الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطيب الحجزات، والإشارة أو الإيماء يكون لمن قرب جدًّا ووضح، ولذا أطلقوه على الكناية التي انعدمت وسائطها أو قلت، ووضح فيها التلازم بين المعنيين؛ نحو الكناية عن المرأة بالنعجة أو خضاب البنان، أو التنشئة في الحلية، وعن الرجل بحمل السلاح، وعن الصدر بموطن الحلم، وعن الفقر بقلة الفأر في البيت، إلى غير ذلك من هذه الأقسام التي ذكرها البلاغيون.
من روائع هذه الكنايات التي خلع عليها العصر طابعه في الرمز قول أبي القاسم الشابي:
إذا ما طمحت إلى غاية
…
ركبت المنى وخلعت الحذر
ولم أتجنب وعور الشعاب
…
ولا كبة اللهب المستعر
ومن لا يحب صعود الجبال
…
يعش أبد الدهر بين الحفر
فقد كنى عن الاجتهاد في المسعى بركوب المنى وأتبع تلك الكناية بأخرى تشد أزرها؛ وهي الاستهانة بالمخاطر ماثلة في نسيان الحذر، واجتياز الشعاب الوعرة، والسقوط في النيران المشتعلة، ثم ألهب شعور المتلقي إلى الاجتهاد في تحقيق الأماني والاستهانة بالمخاطر؛ فكنى عن نباهة الشأن بصمود الجبال، وعن الخمول بالعيش بين الحفر، وجعل عدم محبة النباهة سبيلًا إلى الضعة والخمول.
وهذا والحديث عن أثر العصر في صور البيان لا ينتهي إلى غاية، لكن نكتفي بهذا القدر.
التعريض
والكلام عن الكناية في الحقيقة يأخذنا إلى الحديث عن التعريض؛ لما بينهما من الروابط القوية، ولتكن بدايتنا في الحديث عن التعريض بتعريف التعريض.
تدور بعض استعمالات هذه المادة عرض حول التخفي والتحيل للأمر المراد، ففي (الصحاح) ذكر الجوهري أن التعريض خلاف التصريح قالوا: عرضت لفلان وبفلان إذا قلت قولًا وأنت تعنيه، ومنه المعاريض في الكلام، والعروض
الناحية، يقال: تعرض الجمل في الجبل، يعني أخذ في مسيره يمينًا وشمالًا لصعوبة الطريق، ولفلان عُرضة أي: ضرب من الحيلة، ونظرت إليه عن عرض أي: من جانب وناحية.
وهو عند البيانيين: المعنى الحاصل عند اللفظ لا به، فهو معنى يفهم من عرض الكلام وجوانبه، ومؤدى هذا التعريف أن المتلقي يدرك المعنى الذي يهدف إليه الأديب من سياق الكلام وقرائن الأحوال، لا من صريح اللفظ بوضعه اللغوي، ولا من استعماله في غير ما وضع له؛ استنادًا إلى قرينة، سواء أكانت هذه القرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي أو غير مانعة. ولما كان هذا هو مراد البيانيين من المفهوم المذكور فقد ضمنوه قيدين؛ الأول: هو قولهم: المعنى الحاصل عند اللفظ، وهو قيد قد يفيد العموم بحيث يشمل الحقيقة والمجاز والكناية، وإنما قلنا:"قد" بلفظ التقليل؛ لأن مَن يتأمل لفظ "عند" يدرك أنه يخرج هذه الثلاثة من مضمونه؛ لأن كلًّا منها يؤدي المعنى بلفظه لا عنده.
الأمر الثاني أو القيد الثاني هو قولهم: لا به إذ يخرج هذا القيد هذه الثلاثة -الحقيقة والمجاز والكناية- إخراجًا مؤكدًا؛ لأن المعنى يؤدى به صريحًا لا ضمنًا، وإذا خُرجت هذه الثلاثة من كنف التعريف بقي خاصًّا بالتعريض وحده، فإنه حاصل بغير اللفظ من طريق السياق وقرائن الأحوال، وهذا هو السر في تسميته تعريضًا؛ لأن المعنى يفهم من عرض الكلام أو جانبه. والتعريض بما سبق يتفق مع الكناية في أن كلًّا منهما معنًى يفهم من الكلام ولا تدل عليه الألفاظ دلالة حقيقية.
فقولنا مثلًا: فلان كثير الرماد، دل على معنى الكرم بطريق الكناية والتلازم بين معنى الكرم وكثرة الرماد، وليست دلالة كثرة الرماد على الكرم دلالة حقيقية،
وكذا قول المحتاج في خطاب الغني: والله إني لمحتاج وليس في يدي شيء، وأنا عُريان والبرد قد آذاني، فقد دل كل هذا على الطلب بطريق التعريض، فقد فهم من كلامه التعريض بطلبه، وليست دلالة كلامه على الطلب دلالة حقيقية.
ويفرق بينهما من ثلاثة وجوه:
الأول: أن الكناية واقعة على المجاز ومعدودة منه على ما هو الأرجح، بخلاف التعريض فلا يعد منه؛ لأن التعريض مفهوم من جهة السياق، فلا تعلق له باللفظ لا من جهة حقيقته ولا من جهة مجازه.
الثاني: أن الكناية تقع في اللفظ المفرد والألفاظ المركبة بخلاف التعريض؛ لأنه لا موقع له في اللفظ المفرد، السر في ذلك أن دلالة التعريض من جهة القرينة والإشارة والتلويح، وهذا لا يستقل به اللفظ المفرد، ولكنه إنما ينشأ من جهة التركيب، فلأجل هذا كان مختصًّا بالوقوع فيه، ولهذا لا يقال هذه الكلمة تعريض كما يقال هذه الكلمة حقيقة أو مجاز أو كناية.
الأمر الثالث: أن التعريض أخفى من الكناية؛ لأن دلالة الكناية مدلولة عليها من جهة اللفظ، بخلاف التعريض، فإنما دلالته من جهة القرينة والإشارة، ولا شك أن كلما كان اللفظ يدل عليه فهو واضح، ومن أجل هذا فرَّق علماء الشريعة بين صريح القذف وكنايته وتعريضه، فأوجبوا في الصريح من القذف الحد مطلقًا في قول القاذف مثلًا: يا زاني، فأوجبوا في كنايته الحد إذا نوى في مثل قول القاذف مثلًا: يا فاعل الخطيئة، ولم يوجبوا في التعريض الحد في مثل قوله مثلًا: يا ولد الحلال؛ وما ذاك إلا لأجل أن الصريح والكناية يدلان على القذف من جهة اللفظ إما بالحقيقة أو المجاز خلافًا للتعريض.
والتعريض بهذا أخص من الكناية، فكل تعريض كناية وليس كل كناية تعريضًا. فالكناية إذن أعم من التعريض.
كذلك نلحظ في الفرق بين الكناية والتعريض: أن التلازم بين المعنى التعريضي والمعنى الحقيقي للألفاظ يرجع إلى المواقف الخاصة التي يقال فيها الكلام، أما التلازم بين المعنى المكني به والمعنى المكني عنه، فمرجعه إلى العرف والعادات وطبائع الأشياء وخصوصيات الأفعال على نحو ما مر بنا.
ولنضرب للتعريض بعضًا من النماذج؛ حتى تتضح صورته أكثرَ فأكثر: من روائع التعريض بأسلوب الحقيقة ما يورده القرآن في أعقاب ما يقدمه من الأدلة، التي تدل من استقامت فطرته على ما يقضي به النظر الدقيق في تلك الأدلة، من مثال قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) فقوله: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} تعريض لافت بنفي العقل عمن لا يصل به التأمل في هذه الأدلة الكونية إلى وحدانية الله تعالى، وتفرده بالألوهية، والأسلوب كما لا يخفى جارٍ على منهج الحقيقة وليس من قبيل الكناية أو المجاز بصفة عامة.
فالمعنى الصريح لهذا القول الكريم أن أصحاب العقول يجدون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار أدلةً واضحةً على وجود الله ووحدانيته، وفيه إلى جانب ذلك إيماء إلى نفي العقول عمن لا تدله عليه، وربما كان هذا المعنى هو ما ترمي إليه الآية الشريفة فهو المعنى يتراءى لنا من خلال السياق.
ومن التعريض بأسلوب المجاز أن يقول امرؤ لمخاطبه: إنك لا تجني من الشوك العنب، والمعنى الذي يحمله هذا القول الجاري على نسق الاستعارة التمثيلية، أن ذلك المخاطب لا يحصل من عمل سيئ على نتائج مرغوبة، ولكن هذا المعنى مطروح غير منظور إليه، وإنما الغرض المستهدف منه هو رمي إنسان معين بأنه يسيء العمل، ومن المستحيل أن يحصل الخير على يديه.
ومن التعريض بأسلوب الكناية قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28) فالمعنى الصريح لهذا النص القرآني قَصْر خشية الله على العلماء، ومن لوازم هذا المعنى نفي الخشية عن كل جاهلٍ مبالغةً، وسوق هذا النص في مواجهة من يقدموا على معصية الله تعريض بجهله وعدم معرفته بجلال الله وعظمة سلطانه؛ إذ إن مدار الخشية معرفة المخشي والعلم بشئونه.
ومن روائع التعريض بالمعنى الكنائي أن يسوق المتكلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده)) في مواجهة من لا يتورع عن إيذاء المسلمين بأنواع الأذى على اختلافها، والمعنى الصريح لهذا الحديث الشريف حَصْر الإسلام في غير المؤذي، وهذا يستلزم نفي الإسلام مبالغةً عن كل مؤذ وهو المعنى الكنائي، ولكن المعنى الصريح وما هو لازم له ليس في مرمى المتكلم، وإنما المرمى الذي يوجه نظره هو وصم هذا المؤذي بنقيصة نفي الإسلام عنه.
ومن الأمثلة التي يتراءى التعريض من خلالها، نرى أنه يجري في أنواع الأساليب المختلفة ما كان منها حقيقة وما كان منها مجازًا أو كنايةً، وإنما يتم ذلك بتوجيهها الوجهة التي يتوخاها الأديب، وإلا فإنها تقف عند دلالتها التي هي الأصل في استعمالها، وهذا ينتهي بنا إلى القول: بأن الكناية تكون، ولا تعريض والتعريض يكون ولا كناية.
من روائع التعريض قول الله تعالى يحكي عن قوم نوح: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: 27) فظاهر العبارة يحكي أنهم لم يروا إلى جانبه شيئًا من أمارات النبوة فهو بشر مثلهم،
وأتباعه من سفلة القوم في زعمهم، أما باطن العبارة فهو يعني شيئًا آخر، ربما كان -والله أعلم- متمثلًا في رمي أتباع نوح بالغباء والغفلة والسخرية منهم؛ لقصورهم في التفكير حيث ذهبوا إلى منافاة النبوة للبشرية، وإلى الربط بين الفقر والإيمان بدعوة نوح عليه السلام أو اصطفائه من بينهم ليكون أحدَ أولي العزم من الرسل، ولم يدركوا أن النبوة اختيار من الله لمن يهيئه للنهوض بأعباء الدعوة ومواجهة الصعاب، وأن الفقر لا يمنع أن يكون الإنسان ذا نفس طاهرة ترتفع بصاحبها إلى أعلى درجات الأبرار، وترقَى به إلى أشرف مراتب القرب من بارئ السموات والأرض.
ومن روائع التعريض قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) وقد يخيل لمن تقع على مسامعه هذه الجملة أن الله يحذِّر نبيه من الشرك إنذارًا يبلغ منتهاه في الشدة بإيقاعه في سياق القسم، لكن مَن ينعم النظر يدرك أن وراء هذا الظاهر أمرًا آخر ربما كان -وهو أعلم بمراده- تحذير مَن تحدثه نفسه بالشرك من قومه، إذ كيف يتصور عاقل أن يحدث الشرك ممن كلف بدعوة الناس إلى توحيد المعبود، واختصاصه بإخلاص القلب والنهوض بتكاليفه التي جعلها مظهر العبودية والتفرد بالتقديس.
وقد يهجس بالقلب خاطر مؤداه: وإذا لم يكن يتصور حدوث الشرك من النبي المرسل فَلِمَ كان التحذير موجهًا إليه في خاصة نفسه؟ أو بعبارة أخرى: فلم لم يكن التحذير من الشرك موجهًا إلى مَن قُصدوا به مباشرة؟ الذي يبدو لنا في هذا الصدد أن ذلك ضرب من اللطف في إذكاء النفوس، وحفز للفكر والتعمق، وذلك بأن يراجع الإنسان نفسه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائم بأمر الدعوة يتعرض لإحباط عمله وبطلانه، ويقع تحت طائلة الخسران لذلك، فما يكون أمر غيره
ممن ليس في رتبته؟!! وهنا تميل نفسه إلى السلوك القويم، وتوجيه الطاعة إلى الله، وإفراده بالألوهية.
ومن لطيف ما ورد في السنة من هذا النسق قوله صلى الله عليه وسلم وقد خرج محتضنًا أحد ابني فاطمة الزهراء رضي الله عنها: ((والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون، وإنكما لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطأها الله بوَجِن)) وجن هذا موضع بالطائف، فظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم:((إنكما لمن ريحان الله)) بيان شدة حبه لسِبطيه، لكن وراء هذا المعنى القريب المباشر معنى آخر يتوارى وراءه، وهو -والله أعلم بمراده صلى الله عليه وسلم حفز المؤمنين إلى البر بهما، والمودة لهما، وإخلاص الطوية في محبتهما، كما أن ظاهر قوله عليه السلام:((وإن آخر وطأة وطأها الله بوجن)) أن آخر غزوة يواجه فيها المسلمون أعداء الله هي ما كان على مقربة من ذلك الموضع من الطائف، وهي غزوة حُنين، ولكن ثمة فيما يبدو معنى آخر يؤكده عدم خروجه صلى الله عليه وسلم مع الجيش الإسلامي في معركة أخرى بعدها، مما يعني أن قوله هذا كان إيماء إلى نعيه -صلوات الله وسلامه عليه-.
ومن روائع التعريض ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة؛ إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر: "أي ساعة هذه؟! قال: إني شُغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت، فقال: والوضوء؟! ". فهذا الاستفهام الإنكاري لتأخر هذا الصحابي الجليل يحمل في طياته تعريضًا بتركه ما يجمل به وهو من المهاجرين الأولين.
فقد قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار، ومن مثله قال النووي: ويبدو لنا من هذا أن التوبيخ على التأخر يحمل
في طيه تعريضًا بما هو من غير الوضوء، مما هو داخل في فضائل الأعمال كالتبكير إلى صلاة الجمعة، وعمل المسنونات من الغسل، والجلوس في الصف الأول بحيث لا يتخطى أحدًا. قال ابن حجر: ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها، وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف، وهذا من أحسن التعريضات.
ومن أرق ما حملته عبارة الأدباء الذين تملكوا زمام اللغة ما رواه أبو هلال العسكري؛ من أن عمرو بن مسعدة الكاتب سطَرَ رسالة إلى المأمون قال فيها: أما بعد، فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطول عليه في إلحاقه بنظرائه من الخاصة. يعني: أنه لم يصل بعد إلى هذه المرتبة من القرب والوجاهة التي تمكنه من الشفاعة. يقول: فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفع بهم، وفي ابتدائه بذلك -يعني بفعل هذا الاستشفاع والقيام به- تعدي طاعته والسلام.
تلك كانت كلمات الرسالة، وفي ثناياها تلك العبارة الرائعة التي حملت تعريضًا بالتماس أن يكون له من القرب من سُدة الخلافة ما يجعله أهلًا للشفاعة، عندما يلجأ إليه مَن يتطلع إلى قضاء حاجته على يديه، وقد فطِن المأمون إلى ذلك التلويح، فَذَيَّل الرسالة بتلك التوقيعة التي تلبي ما حملته تصريحًا وما تضمنته تلويحًا وهي قوله: قد عرفنا تصريحك له وتعريضك بنفسك، وأجبناك إليهما ووافقناك عليهما.
ومما جاء على صورة التعريض في أشعار العرب قول العباس بن الأحنف:
كان لي قلب أعيش به
…
فاكتوى بالنار فاحترقا
أنا لم أرزق محبتها
…
إنما للعبد ما رزقا
فصريح الشطر الأول في البيت الأخير نفي رزق محبتها عن نفسه، وهو يومئ إلى أن غيره قد رزق تلك المحبة وكان ذلك مدرجة إلى تسلية نفسه، فقال: "إنما للعبد
ما رزقا"، وفيه تعريض بما ينبغي له من صرف نفسه عن التطلع إليها والتصبر عنها. قال عبد القاهر: الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطمع من وصلها، وييأس من أن يكون منها إسعاف.
ومما جاء على هذا النسق -نسق التعريض- ما قاله الشاعر علي بن الحسن:
ما أنت بالسبب الضعيف
…
وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك وإنما
…
يدعَى الطبيب لساعة الأوصاب
ففي البيت الأول نفى الشاعر عن ممدوحه أن يكون سببًا ضعيفًا لتحقيق ما يؤمل، ثم أردف ذلك بقصر النجح في الأمور على القوي من الأسباب، وفي هذا تعريض بأنه خليق بأن يظفر بما أمَّله، ثم بين شدة حاجته إليه في اليوم الذي وقف فيه بين يديه، ومثل اللجوء إليه عند الحاجة باللجوء إلى الطبيب عند المرض، وتوسل إلى ترقيق قلبه عليه بإفراغ ذلك في إطار القصر، وفي ذلك تلويح بأنه خليق به أن يرق له ويحقق ما يؤمل فيه. وهذا ما أوجزه عبد القاهر بقوله في تحليل البيتين، يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليَّ. ويقول في الثاني: إنا قد وضعنا الشيء في موضعه وطلبنا الأمر من جهته حين استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة، وعولنا على فضلك كما أن مَن عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في التعويل موضعه، وطلب الشيء من معدنه.
ومن روائع هذا الضرب من فنون القول ما جاء في قول الله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} (الأنبياء: 62، 63) فإنما أورد إبراهيم -صلوات الله عليه- هذا الكلام على جهة التهكم والاستهزاء والسخرية بعقولهم، وذلك إنما يكون من وجهين:
الأول: أنه لم يرِد نسبة الفعل إلى كبير الأصنام وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على رمز خفي ومسلك تعريض، يبلغ به إلزام الحجة لهم والتسفيه لحلومهم كأنه قال: يا ضعفاء العقول، ويا جهال البرية، كيف تعبدون ما لا يجيب إن سئل، ولا ينطق إن كلم، وتجعلونه شريكًا لمن له الخلق والأمر، فوَضَعَ قوله:{اسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} موضع هذا.
الأمر الثاني: أن يقال: أن كبير الأصنام غضب لما عبد معه غيره من هذه الأصنام الصغار، فكسرها هذا الصنم الكبير، وغرض إبراهيم بذلك أن يعرض بهم في كونهم قد أشركوا في العبادة مَن هو دون الله، وأن من دونه مخلوق حقير من مخلوقاته، فوضع هذا الكلام لفاحش ما أتوا به وعظيم ما تلبسوا به من عبادة غير الله، وهذا التعريض لم يدل عليه اللفظ بل دل عليه السياق وقرائن الأحوال، وهذا ما قصد إليه الزمخشري حينما قال: هذا من معاريض الكلام، وقَصْدُ إبراهيم عليه السلام لم يكن أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة ومن تبكيتهم.
وفي هذا يقول الجمل صاحب التفسير المشهور: هذا على طريقة الكناية العرضية، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للتكسير وإثباته لنفسه، وهذا بناء على أن الفعل وهو الكسر دائر بين عاجز وهو ذلك الصنم وقادر وهو إبراهيم، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه وعاجز عنه وأُثبت للعاجز بطريق التهكم به، لزم انحساره في الآخر، وحاصله أنه أشار إلى نفسه على الوجه الأبلغ مضمنًا فيه الاستهزاء.
ومن التعريض البديع قول الله تعالى فيما حكاه على لسان الحواريين: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 112) فكان غرضهم طلب المعجزة، فعرضوا
بالاستفهام عن استطاعة الرب لإنزال المائدة، فلما قال لهم عيسى:{اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: 113) فعرضوا بذلك كله وقربوه من التصريح ولم يصرحوا فتحقق عند عيسى عليه السلام مرادهم، فقال:{اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} (المائدة: 114).
فدعا باسمه العظيم الجامع وأردفه بقوله: {رَبَّنَا} لقولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وعمم الرب؛ إذ لا يستطيع ذلك إلا الله، فسأل الله المائدة وأن تكون عيدًا، ففي ضمن هذا تصديقهم له وهو من التعريض البديع، وسأل أن تكون آية وذلك بما لا يصح أن يكون إلا للأنبياء. ثم قال:{وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} تعريضًا بطلب ما سألوه من الأكل منها؛ لأنه من الجائز أن كان أنزل عليهم مائدة وحظََر عليهم الأكلَ منها.
ويدخل في باب التعريض قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (المؤمنون: 115) فالاستفهام هنا ورد على سبيل الإنكار، لكنه تعريض بالكفار في إنكار الرجعة والمعاد الأخروي، وليس ذلك من جهة اللفظ وإنما من جهة القرينة، أن هذا قوله تعالى حكاية عن المنافقين في غزوة تبوك:{وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} (التوبة: 81) فازدياد حر جهنم وكونه أشد من حر الدنيا معلوم لدى المخاطبين بالقرآن، ولا معنى لذكره والتنبه عليه، لكن الغرض الحقيقي من هذا الكلام، هو التعريض بهؤلاء المتخلفين عن القتال المعتذرين بشدة الحر، بأنهم سيردون جهنم ويردون حرها الذي لا يوصف. ومن هذا قوله تعالى:{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19) هو تعريض كذلك بالكفار الذين لم يتذكروا وأعرضوا عن الدعوة.
ومما يروَى من بديع التعريض: أن امرأة وقفت على قيس بن عبادة فقالت: أشكو إليك قلة الفأر في بيتي فقال: ما أحسن ما ورت عن حاجتها، املئوا بيتها خبزًا وسمنًا ولحمًا. ومثله ما روي: أن عجوزًا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت له: يا أمير المؤمنين، مشت جرذان بيتي على العصي -والجرذان إنما هي ذكور الفئران- فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثب الفهود. وملأ بيتها حبًّا. فقد فهم قيس بن عبادة وسليمان بن عبد الملك ما تريد كلتا المرأتين لا من اللفظ، ولكن من حالهما وطريقة إخبارهما، وكونهما المقصودين وقدرتهما على إغاثة الملهوف وذلك هو السياق، فلو أن هذا القول قد صدَرَ من غير محتاج أو كان المخاطب بها ليس أهلًا لقضاء الحاجات، لكانت هذه الأقوال من قبيل الحقيقة وليس من قبيل التعريض.
وأجمل مواقع إنما يكون في التعريض كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} (فاطر: 18) فالمراد التعريض بمن لا يخشون الله، والإشارة إلى أن إنذار هؤلاء لا يجدي فإنذارهم مثل عدمه. ومنه التعريض بخِطبة المرأة كأن يقول الرجل مثلًا: والله إنك لجميلة، ولعل الله أن يرزقك بعلًا صالحًا، وإني لفي حاجة إلى امرأة صالحة. وقد جعل الله التعريض بخطبة النساء جائزًا في عدتها دون التصريح، حيث قال -جل وعلا-:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (البقرة: 235).
وعلى ما سبق ذكره آنفًا، فقد يجتمع التعريض والكناية التعبير الواحد وتسمى الكناية عندئذ بالكناية التعريضية أو العرضية. من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))، فقد أفاد الحديث الشريف حَصْرَ الإسلام فيمن سلم المسلمون من أذاه، وهذا يستلزم نفي الإسلام عن كل مَن
يؤذي المسلمين، وهو المعنى المكنى عنه، وإذا كان الحديث في مقام يوجد فيه مَن يُعرف بإيذاء المسلمين فقد فهم من عرض الكلام وجانبه التعريضُ بذلك المؤذي.
ومن ذلك قوله عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة: 2، 3) فإذا فسر الغيب في الآية بالغيبة عن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون المعنى المصرح به ثبوت الهداية للمتقين الذين آمنوا بالله ورسله وقت حضورهم ووقت غيبتهم عنه، وهذا يستلزم إخلاصهم في العقيدة والعبادة وهو المعنى المكنى به، وفي الآية مع ذلك تعريض بهؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإسلام وقتَ حضورِهم، فإذا ما غابوا وخلوا إلى شياطينهم:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14).
من ذلك أيضًا قول المتنبي في التعريض بنفي الصدق عن فتاته:
تشتكي ما اشتكيت من ألم
…
الشوق إليها والشوق حيث النحول
فقوله: "والشوق حيث النحول"، يفيد حصر الشوق في الجسم النحيل، وهذا يستلزم نفي الشوق عن الجسم السمين الممتلئ؛ لأن سِمن الجسم في عرف أهل الهوى والعشق يستلزم الخلو من الشوق، فالمعنى المكنى عنه هو نفي نسبة الشوق إلى صاحب الجسم السمين، وفي هذا تعريض بنفي الشوق عن فتاته حيث تدعيه، وقد سمن جسمها وامتلأ لحمها، فهي كاذبة في ادعائها.
ومثله قول الآخر:
يلوم في الحب من لا يدري طعم هوى
…
وإنما يعذر العشاق من عشق
فهو يفيد أن اللوم يقع على العشاق من الذين لم يعرفوا الهوى، ولم يذوقوا طعم الحب، ولم يكتووا بنار العشق، وهذا يستلزم نفي اللوم عن أهل الهوى، فالمعنى المكنى عنه هو نفي نسبة اللوم إلى العشاق وأصحاب الغرام، كما يؤكد