الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاصةً وأن الكل قد ورد في النظم الكريم، فالأولى أن يقال: إن كل نوع منها حسن في موضعه، أما ما يستقبح فهو أن تطول الفقرة الثانية عن الأولى كثيرًا، بحيث يخرج بها هذا الطولُ عن حد الاعتدال؛ لأن هذا يفوت على السامع لذةَ الاستمتاع بالقافية لبُعدها بعدًا كثيرًا، كما يقبح أن تقصر الثانية عن الأولى قصرًا كثيرًا؛ لأن السجع إذا استوفَى أمدَه من الأولى لطولها، ثم جاءت الثانية أقصر منها كثيرًا، كان ذلك كالشيء المبتور، ويبقَى السامع كمَن يريد الانتهاء إلى غاية، فيعثر دونها، ومن ثَم لم يرد شيء من ذلك في أساليب النظم الكريم.
بلاغة السجع
وننهي كلامنا بالحديث عن بلاغة السجع، ونقول:
إن بلاغة السجع ترجع إلى أنه يؤثر في النفوس تأثيرَ السحر، ويلعب بالأفهام لعبَ الريح بالهشيم؛ لِمَا يحدثه من النغمة المؤثرة، والموسيقى القوية التي تطرب لها الأذن، وتَهش لها النفس، فتُقبل على السماع من غير أن يداخلها مَلل، أو يخالطها فتور، فيتمكن المعنى في الأذهان، ويَقر في الأفكار، ويَعز لدى العقول. ولَمَّا قيل للرقاشي:"لِمَ تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامةَ الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنتُ لا آمُل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليه، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابرَ، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلت". وهكذا، فالسجع له فائدة كبرى على النثر العربي، فهو يساعد على حفظ الخطاب والحكم والأمثال، ذلك أن انتهاء الجمل بحرف واحد أو حرفين أو أكثر يجعل الأذنَ تَهش له، والقلب يميل إليه.
ومن هنا فقد اشترط البلاغيون لتمام السجع سكون أواخر الفقر، فقال الخطيب:"واعلم أن فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنةَ الأعجاز، موقوفًا عليها؛ لأن الغرض أن يزاوَج بينها، ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف". من ذلك أول سورة الفجر يقول تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 1 - 14) فتسكين أواخر الراء وأواخر الدال كي يظهر السجعُ، ولو حركتَ حرف الراء والدال فات الغرض من السجع.
ربما يحذف حرف أو يُزاد حرف لأجل السجع، ويظهر ذلك جليًّا في آيات سورة الفجر السابقة فحذف حرف الياء من الفعل:{يَسْرِ} بدون جزم دال على ذلك، وذلك لتمام الفاصلة، وحذف كذلك حرفَ الياء أيضًا من الاسم:{الْوَادِ} لنفس الغرض، وحذف الياء كثير في القرآن مثل:{هَادٍ} (الرعد: 33){وَالٍ} (الرعد: 11){مَآبٍ} (الرعد: 29) في سورة الرعد، وأصلها: هادي، والي، مآبي، حُذفت هذه الحروف؛ لمراعاة الفاصلة. ومثل ذلك أيضًا:{دِينِ} في سورة الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) وأصلها: ديني، فحُذفت الياء؛ مراعاةً للفاصلة.
وربما غير العرب الكلمةَ عن وضعها الصرفي؛ وذلك طلبًا للسجع والتوازن الإيقاعي بين طرفي الجملة، وذلك مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم يرقي سِبطيه:
((أُعيذكما بكلمات الله التامة، من الهَامة والسامة، والعين اللامة))، فاللامة أصلها المُلمة من: ألَمَّ، فعبر بها لموافقتها ما قبلها، ومثله قوله للنساء صلى الله عليه وسلم:((ارجعن مأزورات غير مأجورات))، والأصل: مأزورات من الوزر، لكنه قال ذلك لمكان:((مأجورات)). وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ المال سِكة مأبورة، أو مُهرة مأمورة))، فالسكة: الطريقة من النخل، ومأبورة أي: ملقحة، ((ومهرة مأمورة)) أي: كثيرة النسل، وكان يجب أن يقال: مؤمَّرة؛ لأنه مِن: آمرها الله، ولكنه أتبعها قوله:((مأبورة)) كقولهم: إنه ليأتينا بالغدايا والعشايا.
كما أن من مزايا السجع في النظم الكريم: شدة ارتباط الفاصلة وتماسكها بما قبلها من الكلام، بحيث تنحدر على الأسجاع انحدارًا، وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيدا لها، وبحيث لو حذفت لاختل معنى الكلام، ولو سُكِتَ عنها لاستطاع السامع أن يختمه بها؛ انسياقًا مع الطبع والذوق السليم. مثلًا: قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} (النجم: 19 - 22) تجد أن كلمة: {ضِيزَى} الواقعة في الفاصلة تتماسك مع المعنى، وتنحدر على الأسجاع، وتنساق مع السياق انسياقًا تامًّا، وهي لفظة غريبة، ولكن غرابتها من أشد الأشياء ملاءمةً لغرابة تلك القِسمة التي أنكرها النظم الكريم. وهذا هو شأن الفواصل في جميع آي الذكر الحكيم. كما تتبدى بلاغة السجع: إذا خرج عفوًا غير مستكره ولا مستجلب، بل يأتي والكلام مطابق لمقتضى الحال، ويتمثل ذلك في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة الشريفة، وحِكم وأمثال العرب، وخطب الخلفاء الراشدين، ومَن سار سيرهم.
مثلًا قول الله تعالى في سورة القمر، فكل آية آخرها حرف راء -وهناك ست آيات آخرها حرف الراء- هذه الراء بعدها ياء المتكلم، وهي:{عَذَابِي وَنُذُرِ} (القمر: 18)
وحذفت الياء لأغراض، منها: رعاية الفاصلة التي بُنيت على حرف الراء، وحذفها لدلالة ياء المتكلم الموجودة في الكلمة قبلها:{عَذَابِي} عليه. ومنها: قَطْع الكلمة عند حرف الراء للتخويف والترهيب، فهو نذر عظيم لا يقادر قدره، ولا يحاط وصفه، فحذف الياء جاء للتوافق الصوتي مع الآيات السابقة واللاحقة، والقرآن الكريم قِمة في ذلك، إذ هو يحرص على توافق التنغيم الصوتي بقدر حرصه على مراعاة الأحوال والمقتضيات. ولنأخذ مثلًا قول الله تعالى:{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8) فالمصدر للفعل: تبتل تبتلًا على وزن "تفعّل" ومع هذا جاء على تبتيلًا بزنة "تفعيل"؛ وذلك مراعاةً للفاصلة، ويدل على أنه ينبغي له تجريد نفسه عما سواه، ومجاهدته، فلذا ذكر التبتيل الدال على فعله بخلاف التبتل، فإنه لا يدل إلا على قَبول الفعل كالانفعال.
ومثل ذلك أيضًا ما جاء في قول الله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الأحزاب: 10) فكلمة: {الظُّنُونَا} زيد في آخرها الألف؛ مراعاةً لحق الفاصلة. ومثله كذلك: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} (الأحزاب: 66). وكذلك نجد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المحسن جاء غيرَ متكلف، فانظر مثلًا إلى قوله صلى الله عليه وسلم:((أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))، وكذا قوله مخاطبًا الأنصارَ:((أما والله ما علمتُكم إلا لتقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع)). هكذا نجد سهولةَ السجع أو الفاصلةَ في القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا تبدو بلاغة هذا السجع في هذه الألوان من النثر.
إلى هنا ينتهي لقاؤنا، وإلى لقاء آخر مع لون آخر من ألوان البديع، إلى الملتقى، استودعكم الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.