الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيامة والساعة الثانية واحدة الساعات الزمنية، فالتحسين كما ترى للفظ وإن كان له مدخل في حسن المعنى وجماله، وضابط هذا النوع أنك لو غيرت اللفظ بما يرادفه ذهب التحسين واختفى المحسِّن فلو قلت في قول الشاعر:
عضنا الدهر بنابه
…
ليت ما حل بنا به
لو قلت: ليت ما أصابنا أصابه، لذهب الجناس واختفى التحسين.
وعلى ما هو معلوم فإن التسليم بهذه الأقسام منوط ومرتبط بألا يقلل بعضها من شأن بعض؛ لأن ما يكون متعلقًا باللفظ بالذات قد يظن فيه العرضية، وعلى أي حال فسوف نعرض لبعض هذه المحسنات، متوخين السهولة والوضوح، والإكثار من الشواهد؛ قصدَ الكشف والتوضيح لهذه الألوان.
لكن قبل ذلك نود أن نبين أن خلاصة ما سبق: أن منزلة البديع في مجال الدراسات الإسلامية والتعرف على أسرار القرآن ودلائل إعجازه، لا تقل شأنًا عن منزلة أخويها المعاني والبيان، بل ولا عن غيرها من سائر العلوم العربية والدينية، وأن القول بغير ذلك أو بجعلها تابعةً لأخويها أو ذيلًا لهما أو بجعل حسنهما عرضًا لا ذاتًا، كلامٌ ينقصه الدقة، ولا يتفق مع النظرة العلمية للأمور، وقد ذكرنا من الأدلة على ذلك ما به تقام الحجة.
وسؤالنا: اذكر من الأدلة ما يدل على ذلك؟ وكيف ترد على مَن قال بسواه؟
نأمل أن تجيبوا عن هذين السؤالين قبل أن نخوض في ألوان البديع؛ لأن هذه المقدمة هي من الأهمية بمكان.
الطباق، وأقسامه
ونبدأ في أول هذا الألوان وأشهرها وأعرفها، وهو الطباق؛ لنتعرف على معناه لغةً واصطلاحًا، ونتعرف على أقسامه من حيث الإيجاب والسلب، وعلى أقسامه كذلك من حيث التضاد والاتفاق بين المعاني.
الطباق: ويسمى المطابقة والتطبيق والتضاد والتكافؤ: من المحسنات المعنوية، فالطباق أو المطابقة كلاهما مصدر للفعل طابَق، يقال: طابقت بين الشيئين إذا جعلتهما على حذوٍ واحد، وألزقتهما، وطابق بين قميصين: لبس أحدهما على الآخر، وطابق الفرس في جريه: إذا وضع رجله في موضع يده، والطبق: غطاء كل شيء، والجمع أطباق، وطبق كل شيء: ما ساواه، وطبق الماء وجه الأرض
أي: غطاه، وأصبحت الأرض طبقًا واحدًا: إذا تغنى وجهها بالماء، وأصبح الماء طبقًا للأرض، في حديث الاستسقاء:((اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا وطبقًا)) أي: مالئًا للأرض مغطيًا لها، السموات الطباق: التي بعضها فوق بعض وفي التنزيل {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} (الملك: 3).
فالمادة إذن تدور حول الموافقة والمساواة والمناسبة.
والتضاد: تفاعل من ضاد الشيء الشيء أو ضدّه في الخصومة، أي: خالفه فهما متضادان، وضد الشيء خلافه والجمع أضاد.
هذا هو معنى الطباق في لغة العرب.
أما معناه في الاصطلاح: فهو أن تجمع في الكلام الواحد أو ما هو كالكلام الواحد في الاتصال بين معنيين متقابلين في الجملة. والمراد بالتقابل عند البلاغيين: أن يكون بين المعنيين مطلق تنافي دونما نظر إلى نوع هذا التنافي أو مقداره، فالتقابل بهذا المعنى الواسع لا يُشترط أن يكون التنافي فيه من جميع الصور، أو من كل الوجوه، بل يكفي أن يكون في الجملة ودون تفصيل، ولذا كان التعريف مقيدًا بهذا القيد، الذي يفسح الدائرة ويوسعها لا ليغلقها أو يضيقها، وهو قيد في الجملة، وقد أفاد التقييد بهذا القيد أمرين هامين:
أولهما: ألا يشغل الدارسون بالهم بتعيين مقدار التنافي بين المعنيين، كتحديد نوع العلاقة بينهما، سواء كانت بالتضاد أو التناقض أو غيرهما، إذ يكفي التنافي في الجملة؛ ليتحقق بين المعنيين مفهوم المطابقة.
ثانيهما: أن هذا القيد جعل التطابق والتنافي بين المعنيين يكفي أن يكون في بعض الصور، فمن المعلوم أن المتقابلين في بعض الصور إنما يعني التنافي بينهما باعتبار
ذلك البعض من الصور، أما باقي الصور فلا يُنظر إليها؛ لعدم الحاجة إليها في تحقيق المطابقة بين المعنيين.
وعلى هذا، فإن التقابل يتسع ليشمل كل أنواع العلاقات بين المعنيين، التي تجعل بينهما قدرًا ما من التنافي، ومن أهم هذه الأنواع:
التقابل الحقيقي، كتقابل الأمرين اللذين بينهما غاية الخلاف لذاتيهما كتقابل القِدم والحدوث، فلو جمع بين هذين المعنيين في كلام أو ما يشبه الكلام في الاتصال، كان الكلام مشتملًا على المطابقة، وعليه مقابلة الإحسان بالإساءة في قول الشاعر:
يجزون من ظلم آل الظلم مغفرةً
…
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
فالإساءة والإحسان معنيان بينهما غاية الخلاف لذاتيهما، فكان تقابلهما تقابلًا حقيقيًّا.
النوع الثاني من التقابل: التقابل الاعتباري: كتقابل الإحياء والإماتة، فليس بين الإحياء والإماتة تقابل حقيقي، لأنهما لا يتقابلان إلا باعتبار بعض الصور، وهو أن يتعلق الإحياء بحياة جِرم في وقت، والإماتة بإماتته في ذلك الوقت، وإلا فلا تقابل بينهما باعتبار أنفسهما، ولا باعتبار التعلق عند تعدد الوقت، ومع ذلك فوجود هذا النوع من التقابل كافٍ في تحقيق المطابقة متى وُجد؛ لذا نراه في قوله:{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) فسنرى كيف كان الخلاف محتدمًا بسبب هذه الأشياء التي لا تُراعى في أنواع التقابلات.
النوع الثالث من أنواع التقابل: التقابل بالتضاد: كتقابل البياض والسواد على الجرم الواحد الموجود بِناءً على أنهما وجوديان، وذلك كقوله:
فالوجه مثل الصبح مبيضٌّ
…
والفرع مثل الليل مسودٌّ
ضدان لما استجمعَا حسُنَا
…
والضد يظهر حسنه الضدُّ
فالتقابل بين البياض والسواد في البيت حقق المطابقة بينهما.
النوع الرابع من أنواع المقابلات: تقابل الإيجاب والسلب: كتقابل مطلق الوجود وسلبه، كالذي نراه في قوله تعالى مثلًا:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم: 6، 7) فهذه الآية ليس فيها تقابل على الحقيقة بين العلم المنفي والعلم المثبت، ولكن بينهما تقابل في الجملة إذا أخِذَا على الإطلاق.
النوع الخامس من أنواع التقابلات: تقابل العدم والمِلك: كتقابل العمَى والبصر، والقدرة والعجز بناء، على أن العجز نفي للقدرة عمن من شأنه الاتصاف بالقدرة وعليه قوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (الرعد: 16) فالأعمى والبصير بينهما مطابقة؛ لأنهما متقابلان أو متنافيان؛ لتنافي العمى والبصر.
النوع السادس من أنواع التقابلات: تقابل التضايف: كتقابل الأبوة والبنوة، وقيل: إن الجمع بين الأبوة والبنوة من باب مراعاة النظير وليس طباقًا، ورُدَّ: بأن مراعاة النظير يكون فيما لا تنافي فيه كالشمس والقمر، بخلاف ما فيه التنافي كالأبوة والبنوة، ونجد هذا النوع الذي تحقق به المطابقة في قوله تعالى:{آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} (النساء: 11).
وعلى الجملة، فإن التقابل يشمل كل ما يشعر بالتنافي لاشتماله بوجه ما على ما يوجب التنافي كما ترى ذلك في قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس
…
قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
فقد طابق الشاعر بين هاتا وتلك؛ لما في هاتا من القرب، وتلك من البعد، وهذا كافٍ في تحقيق التنافي الموجب للمطابقة.
ومن ثم فقد جاء تعريف الآمدي للطباق مؤكدًا لهذا العموم في التنافي، حيث عرفه: بأنه مقابلة الحرف لضده أو ما يقارب الضد، وما سبق ليس تقسيمًا للطباق ولا للعلاقة التي تكون بين معنيين متقابلين، وإنما هو محاولة لحصر أنواع العلاقة بين المعنيين أو ذلك القدر من التنافي الذي يحقق المطابقة بين معنيين.
ونحن إذا نظرنا إلى معنى المطابقة في لغة العرب ومعناها في اصطلاح البلاغيين، نجد المناسبة بين المعنيين واضحةً جليةً، متينةً قويةً؛ لأن المتكلم وفّق بين المعنيين المتقابلين كما يوفّق بين الشيئين المختلفين، فيُجعلَا على حذو واحد، أو كما يوفّق بين القميصين فيجعل أحدهما فوق الآخر، وجعل المتكلم الضدين متوافقين حيث وفّقا في جملة واحدة واستويَا في ذلك مع بُعد الموافقة بينهما، أشبه بوضع الغطاء على الشيء؛ حيث جُعل الشيء متوافقًا مع غطائه وملتحمًا معه، كما أنه أشبه بوضع الفرس رجله في موضع يده؛ لأن يده ورجله المتقابلتين إذا التقتَا في موطئ واحد وجمعَا في مجمع واحد، فقد حصل بينهما توافق وتناسق.
وعلى الجملة، فإن مادة المطابقة إذا كانت تدور في لغة العرب حول الموافقة والمساواة، فإن المتكلم المطابق في كلامه يوافق بين المعنيين المتقابلين، ويسوي بينهما.
وبذا نكون قد وقفنا عند هذه الضوابط التي بها نستطيع أن نتعرف بعض الشيء على هذا اللون المهم من ألوان البديع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.