الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم البيان
بقي أن نتكلم عن علم البيان الذي هو موضوع حديثنا، فنعرج على تعريفه، ونتكلم عن مرجع تفاوت دلالته اللفظية وأدواته:
البيان كما هو معلوم نعمة امتن الله بها على عباده حيث قال جل وعلا: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: 1 - 4) فهو بهذا التعليم تميز عن كثير من الخلق، وصار ناطقًا مبينًا يستطيع أن يعبِّر عما يجول بخاطره من المعاني، وأن يوصلها إلى غيره من البشر، ويتلقاها الغير عنه؛ فيتم التفاهم، وتتحقق السعادة بين البشر.
والبيان في اللغة يعني: الظهور، والوضوح، والإفصاح، يقال: بان الشيء بيانًا أي: اتضح، وأبنته أوضحته، واستبان الشيء أي: ظهر، وبان الصبح لذي عينين أي: ظهر ووضح، والبيان الفصاحة والإفصاح مع ذكاء، والبيِّن من الرجال السمح اللسان، الفصيح الظريف، العالي الكلام، في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكم)) قال ابن عباس: "البيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللسن، وأصله الكشف والظهور"، هذا الكلام ذكره صاحب (لسان العرب) في مادة بين.
البيان عند الجاحظ: "اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، حتى يُفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله"، وهو لدى الرماني "الإحضار لما يظهر به تمييز الشيء من غيره في الإدراك"، أرى عبد القاهر أنه من مقتضيات النظم، فهو به يكون وعنه يحدث، ومحصلة كل ذلك أن البيان بمعناه اللغوي، أو المعنى العام، أو الأدبي يعني: التعبير عما يدور في الذهن، وتحسن به النفس بأسلوب فني رائع، أو هو المميزات التي يتفاضل بها الأدباء والشعراء، ويظهر بها فضل كلام على كلام.
وهو بهذا المعنى يشمل علوم البلاغة الثلاثة المعاني والبيان والبديع، ويرادف الفصاحة والبلاغة والبراعة التي أدرجها جميعًا عبد القاهر تحت مسمى، أو باب واحد. هذا كله كلام في معنى البيان لكن بمعناه الواسع، أو بمعناه اللغوي.
البلاغيون لهم اصطلاح في تعريف البيان، فما هو تعريف البيان في اصطلاح البلاغيين قالوا:"إنه العلم الذي به يُعرف إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه" وهو بهذا يتميز عن علم المعاني الذي يُعرف به أحول اللفظ العربي، التي بها يطابق مقتضى الحال، كما يتميز عن علم البديع الذي يبحث في وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة، ووضوح الدلالة، وقبل أن نتناول تعريف علم البيان بالشرح يروق لنا أن نسوق هذه الأمثلة؛ ليتكشف لنا علم البيان والمجال الذي يختص به دون سواه، أذكر بعض أبيات في معنًى واحد ينطبق عليها التعريف، أتت بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، على هذا المعنى الواحد يقول الشاعر الحماسي:
هم البحور عطاء حين تسألهم
…
وفي اللقاء إذا تلقى بهم بُهُم
شاعر آخر هو بديع الزمان الهمذاني يقول:
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا
…
لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهب
يقول أبو نواس:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت
…
إلى نداك فقاسته بما فيها
وتقول الخنساء:
وكنت إذا كفٌّ أتتك عديمة
…
ترجِّي نوالًا من سحابك بلتي
يقول شاعر آخر هو الفرزدق:
أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي
…
متى تُخلف الجوزاء والدلو يمطر
يقول البحتري:
وصاعقة من نصله تنكفي بها
…
على أرأس الأقران خمسً سحائب
يقول آخر:
يزكون نار القرى في كل شاهقة
…
يًلقى بها المندل الهندي محطوما
يقول آخر:
وما يك في من عيب فإني
…
جبان الكلب مهزول الفصيل
تقول أيضًا الخنساء في بيت ترثي فيها أخاها صخر:
طويل النجاد رفيع العماد
…
كثير الرماد إذا ما شتى
ويقول أبو نواس:
فما جازه جود ولا حلَّ دونه
…
ولكن يصير الجود حيث يصير
أنت واجد الأبيات العشرة جميعها في معنى واحد هو الكرم، هذا هو معنى واحد جمع بين هذه العشرة أبيات، لكنك تلحظ في كل بيت له ما يميزه عن سواه، فالبيت الأول جاء على هيئة تشبيه حُذف أداته:
هم البحور عطاء حين تسألهم
…
...............................
حذفت الأداة، وهذا يسمى بالتشبيه المؤكد.
يقول:
هم البحور عطاء حين تسألهم
…
وفي اللقاء إذا تلقى بهم بُهُم
فهنا البيت جاء على صورة التشبيه،
البيت الثاني فيه تشبيه بعيد يقول فيه الشاعر:
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا
…
لو كان طلق المحيا يمطر الذهب
هذا التشبيه البعيد إنما كان هكذا غريبًا وبعيدًا؛ لأنه أتى بأسلوب شرط ميز فيه كرم الممدوح عن الغيث، يقول: يكاد يحكيك يعني: يشبهك.
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا
…
..................................
جعل كرمه أو عطاؤه هو المشبه، وصوب الغيث هو المشبه به يعني: تشبيه مقلوب لذلك كانت فيه مبالغة، وكان فيه شرط
................................
…
لو كان طلق المحيا يمطر الذهب
فهذا البُعد جاء من أسلوب الشرط الذي احتواه هذا البيت، كما جاء كذلك من التشبيه المقلوب، حينما جعل المشبه مشبهًا به والمشبه به مشبه، نجد البيت الثالث يقول فيه الشاعر:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت
…
إلى نداك فقاسته بما فيها
هذا تشبيه ضمني، حيث فُهم التشبيه من خلال فحوى الكلام، فيه يشبه الشاعر الممدوح بالسحاب، ولُمح فيه الطرفان من المعنى وبما تضمنه السياق، ودون ما تصريح في المشبه أو المشبه به.
البيت الرابع الذي يقول فيه الشاعر:
وكنت إذا كفٌّ أتتك عديمةً
…
ترجِّي نوالًا من سحابك بُلَّتي
فيه مجاز مرسل، هذا علاقته الجزئية حيث عبر بالكفِّ "وكنت إذا كف أتتك"، وأراد بهذا الكف الإنسان المعدم، فما أن مُدَّت إلى الممدوح إلا ونادت بالعطاء.
البيت التالي هو يقول فيه الفرزدق:
أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي
…
متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر
هذا البيت فيه استعارة مرشحة حيث ذكر ما يلائم المستعار منه، وهو قوله "يمطر"، وفي البيت نجد أنه بالغ في المدح أبيه صعصعة، فجعله أحمد الغيثين يعني: أفضل من الغيث الذي ينزل من السماء، وأكثر منه كرمًا، وندى، وعطاء، هذه مبالغة تُحمد للشاعر، والشعراء كما نعرف {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء: 225).
البيت الثالثة يقول فيه البحتري:
وصاعقة من نصله تنكفي بها
…
على أرأس الأقران خمس سحائب
فتجد فيها استعارة تصريحية؛ لأنه شبه أصابع الممدوح بالسحاب، وحذف المشبه، وصرح بلفظ المشبه به، لكن هذه الاستعارة تميزت بأن قرائنها قد تعددت والتأمت؛ بحيث لا تصلح إلا هكذا مجتمعة، ذلك أنه استعار السحائب لأصابع الممدوح بجامع الجود والعطاء، ثم جعل القرينة ما ذكره من وجود صاعقة ناشئة من نصل سيفه تنقلب على رءوس أقرانه من الأعداء، ثم جعل الذي يقلبها عدده خمسة هي عدد أصابع يده.
البيت السابع الذي يقول فيه الشاعر:
يزكون نار القرى في كل شاهقة
…
يلقى بها المندل الهندي محطوما
نجد أن فيه كناية قريبة عن الكرم؛ لأن إذكاء النيران في الأماكن العالية لإرشاد الضيوف، علامة كرم، العلاقة هنا علاقة تلازم؛ حيث عُرف هذا عن العرب، والمندل الهندي عود طيب الرائحة يُستجلب من الهند، والمحطوم يعني: المكسور.
البيت التالي وهو البيت الثامن:
وما يك في من عيب فإني
…
جبان الكلب مهزول الفصيل
تجد أنه أيضًا كناية عن صفة، لكنها كناية بعيدة؛ لأنه انتقل من جبن الكلب إلى الكرم، بوسائط فجبن الكلب من النباح يستلزم استمرار تأديبه، وهذا يستلزم دوام مشاهدته، وهذا يستلزم أن صاحبه أضحى مقصد الداني والقاصي، هذا كله دالٌّ على جوده وكرمه، مهزول الفصيل الفصيل هو ولد الناقة، وهزاله بحرمانه من لبنها؛ لنحرها للضيوف أو إطعامهم لبنها، إيثار الضيوف بها على الفصيل.
قريب من ذلك بيت الخنساء التي تقول فيه:
طويل النجاد رفيع العماد
…
كثير الرماد
هذا محل الشاهد.
..................................
…
كثير الرماد إذا ما شتى
فكثرة الرماد هذه كناية عن الكرم والجود؛ لأن كثرة الرماد، إنما تأتي من كثرة إحراق الحطب، وهذا يستلزم كثرة ما يُطبخ، وهذا يستلزم كرم الممدوح، ومدى الجود الذي يفيض به على الناس في إيثار الخنساء لكلمة "إذا ما شتى" دلالة على المبالغة في الكرم؛ لأنه وقت تشتد فيه حاجة المحتاجين.
نجد في البيت الأخير يقول الشاعر:
فما جازه جود ولا حل دونه
…
ولكن يصير الجود حيث يصير
هذه كناية عن نسبة حيث كنى عن نسبة الجود إلى الممدوح بإثباته للمكان الذي يوجد به، ويحل فيه، فلا يتجاوزه، ولا يحل دونه.
أقرأ مرة أخرى الأبيات العشرة في معنى الكرم؛ لنعرف معنى إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة: الأبيات العشرة:
هم البحور عطاء حين تسألهم
…
وفي اللقاء إذا تلقى بهم بهم
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا
…
لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهب
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت
…
إلى نداك فقاسته بما فيها
وكنت إذا كف أتتك عديمة
…
ترجي نوالًا من سحابك بلتي
…
سحابك بلتي
أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي
…
متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر
وصاعقة من نصله تنكفي بها
…
على أرأس الأقران خمس سحائب
يزكون نار القرى في كل شاهقة
…
يلقى بها المندل الهندي محطوما
وما يك في من عيب فإني
…
جبان الكلب مهزول الفصيل
طويل النجاد رفيع العماد
…
كثير الرماد إذا ما شتى
فما جازه جود ولا حل دونه
…
ولكن يصير الجود حيث يصير
هكذا نجد المعنى الواحد وهو الكرم يتعدد، ويأتي في صور مختلفة، أو في طرق مختلفة مع وضوح الدلالة على معنى الكرم، ولعله قد وضح أمامنا الآن من خلال التمثيل معنى الكرم مقصود التعريف هو الميدان الذي يجول فيه هذا العلم؛ لأن الكثير من الحداثيين يقولون: أن العلم البلاغة قاصر؛ لأنه يقتصر على المعنى الواحد في علم البيان، وهم فاتهم أن هذا إنما هو علم مكمل لعلم المعاني؛
فالمعاني يشمل كل ضروب القول شعرًا ونثرًا، وقرآنًا وسنة، خصائص التراكيب في كل كلام العرب، وفي كل ما وصل إلينا من كلام بليغ.
لكن علم البيان تكلم عن الوجوه والطرق التي يتأتَّى بها هذا الكلام البليغ، فهذا له مجال، وهذا له مجال، وكل منهما يُكمل الآخر، ونزيد هنا فنقول: أن كلمة علم، نريد أن نعرج إلى تعريف علم البيان، يقولون: علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه، فكلمة علم تعني مجموعة القواعد، والضوابط، والقوانين التي يُعرف بها إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، كضوابط الاستعارة، والمجاز، وقوانين الكناية، والتعريض، والذي لا يقلُّ عن ذلك أهمية هو الملكة التي تتربَّى لدى الدارس؛ لتذوق هذه الضوابط، وتطبيقها على النصوص.
ومرادهم بالمعنى الواحد المعنى الذي يعبر عن المتكلم بكلام تام مطابق لمقتضى الحال، على ما مر بنا من أمثلة حول معنى الكرم، قولهم بطرق مختلفة مع وضوح الدلالة عليه يعني: متعددة ومتفاوتة في درجة الوضوح، بأن يكون بعضها واضح، وبعضها أوضح، وبعضها أشد وضوحًا، ألا ومرادهم بكلمة مع، أو في وضوح الدلالة عليه.
المقصود من كلمة الدلالة في علم البيان: الدلالة اللفظية، لماذا؟ لأننا عندنا عدة دلالات، فهناك ما يسمى بدلالة العقد، وهي دلالة الحساب التي تكون بأصابع اليد، وهناك دلالة الإشارة، وتكون باليد، أو بالرأس، أو العين، أو الحاجب، هناك دلالة الخط التي هي دلالة الكتابة، هناك دلالة الحال التي، كدلالة الحمرة على الخجل، الذي يعنينا هو الدلالة اللفظية.
والبلاغيون اعتمدوا هذه الدلالة اللفظية، وأسموها بالدلالة العقلية، وهذه تشمل دلالة التضمين ودلالة الالتزام، هذه مصطلحات ذكرها السكاكي،
وأدخلها في علم البيان، معنى دلالة التضمين يعني: دلالة اللفظ على جزء مسماه، كدلالة لفظ الدار على السقف، هذه تدخل معنا؛ لأن التعبير بالكل وإرادة الجزء هذا من المجاز المرسل.
دلالة التزام: دلالة اللفظ على معنى خارج عن مسماه، كدلالة لفظ الأسد على الشجاع، هذا يدخل معنا في التشبيه وفي الكناية.
إذن فالدلالة المقصودة هنا هي الدلالة اللفظية التي تشمل دلالة التضمين، ودلالة الالتزام، أما غيرها من أنواع الدلالات لا يدخل معنا بحال من الأحوال، ولا يجوز أن يكون وضوح الدلالة بمنأى عن مراعاة مقتضى الحال، بل يجب على البيان أن يُراعي بالإضافة إلى وضوح الدلالة على المعنى الذي يريده، أو الذي يريد أداءه مطابقته لمقتضى الحال، فيجمع بذلك بين وظيفتي علم البيان والمعاني، فلا بد أن يُراعي ذلك. هناك درجات للتفاوت في وضوح الدلالة، هذه الدرجات لا بد من ضبطها، أو تكون عن طريق ثلاث أمور:
الأمر الأول: اختلاف طرق التعبير عن المعنى الواحد، فيمكن لك أن تقول مثلًا: زيد شجاع هذه حقيقة، تقول: زيد كالأسد شجاعة، هذا تشبيه اجتمعت فيه كل أركان التشبيه، تقول: زيد كالأسد، فتحذف وجه الشبه، أو كأنه الأسد، ويسمى هذا بالتشبيه المجمل، أو تقول: زيد أسد في الشجاعة، تحذف أداة التشبيه وهو التشبيه المؤكد، أو زيد أسد يُسمى تشبيه بليغ؛ لأنك حذفت الوجه والأداة، كل هذه طرق مختلفة في أداء المعنى الواحد،
ممكن تقول مثلًا: رأيت أسدًا يخطب الناس، هذه استعارة تصريحية يعني: رأيت رجلًا كالأسد، أو تقول في الاستعارة المكنية: انبرى لي فارس يزأر، وأنت تريد انبرى رجل فارس شبيه بالأسد، فحذفت المشبه به، ورمزت له بكلمة يزأر.
كذلك التفاوت يظهر في قرب المعنى المجازي أو الكنائي من المعنى الحقيقي وبعده عنه، فالقريب مثلًا تقول: زيد يطير في حاجتك، تستعير الطيران للعدل هذا قريب، البعيد مثلًا تقول: جبان الكلب مهزول الفصيل، كما سبق وأن ذكرت. يدخل في درجات التفاوت درجة وضوح القرينة الدالة على المعنى المراد، قد تكون القرينة واضحة؛ بحيث يدركها السامع لأول وهلة، كما تقول مثلًا: رأيت أسدًا يخطب على المنبر، فمثل هذا يكون فيه المعنى غاية في الوضوح، وقد يكون ذلك بعيدًا.
نسأل أن يوفقنا لما فيه خير للدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.