الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان سجع الكهان قد اختفى بمجيء الإسلام، فقد ظهر نوع آخر من السجع أغرق منه في الكذب والضلال، وأكثر منه اضطرابًا في النظم وسماجة التركيب، ألا وهو سجع مدعي النبوة، الذين استخفوا قومهم فأطاعوهم، من ذلك قول مسيلمة الكذاب:"يا ضُفدع نقي نِقي، لِمَ تنقين!! لا الماء تُكدِّرين، ولا الشراب تَمنعين". وإذا ما استثنينا هذا النوعَ -وهو سجع مدعي النبوة- نجد أن أسلوب السجع ظل قويًا مطبوعًا، وبخاصة في الوصايا، والحكم، والوعظ، والأجوبة، والنوادر، وغير ذلك من فنون القول، حتى أواسط القرن الرابع الهجري، حيث امتزج العجم بالعرب، ودَبَّ الفساد في اللغة، وعدَل القوم عن الأسلوب الفطري المطبوع، وتحولوا إلى الزخرف والزينة، فكان الإسراف والإفراط، وظهرت الصنعة والتكلف، ليس في السجع فحسب بل في مختلف الفنون البلاغية.
آراء في أسلوب السجع، وهل يطلق على ما جاء في القرآن
ولو تعرضنا لآراء البلاغيين في أسلوب السجع، لرأينا أنه لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة بإيجاز إلى هذه الآراء في أسلوب السجع من حيث الإباحة والحظْر، ومن حيث جواز إطلاقه على ما في القرآن الكريم من فواصل وعدم الجواز. فقد اختلفت آراء العلماء في ذلك: فمنهم مَن عاب أسلوب السجع وعدَّه من الأساليب التي تقوم أكثرَ ما تقوم على الصنعة وعلى التكلف والتعسف، هم يستدلون على وجهة نظرهم بما آل إليه حالُ البيان العربي من تدهور وانحطاط في العصور التي شاع فيها استعمال السجع. ومنهم مَن استحسنه ودافع عنه، محتجًّا: بأنه لو كان مذمومًا لَمَا ورد في النظم الكريم، حيث لا تكاد سورة تخلو منه، بل إن مِن سوره ما جاءت جميعها مسجوعةً، كسورة القمر، وسورة
الرحمن، وغيرهما. ومنهم مَن أجاز إطلاق السجع على ما في القرآن الكريم، ومنهم مَن منعه وأطلق عليه اسم الفواصل. فالأمر بذلك يحتاج إلى مزيد تفصيل. وكدأب العلماء قديمًا وحديثًا انقسموا فريقين، فريق يثبت وجوده في القرآن ويؤيد، وآخر ينفي ويعترض، وكل أدلى بدلوه، واستدل بأدلته.
فالمانعون -وعلى رأسهم الباقلاني- يستندون إلى أدلة كثيرة؛ منها: أن الفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، ثم إن السجع يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجةً في نفي الشعر؛ لأن الكهانة تنافي النبوات، كما أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للذين كلموه في شأن الجنين:((أسجعًا كسجع الكهان))، فرأى ذلك مذمومًا، وأن لو كان في القرآن سجع لأمكن معارضته؛ لأن السجع غير ممتنع عليهم، بل هو في عادتهم. ثم إن تقديم موسى على هارون في موضع وتأخيره عنه في آخر كما جاء في سورة الشعراء وسورة طه، ليس للسجع، بل لفائدة أخرى، وهي إعادة ذكر القصة بألفاظ مختلفة تؤدي معنًى واحدًا. فالمقصد من تقديم بعض الكلمات وتأخيرها إظهار للإعجاز على الطريقين جميعًا، ثم إنه لا يقال: في القرآن أسجاع؛ لعدم الإذن الشرعي، ولا يقال في القرآن أسجاع أيضًا، إنما يقال فواصل، لقول الله تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت: 3). هذه هي بعض أدلة المانعين.
أما المجيزون فأدلتهم كما أوردوها؛ هي: أن السجع ليس عيبًا، فمنه ما يأتي طوعًا سهلًا تابعًا للمعاني وبالضد من ذلك، والقرآن لم يأتِ فيه مثال من القسم المعيب؛ لعلوه في الفصاحة. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع الشعرَ واستحسنه، وأمر به شعراءَه، فالسجع والمزدوج دون القصيد والرجز، فكيف يحل ما هو أكثر ويحرم
ما هو أصغر؟! ثم إن زوال التحريم بزوال العلة، فالنهي وقع عن السجع؛ لقرب عهد العرب بالجاهلية، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قيد الإنكار بالتشبيه:((كسجع الكهان؟)) ولو كان الإنكار لذاته لقال: "أسجعًا" فقط. الأمر الذي يعني أن النهي منصب على سجع الكهان. كما أن إثبات السجع في القرآن صحيح؛ لأنه مما يبين به فضل الكلام، ولأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة كالتجنيس والالتفات، ثم إنه لا سببَ للفصل بين الفاصلة والسجع، فالفاصلة أو السجع في القرآن تؤدي دورها تمامًا كما تؤديه في غيره من الكلام الفني الجميل.
ويقول أحد المثبتين وهو التنوخي: "أما مَن عاب السجع مطلقًا، فمخطئ؛ لأن السجع كثير في كتاب الله وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم والفصحاء كقس وسَحبان، وإنما يُعاب السجع إذا احتاج متكلفه إلى تنقيص المعنى أو زيادته، فالذي فاته من المعنى يَقبُح، وترك السجع لا يقبح، فيكون حينئذٍ السجعُ قبيحًا لاستلزام القبح. وبهذا يُجاب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أسجعًا كسجع الكهان؟))، فإنه لو عاب السجع مطلقًا لَمَا نطق به، ولا يمكنه أن يعيبه مطلقًا؛ لمجيئه في كتاب الله تعالى كثيرًا. فالمعيب إذًا هو سجع مخصوص، وهو الذي مثَّله بسجع الكهان، وهو الذي ينقص المعنى أو يزيده". انتهى من كلامه.
يقول الإمام الشهاب نقلًا عن البقاعي في كتابه (مصاعد النظر): "اختلف السلف في السجع، فقال أبو بكر الباقلاني في كتاب (الإعجاز): ذهب أصحابنا الأشاعرة كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه، وذهب كثير ممن خالفهم إلى إثباته. والقول الثاني فاسد؛ لِمَا في القرآن من اختلاف أكثر فواصله في الوزن والرَّوي، ولا ينبغي الاغترار بما
ذكره بعض الأماثل كالبيضاوي والتفتازاني من إثبات الفواصل والسجع فيه، وأن مخالفة النظم في مثل هارون وموسى بحسبه.
ونقل أبو حيان في قول الله تعالى: {وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} (فاطر: 21) أنه لا يقال في القرآن: قَدَّم كذا أو أخَّر كذا للسجع؛ لأن الإعجاز ليس في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، ومتى حُوِّل اللفظ لأجل السجع عما كان لا يتم به المعنى بدون سجع، نُقِضَ المعنى وقيل عليه: أنه نسي ما قاله في "الصافات"، من أن التعبير بمارد ومريد للفاصلة، ثم إنه قال: لو كان في القرآن سجع لم يخرج عن أساليب كلامهم، ولم يقع به إعجاز، ولو جاز أن يقال: سجع معجز جاز أن يقال: شعر معجز، والسجع مما تألفه الكهان، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على مَن سجع عنده على ما عُرِفَ في كتب الحديث، ولو كان سجعًا كان قبيحًا؛ لتقارب أوزانه، واختلاف طرقه، فيخرج عن نهجه المعروف، ويكون كشعر غير موزون، وما احتجوا به من التقديم والتأخير ليس بشيء، فإنه لذكر القصة بطرق مختلفة.
أقول -أي: الشهاب: أطال بلا طائل؛ لتوهمه أن السجع كالشعر، لالتزام تقفيته ينافي جزالةَ المعنى وبلاغته، لاستتباعه للحشو المخل، وأن الإعجاز بمخالفته لأساليب الكلام، فشنَّع على هؤلاء الأعلام وليس بشيء، والعجب منه أنه ذكر كلام الباقلاني مع التصريح فيه بأنه من السلف مَن ذهب إليه، والحق أنه في القرآن من غير التزام له في الأكثر، وكأن مَن نفاه نفَى التزامه أو أكثريته، ومَن أثبته أراد وروده فيه بالجملة، فاحفظه، ولا تلتفت لما سواه، وهذا ينفعك، والذي عليه العلماء أنه تُطلق الفواصلُ عليه دون السجع". انتهى من كلام الشهاب.
المرجح إذًا من ذلك والأولى كما قال العلماء أن نقول عما جاء في القرآن على هيئة السجع فواصل؛ تأدبًا مع كلام ربنا سبحانه وتعالى ولنا في إمام مدرسة المتأخرين الإمام
السكاكي القدوة، حيث عدل في كتابه (المِفتاح) عن المصطلحات البلاغية التي رسخت في أذهان السابقين، مثل "المغالطة" عند الشيخ عبد القاهر، فإن السكاكي سماها "أسلوب الحكيم"؛ لأنه ورد في الذكر الحكيم، وكذا "تجاهل عارف" سماه السكاكي "سَوْق المعلوم مساقَ غيره"؛ لوجوده في كلام العليم الخبير. والفاصلة أولى من السجع؛ لورودها في القرآن كثيرًا:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت: 3){كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1). والحق أن إيثار التعبير بالفواصل القرآنية فيه خروج من هذا الخلاف الشكلي حول إطلاق السجع على الفاصلة القرآنية، وقد رأيتَ ما يحدثه تلازمُ الفواصل من إثارة الشعور، ودفع الملل، وجذب المخاطبين، وبخاصة في هذه البيئة الشاعرة التي نزل فيها القرآن الكريم.
يساعد على هذا أن الفاصلة أعم من السجع، حيث إنها تطلق على أواخر الآي، سواء اتفقت الأحرف أم اختلفت، على سبيل المثال قول الله تعالى:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 1 - 4) تجد أن لذة التلاوة وحلاوتها كامنة في الكلمات: {قُرَيْشٍ} ، {وَالصَّيْفِ} و {الْبَيْتِ} ، و {خَوْفٍ} فإن هذه الكلمات الأربع تنتهي بأحرف مختلفة، ولكنها من فصيلة واحدة وهي حروف الهمس، وكل كلمة قبل آخرها حرف مد ولين، وهذا الحرف يمد حركتين أو أربعًا أو سِتًا ويسمى مدًّا عارضًا للسكون. وهذا التنغيم الصوتي يؤدي إلى جمال الأداء مع جمال اللفظ مع جمال المعنى مع جمال الهدف، كل هذا يؤدي إلى دخول القرآن القلبَ لعوامل شتى، منها الأداء اللفظي مع الفاصلة القرآنية التي تأتي، والمعنى في قرن واحد.
ولذلك تسمع وترى مَن أسلم بسبب سماعه للقرآن الكريم، وخير مثال لذلك ما حدث لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع سورة "طه" أو "الحاقة" في إحدى روايتي إسلامه. من أجل هذا يحاول الكفرة قديمًا وحديثًا صَرْفَ الناس عن مجرد سماع القرآن، أخبر الله عنهم حيث قال -جل وعلا:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ولذا لا يُمل سماعُ القرآن بسبب ما فيه من فواصل وخلافها، حتى قال فيه أفصحُ العربِ صلى الله عليه وسلم:((لا يخلق عن كثرة الرد)). ونحن المسلمين نقرأ القرآن منذ نعومة أظافرنا ولا نمله إن شاء الله ما بقينا، حتى إنك تقف مندهشًا من حفظ الأطفال الصغار جدًّا جزء عم لما فيه من الفواصل البليغة، في حين أنهم لا يستطيعون حفظ قصيدة لامرئ القيس، أو حتى لحسان بن ثابت رضي الله عنه وما هذا إلا أنه بُنِيَ على فواصلَ بليغة حكيمة، كل فاصلة في مكانها، وحُق لنا أن نعتز بهذا الكتاب، وحقًّا صدق الله إذ يقول:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
والسجع كغيره من ألوان البلاغة إنما يُستحسن ويُستجاد إذا صدر عن طبع، وجاء عفوًا، وقاد إليه المعنى، أما إذا تُكلف وتُصنِّع، وصار هو الذي يقود إلى المعنى، فإنه يستقبح ويُعاب، ويرد على قائله. يقول الإمام عبد القاهر:"ولن تجد أيمنَ طائرًا، ولا أحسنَ أولًا وآخرًا، وأهدى إلى الإحسان وأجلبَ إلى الاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تُركتْ وما تريد لم تكتسِ إلا ما يليق بها، ولم تَلْبَسْ من المعارض إلا ما يَزينها، أما أن تضع في نفسك أنك لا بد من أن تجنس أو تَسْجَع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعَرَض الاستكراه، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم".