلك فَعَل غيره من المتأخرين، وحجتهم أن هذا اللون قائم على الجمع بين معنيين متقابلين في الجملة؛ أي: على وجه مخصوص دون آخر، إذ ليس التقابل بين كل اثنين من المعاني، فمثلًا لا تقابل بين الضحك والقلة في قول الله تعالى:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} حتى يكون طباقًا، ولا بين البكاء والكثرة وإن كان فيه مقابلة بين الضحك والبكاء والقلة والكثرة؛ وحيث كان في المقابلة جمع بين معنيين متقابلين في الجملة كان طباقًا لصدق تعريفه عليه، وإن عُدّ من حيث التقابل بين العبارتين مقابلة.
أما السكاكي فقد جعل المقابلة قسمًا قائمًا برأسه من المحسنات المعنوية وعرفها بقوله: أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر وبين ضديهما، ثم إذا شرطت هنا شرطًا شرطت هناك ضده. ومثّل لها بقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل:5 - 10)، وقد تبع السكاكي قومٌ منهم العلامة عبد الحكيم فقد رجح رأي السكاكي وعلل هذا الصنيع بقوله: لا يخفى أن في الطباق حصول التوافق بعد التنافي؛ ولذا سُمي بالطباق، وفي المقابلة حصول التنافي بعد التوافق، ولذا سمي بالمقابلة وفي كليهما إيراد المعنيين بصورة غريبة، فكل منهما محسِّن بإنفراده واستلزام أحدهما للآخر يقتضي دخوله فيه، فالحق مع السكاكي في جعله المقابلة قسمًا مستقلًّا من البديعيات المعنوية.
وذهب قومٌ من البلاغيين إلى أن المقابلة أعم من الطباق، قال المطرزي: المقابلة أعم من الطباق فإن المقابلة يدخل فيها نحو: "أن تبنوا الدنيا وغيث الجود" فلم
يعتبر التنافي، وصاحب (بديع القرآن) شرط في المقابلة أن تكون بأكثر من اثنين من الأربعة إلى العشرة، وعلى هذا فالمراد بالتوافق ليس التناسب، بل خلاف التقابل مطلقًا سواء كانا متناسبين أم لا، ولا شك أن الطباق كله تقابل كما سبق في حده، فاسم التقابل صادقٌ عليه إلا أنه اصطلحوا على تسمية هذا النوع فقط تقابلًا وهو ما كان الطباق فيه مكررًا، فإن قلت: إذا كان التقابل المراد أخص من التقابل والأخص لا يدخل في الأعم، بل الأعم يدخل في الأخص. قلت: كثيرًا ما يقال عن الفرد أنه داخل في الجنس، والمراد إعلام أنه فرد من أفراد الجنس غير خارج عنه، لم يريدوا دخول النوع بجميع أجزائه، بل دخول ما فيه من حصة الجنس.
وإذا تجاوزنا عن الجزء الأخير وهو ثم إذا شرطت هنا شرطًا شرطت هناك ضده الذي أوجده السكاكي في تعريفه، وجدنا أن التعريفين متقاربان، غير أن الخطيب اشترط الترتيب في المقابلة ولم يشترطه السكاكي، وليس هذا بفرق كبير، أما الشرط وضده وهو الذي اعتبره السكاكي في تعريف المقابلة فهو الفارق الأساسي بينهما.
لكن صاحب (الأطول) لا يرتضيه فرقًا يقوم على أساسه مذهب خاص للسكاكي في المقابلة، قال: ونحن نقول: إن إثبات مذهب جديد للسكاكي بلا سند معتدٍّ به مما يستحسنه العقلاء، وقول السكاكي: وإذا شرط هنا أمر شرط ثمة ضده، كما يحتمل أن يكون بيانًا لما لا بد منه للمقابلة، يحتمل أن يكون بيانًا لما به يكتمل ويزيد حسنها، بل سوق كلامه حيث قال بعد التعريف: ثم إذا شرط ها هنا أمر شرط هناك ضده، يدل على المخالفة بين هذا الكلام والتعريف، وإذا لم يكن هذا الجزء من التعريف كما ذهب إلى ذلك العصام، لم يكن هناك فرق بين
ما ذهب إليه الخطيب والسكاكي، إلا في مسألة الترتيب التي أدخلها الخطيب في التعريف صراحةً، وربما من أجل هذا لم يرد الخطيب أن يعترض على تعريف السكاكي أو يفنده.
من هنا يكون ما ذهب إليه التفتازاني والمغربي من أن بيت أبي دلامة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
ليس من المقابلة عند السكاكي؛ لأنه اشترط في الدين والدنيا الاجتماع، ولم يشترط في الكفر والإفلاس ضده، يكون هذا ليس بسديد، فعدم الشرط في الكفر والإفلاس هنا لا يقدح في المقابلة، وإن انتقص من كمالها وحسنها على ما بينه العصام.
صورة المقابلة إذن عند الخطيب لا تختلف كثيرًا عن صورة المقابلة عند السكاكي، والمقابلة على هذا تدخل صور المطابقة، ولكن لا بأس من أن يكون لها باب مستقل خاص يعالج مسائلها وصورها وخصائصها وبلاغتها؛ لأن الحديث عنها يتشعب ويطول، وإفراد باب خاص لها لا ينبغي أن يُفهم منه على أنها مختلفة عن الطباق اختلافًا جوهريًّا، فليس هذا بشرط دائمًا لتخصيص باب مستقبل لفن بعينه.
إن الأساس التي تقوم عليه المقابلة عند السكاكي والخطيب هو نفس الأساس الذي يقوم عليه الطباق وهو التضاد في المعاني.
غاية ما في الأمر، أن التضاد في الطباق يقوم بين معنيين متضادين فقط، أما في المقابلة فإن التضاد يكون بأكثر من ذلك، وهنا ينفرد التقابل بخصوصية وهو أن المعاني المجتمعة قبل التقابل لا بد أن تكون متوافقة، وهذا النوع طباق صريح عند كثير من القدماء والمحدَثين.
والمقابلة على هذا الأساس -سواء كانت أصلًا والطباق فرعًا عليها أم كانت فرعًا على الطباق وهو الأقرب إلى الصواب- تبدأ من مقابلة اثنين باثنين وتنتهي بمقابلة ستة بستة، ولا يشترط التضاد في المقابلة كما اشترط في الطباق، فيمكنك أن تقابل بين المعاني المتضادة تضادًّا صريحًا ظاهرًا أو خفيًّا ويمكنك أن تقابل بما يلحق بالطباق بأي صورة من صوره، فالتضاد في صور المقابلة مبني على التوسع وهذا معنى قول ابن أبي الأصبع: والمقابلة تكون بالأضداد وغيرها، لكن الخطيب يفضّل التقابل بالأضداد على التقابل بغيرها، وهذا واضح من الموازنة بين بيت أبي دلامة في مقابلة ثلاثة بثلاثة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
وبيت أبي الطيب في مقابلة خمسة بخمسة:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قال: ورُجّح بيت أبي الطيب على بيت أبي دلامة لكثرة المقابلة مع سهولة النظم، وبأنها قافية هذا متمكنة وقافية هذا مستدعاة، فإن ما ذكره غير مختص بالرجال، كما يتميز بيت أبي دلامة على بيت أبي الطيب بجودة المقابلة، فإن ضد الليل المحض هو النهار لا الصبح، ومعنى هذا أن بلاغة المقابلة قائمة على أساسين: كثرة المقابلات والتضاد الحقيقي.
فإذا اجتمعَا معًا كان أبلغَ وإذا تفرقَا حاذ كلٌّ جانبًا من البلاغة كما اتضح في الموازنة، فمن مقابلة اثنين باثنين قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)، حيث قوبل إرادة اليسر بإرادة العسر، ومنه قوله:{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 81)، حيث قُوبل الفرح والقعود بالكراهية والجهاد،
وهذا ينم عن عداوة المنافقين وشدة حقدهم، فسرورهم كامن في القعود والتخلف وحزنهم وكراهيتهم في الجهاد لإعلاء كلمة الحق.
ومن مقابلة اثنين من المعاني باثنين قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157)، حيث قابل الأمر بالمعروف بالنهي عن المنكر، وحِل الطيبات لهم بتحريم الخبائث عليهم. وقوله:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: 82). حيث قوبل الضحك بالبكاء والقلة بالكثرة، ومنه قوله تعالى:{بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} (الحديد: 13)، حيث قوبل بين {بَاطِنُهُ} و"رحمة" بـ"ظاهره" و {الْعَذَابُ} ، ومثله قوله في نفس السورة:{لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} (الحديد: 23). حيث قوبل الأسى بالفرح وما فات بما هو آتٍ، ومنه قوله -جل وعلا-:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار:13 - 14).
ويدخل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) وقول عمران الطلحي للمنصور وقد وجه إليه قوله: بلغني أنك بخيل، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أجمدُ في حق ولا أذوب في باطل.
ومن ذلك أيضًا قول جرير:
وأعور من نبهان أما نهاره
…
فأعمى وأما ليله فبصير
ومنه قول أحد الأعراب لرجل: إن فلانًا وإن ضحك لك فإنه يضحك منك، فإن لم تتخذه عدوًّا في علانيتك فلا تجعله صديقًا في سريرتك.
وقد جعل ابن وهب قول الشاعر:
أموت إذا ما صدني بوجهه
…
ويفرح قلبي حين رجع للوصل
من المقابلة السيئة؛ لماذا؟ لأنه جعل ضد الموت فرح القلب وضد الصد بوجهه الوصل.
قال: وهذه مقابلة قبيحة، ولو قال: أموت إذا ما صدني بوجهه وأحيا إذا مل الصدود وأقبل، فجعل ضد الموت الحياة وضد الصد بالوجه الإقبال لكان مصيبًا. ومعنى هذا أنه يرى أن المقابلة الحسنة لا تكون إلا بالتضاد الحقيقي، أما إذا لم تكن كذلك فهي مقابلة قبيحة سيئة.
وأي ناظر في البيت المعيب والبيت البديل، يرى أن العيب فيما صنعه ابن وهب مع تحقق التضاد فيه؛ لأن القضية قضية معنى، وليست قضية تحقق التضاد أو عدم تحققه، إن الشاعر قال:
ويفرح قلبي حين يرجع للوصل
.....................
فجعل فرح القلب مرتبطًا برجوعه للوصل، والقلب هو موطن الحب وهو الذي يظهر فيه أثر الصد والوصل، فجعل الفرح فيه مناسبًا لما نحن فيه، ثم إنه جعل رجوع المحبوب رجوعَ وصل، وهذا شرط ضروري لفرح القلب، وفرح القلب دليل حياته، فهو يدل على الحياة والزيادة، أما البيت المقترح فإنه لم يزد على أن جعل ضد الموت الحياةِ، والحياةُ على أهميتها وقيمتها لا تدل على الفرح، فما أكثر ما في الحياة من الثكالى والمحزونين والبؤساء والمكتئبين، فلا دليل هنا على فرح القلب ولا على الفرح مطلقًا، ثم إنه هنا لم يجعل الإقبال إقبال وصل كما هناك، وإنما هو إقبال من مل الصدود، وكأن المسألة مسألة تغيير في الحالة فقط، فإذا مل الصدود أقبل ولكن هل أقبل للوصل؟ ذلك ما لا يفيده البيت المقترح، ورجعة الوصل هي التي تحيي القلوب وتفرحها، ولكن يبدو أن الرغبة في تحقق التضاد أهم عنده من سلامة المعنى وقيمته.
ومن مقابلة اثنين باثنين قول النابغة الذبياني:
فتًى كم فيه ما يسر صديقه
…
على أن ما فيه ما يسوء الأعادي
وقول المعري:
يا دهر يا منجز إيعاده
…
ومخلف المأمول من وعده
وقول آخر:
فواعجب كيف اتفقنا فناصح
…
وفيٌّ ومطوي على الغل غادر
فقابل النصح والإخاء بالطي على الغِل والغدر.
ومن مقابلة ثلاثة بثلاثة قول البحتري:
فإن حاربوا أذلوا عزيزًا
…
وإذا سالموا أعزوا ذليلًا
ومنه قول أبي دلامة السابق:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
كل هذا من مقابلة ثلاثة بثلاثة، وهذا البيت الذي قال فيه الخطيب: أنه صحيح المقابلة، كان صاحبه يرى أنه أشعر بيت قالته العرب، فقد سأل أبو جعفر المنصور أبا دلامة عن أشعر بيت قالته العرب، قال: بيت يلعب به الصبيان قال: وما هو ذاك؟ قال هو قول الشاعر، وذكر البيت.
ومع هذا كله، نرى أن المقابلة بين الدنيا والإفلاس ليست مقابلة خالصة، الذي يقابل الدنيا هو الآخرة لا الإفلاس، وكأنه عنى بالدنيا هنا كثرة المال كما يقال إذا كثر مال الرجل: أقبلت الدنيا على فلان، وإذا قل ماله قالوا: أدبرت عنه الدنيا. ولكن هذا المعنى ليس هو الأصل في اللفظ وإنما يأخذ من ظلاله، ومع هذا فهو بيت جيد المقابلة عند الخطيب مع أنه جعل بيت أبي الطيب:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
أدنى منه مقابلةً؛ لأنه قابل الليل بالصبح، والذي يقابل الليل هو النهار لا الصبح، مع أن الذي يكشفه ويكشف زيارته وعلاقته بمحبوبته هو الصبح لا النهار مطلقًا، فالمعنى هنا يحتم وضع الصباح بإزاء الليل؛ لأن إشراقته هي التي تشي به وتغري به، فلمَ لا يكون مع ذلك جيد المقابلة كما حكم لبيت أبي دلامة بجودة المقابلة؟!
ومن مقابلة ثلاثة بثلاث قول المتنبي:
فلا الجود يفني المال والجِد مقبل
…
ولا البخل يبقي المال والجد مدبر
حيث قابل الجود والإفناء والإقبال بالبخل والإبقاء والإدبار.
وأما مقابلة أربعة بأربعة فالشاهد العَلَمُ فيها قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل:5 - 10)، وهو شاهد السكاكي على المقابلة أيضًا لانطباق تعريفه عليها، حيث عقبها بقوله: لما جعل التيسير مشتركًا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق، جُعل ضده وهو التعسير مشتركًا بين أضداد ذلك، وهي المنع والاستغناء والتكذيب، والذي يبدو أن الخطيب القزويني لم يُرد تضادًّا ظاهرًا بين:{اتَّقَى} و {اسْتَغْنَى} فاضطر إلى أن يتأول له، ويكشف عن وجه التضاد فيه قال: فإن المراد بـ {اسْتَغْنَى} أنه زهد فيما عند الله كأنه مستغن عنه، فلم يتقِ أو استغن بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة فلم يتقِ، ومع هذا لم يستطِع الخطيب القزويني أن يحكم على هذه المقابلة بأنها غير جيدة.
ومما هو داخل في ضرب مقابلة الأربعة بأربعة قول جرير:
وباسطُ خير فيكم بيمينه
…
وقابض شرٍّ عنكم بشماله
حيث قابل باسط وخير وفيكم ويمين بقابض وشر وعنكم وشماله.
وأما مقابلة خمسة بخمسة، فقد ذكروا لها قول أبي الطيب السابق:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
وهذا على أساس أن" لي" تُضاد "بي"، ولكن الخطيب لا يرتضي ذلك قال: وفيه نظر؛ لأن اللام والباء فيهما صلتا الفعلين فهما من تمامهما، وهذا البيت قال فيه ابن حجة الحموي: ولا أعلم في باب التقابل أفضل من هذا البيت لجمعه من المتقابلات ما لم يجمعه بيت لشاعر قبله ولا بعده إلى يومنا هذا، مع ما فيه من تمكين قافيته. وليس الأمر كما قال، فإذا سلمنا مع الخطيب أن هذا من مقابلة أربعة بأربعة وجدنا نظائر قبله وبعده، فمن هذا قول الشاعر وقد استشهد به العباسي:
يا أُمة كان قبح الجور يسخطها
…
دهرًا فأصبح حسن العدل يرضيها
ومنه قول آخر:
نهار غرته البيضاء أرشدني
…
وليل طرته السوداء أغواني
وقد جعل ابن حجة من مقابلة خمسة بخمسة وهو أعلى أنواع المقابلة عنده قول علي لعثمان: "إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وَبِي، وأنت رجل إذا صدقت سخطت وإذا كذبت رضيت"، والذي ذهب إليه ابن حجة هنا ليس بصحيح، فالذي معنا هنا مقابلتان؛ الأولى بين ثلاثة وثلاثة وهي:"إن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي"، هذا جاء في جملة، أما الثانية التي جاءت في جملة أخرى فهي بين اثنين واثنين وهي:"وأنت رجل إذا صدقت سخطت وإذا كذبت رضيت"، ولو سلمنا بأن هذا من مقابلة خمسة بخمسة لانفتح الباب على مصراعيه للوصول بالمقابلة إلى عشرات الأضداد، ولأصبحت الجمل والفقرات المتتابعة ذات المقابلات المتعددة مقابلة واحدة. وهذا ما لا يكون.
ولا يمكن أن يكون قوله في بديعيته إذا تجاوزنا عما فيها من الصنعة من مقابلة خمسة بخمسة وهو:
بواطئٌ فوق خدّ الصبح مشتهر
…
وطائر تحت ذيل الليل مكتتم
فكل كلمة من الشطر الأول تقابلها كلمة من الشطر الثاني على الترتيب بغض النظر عن التضاد الحقيقي؛ لأنه ليس مطلوباًَ في المقابلة، ونظيره قول صفي الدين الحِلي:
كان الرضا بدنوي من خواطرهم
…
فصار سخطي لبعد عن جوارهم
فقابل كان والرضا ودنو ومن وخواطر، بصار والسخط والبعد وعن وجوارهم، ونلاحظ أنه لا تضاد بين الجوار والخواطر إلا على اعتبار أن الخواطر تجول داخل فكر الإنسان، والجوار يكون خارجًا عن فكره، وهذا جارٍ على مذهب من يرى أن المقابلة تكون بالأضداد وغيرها.
وأما مقابلة ستة بستة فلا يُعرف له إلا هذا البيت الذي ينسب إلى عنترة:
على رأس حر تاج عز يزينه
…
وفي رجل عبد قيد ذل يشينه
قال الصفدي في (شرح اللامية): هذا أبلغ ما يمكن أن ينظم في هذا المعنى وكأن كثرة عدد المقابلات هو سر بلاغة هذا اللون، وهذا صريح عند العباسي الذي يقول: وكلما كثر عدد المقابلة كان أبلغ، وقد سبق أن تعرضنا لهذا المقياس عند الخطيب ولا يمكن أن يكون هذا مقياسًا صحيحًا، فليس من المعقول أن يكون ما فيه خمس مقابلات أبلغ مما فيه مقابلتان لمجرد العدد فقط، ولكن يبدو أن النظر إلى كثرة المقابلات وأثرها في بلاغة الكلام تعود إلى تاريخ قديم.
قال الحاتمي في (حلية المحاضرة): ومن بديع الطباق قول عمرو بن كلثوم:
فإن نورد الرايات بيضًا
…
ونصدرهن حمرًا قد روينا
قال أبو علي: فطابق بين الإيراد والإصدار والبياض والحمرة، ولو اتفق لعمرو بن كلثوم تقابل الرِّي بالظمأ لكان أبرعَ بيت قالته العرب في الطباق.
قال أبو علي: قد أخذه أبو الشيعي فاستوفى المعنى، فقال:
فأورده بيضًا ظماء صدورُها
…
وأصدرها بالري ألوانها حمر
ولا شك أن بيت عمرو بن كلثوم أفضل من بيت ابن الشيعي في معناه، فالرايات ليست في حاجة إلى أن توصف بالظمأ؛ لأنها لا تشارك في الحرب لا طعنًا ولا ضربًا، ومع ذلك فهي ترتوي من الدماء المتطايرة هنا وهناك. والرايات من قماش، والقماش يقبل الدم ويتشربه ولا يرويه منه إلا الكثير، وأما ما أصدره ممدوح أبي الشيعي فيبدو أنه الرماح أو السيوف، وهي أدوات قتال يمكن أن توصف بالظمأ إلى الدماء؛ لأنها تباشر القتل، ومع هذا فإنها لا تقبل الدماء ولا تتشربها؛ لأنها من حديد، وقليل من الدم يغير لونها إلى الحمرة، ورقبة واحدة من رقاب الأعداء تكفي لإصدارها حمرة، وليس الأمر كذلك في الرايات.
أضِفْ إلى هذا استخدام الفعل المضارع عند عمرو بن كلثوم وهو يعني التجدد والاستمرار دلالة على تأصل هذا الأمر فيهم، وتكراره منهم، فضلًا عن سرعة إيقاع البيت الذي تجسّد له سرعة الحركة في الإيراد والإصدار، وهذا يتسق مع طبيعة الغزو والإغارة التي تعتمد على عنصر المفاجأة والبغتة، وأما في بيت أبي الشيعي فإنه استخدم الفعل الماضي وبناه على إيقاع بطيء، مما يدل على بطء الحركة في الإيراد والإصدار، وهذا يتسق مع حركة الجيوش التي ترسم الخطط، وتدرس الموقف، وتستطلع العدو، وتضلل العيون، وتلجأ إلى الحصار حينًا وإلى الصلح حينًا آخر، وإلى الانسحاب إذا دعت الضرورة.
فأي البيتين أدل على كثرة القتل في جيش العدو؟ وهل يترك المعنى في المفاضلة إلى عدد المقابلات وإن قصرت في تأدية المعنى المراد؟
إن القضية في المقابلات -ونكرر مرارًا وتكرارًا- قضية معنى وليست قضية عدد ولا قضية تضاد حقيقي، وانظر إن شئت في مقابلة أربعة بأربعة، فماذا ترى؟ إنك ترى أن جو الصورة كله من بدايته إلى نهايته قائم على هذه المقابلة، وهي مقابلة ليس فيها أدنى شيء من التلاقي أو التداخل، إن التقابل فيها يصل إلى أقصى درجاته، وتجد ذلك في افتتاح سورة الليل بالقسم بالليل في أقصى درجات ظلمته وبالنهار في أقصى درجات ضيائه:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} ، إن القسم هنا ليس بالصباح ولا بالفجر، حيث يختلط النور بالظلام، ولكنه بالليل إذا يغشى وبالنهار إذا تجلى؛ حيث يتقابل الظلام الدامس الذي تضل فيه الرؤية ويخبط فيه الناس خبط عشواء، لا يلوُن على شيء، ولا يهتدون بشيء ولا يتبينون شيئًا.
أقول: حيث يتقابل هذا الظلام الدامس مع الضياء الساطع في النهار المتجلي التي تسطع شمسه في أفق السماء وترسل أشعتها وضياءها إلى الأرض، لا يحجبها عن الأرض سَحاب ولا غبار ولا دخان، فيتبين الأعشى طريقه فضلًا عن البصير، وتتضح المسالك غاية الاتضاح، فلا يضل السالك طريقه ولا يتخبط أحد؛ لأن كل شيء متضح مبين وهكذا الإيمان والكفر.
أو إن شئت قلت: إن في الظلام الدامس همودًا وسكونًا كأنه سكون القبور وإذا دخلت قرية في غبش الظلام لأول مرة في حياتك فإنك لن تفرق بين بيوت الأحياء وقبور الأموات؛ لأن السكون يشمل كل شيء في الليل البهيم، وأما النهار المتجلي ففيه الحياة والحركة والحيوية والنشاط، وهكذا الإيمان والكفر. فالأول إحساس وإدراك وبصر وبصيرة، والثاني تفقد فيه هذه الحواس وظائفها
الصحيحة فكأنها هي مفقودة، والقرآن الكريم وصف الكفار تارة بأنهم صم بكم عمي وتارة بأنهم موتى:{وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُور} .
ثم يأتي التقابل الثاني هذا من بلاغة التقابل في القرآن الكريم بين الذكر والأنثى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (الليل: 3)، وهما نوعان متقابلان أشد التقابل في الخلق والتكوين والخصائص النفسية والجسمية، ودور كل منهما في الحياة، ومع هذا التقابل الشديد فإن حركة الحياة لا تتم إلا به، ولولا هذا التقابل ما كانت هناك حياة ولا أحياء، وهذا التقابل الكامل بين الذكر والأنثى الذي نشأت منه حركة الحياة واستمرارها، هو بعينه التقابل الشديد في كل وجوه الحياة، وبه تستمر حركتها وتستمد الحياة ديمومتها؛ لأنه من هذا التقابل تنشأ حركة التدافع، وبالتدافع تستمر حركة الحياة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251).
ثم يأتي مِفتاح السورة كلها عقب هذه الأقسام: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل: 4)، سعي متفرق متقابل أشد التقابل متناقض أشد التناقض؛ متناقض في بواعثه ودوافعه متناقض في مسلكه وطرقه متناقض في نتائجه وآثاره، ثم تأتي الآية الكريمة:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} لتفصل هذا السعي تفصيلًا بينًا، وهي التي وقفت عندها كتب البلاغة المتأخرة تعدد ما فيها من وجوه التقابل، ولا تتخطى هذا الحصر بحال، ولكن انظر في تيسير كل منهما فيما سلك من طريق، وانظر هذا التقابل الشديد فيه تجد كيف يكون؟ كيف ييسر من أعطى واتقى وصدق بالحسنى؟ إنه تعالى ييسره لما يسر له نبيه صلى الله عليه وسلم {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى: 8).
وكيف ييسره مَن بخل واستغنى وكذب الحسنى؟ إنه سبحانه ييسره لما اختاره لنفسه من طريق: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (مريم: 75)، وما
يغني عنه ماله الذي بخل به واكتنزه واستغنى به عما عند الله إذا تردى في الهاوية وهلك، ثم يأتي قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} (الليل: 12) فرقًا واضحًا بين هذه المسالك المتعددة؛ لأن الهدى هو الذي يضع الحدود الفاصلة بين المسالك المتناقضة والمساعي المتقابلة، {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (الليل: 13)، وليس لأحد سواه؛ إنه يهيمن على هذه الأمور المتقابلة هيمنةً كاملةً، فمن كانت له هذه الهيمنة كلها فإنه هو وحده الذي يقرر مصير هذه الفرق المتناقضة المتقابلة، ولا يملك أحد سواه تقرير هذا المصير:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (الليل: 14 - 21).
ولعل التعبير هذا بالأشقى والأتقى وليس بالتقي والشقي؛ ليكون التقابل -والله أعلم- في قمته والتناقض في غايته، تمامًا كما افتتحت السورة بالتناقض التام والتقابل الكامل، أرأيتَ كيف يكون التقابل منسجمًا مع جو السورة العام؟!
وهذا الذي مضى كله ترى فيه أن عدد الأضداد في المتقابلات متساوٍ، فاثنان باثنين أو ثلاثة بثلاثة، وهكذا حتى يصل التقابل إلى ستة بستة هذا هو المعروف المشهور في المقابلة.
لكن ابن رشيق يرى أنه قد يقابل اثنان بثلاثة فذكر في ذلك قول أبي نواس:
أرى الفضل للدنيا وللدين جامعًا
…
كما السهم فيه الفوق والريش والنصل
فزاد في المقابلة قسمًا؛ لأنه قابل اثنين بثلاثة وكذلك قول القيس بن الأسلت:
الحَزمُ وَالقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ ال
…
إِدهانِ وَالفَكَّةِ -يعني: الضعف- وَالهاعِ
يعني: الجبن والخفة. فقابل الحزم بالادهان والقوة بالفكة وهو الضعف، ويروَى الفهة وهي العين، وزاد الهاع وهو الجبن والخفة:
الحَزمُ وَالقُوَّةُ خَيرٌ مِنَ ال
…
إِدهانِ وَالفَكَّةِ وَالهاعِ
وهذه صورة من المقابلة لم تُعرف ولم تشتهر، لكنها ليست بغريبة ويمكن قبولها والتوسع في دراستها والنظر في شواهدها، فبيت أبي نواس عدّه ابن رشيق من المقابلة مع أن طرفيه مشبه وهو الفرد الجامع للدنيا والدين، ومشبه به وهو السهم الجامع للفوق والريش والنصل، وليس هناك تضاد بين أي من الثلاثة في السهم مع أي من الاثنين اللذين جمعهما الفضل.
والمقابلة الشائقة في كتب المتأخرين هي المقابلة القائمة على الأضداد أو ما يقاربها، وعلى هذا فلا يكون في البيت مقابلة على المعنى المشهور، وإن كان له وجه على بعض المعايير القديمة.
أما البيت الثاني، فإنه قابل فيه بين الحزم والادهان وبين القوة والفكه وبين الهاع خارجًا، وبقي الهاع خارجًا عن دائرة المقابلة، ومعناه كما قلنا: الجبن والخِفة، وهذه الكلمة الأخيرة يمكن أن تتقابل مع الأول والثاني معًا، ويبقى فيه أن العدد القليل "الحزم والقوة" خير من العدد الكثير "الادهان والفكه والهاع"، ومما يتضح في هذا الأمر قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المجادلة: 9)، فهذه الآية الكريمة قوبل فيها بين اثنين وثلاثة؛ ثلاثة منهي عنها واثنان مأمور بهما، فالإثم يقابله البِر ومعصية الرسول يقابلها التقوى، ويبقى العدوان وهو وسط هذه المرة، وهو يمكن أن يقابل الأمرين معًا البر والتقوى، فالخروج على البر يمكن أن يكون عدوانًا، والخروج على التقوى عدوان أيضًا، والآية توحي بأن ما ينبغي أن يتوجه إليه الإنسان أقل عددًا وكُلفةً مما هي منهي عنه، فلماذا يدع الإنسان القليل المأمور به إلى الكثير المنهي عنه؟!