الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعلك تلاحظ معي أن طباق الإيجاب يكون بين المعنيين المتضادين سواء كانا مثبتين أو منفيين.
أقسام الطباق من حيث الإيجاب والسلب
أما طباق السلب فهو الذي يكون بين معنيين متضادين أحدهما مثبت والآخر منفي، أو بين أمر ونهي، وقد دار حول طباق السلب هذا لغطٌ كثير، قد جعله غير واحد من العلماء نوعًا مستقلًّا من أنواع البديع ويرى البعض الآخر ومنهم بن أبي الإصبع أن السلب والإيجاب شيء يختلف عن طباق السلب، وبالنظر في أمثلة طباق السلب عنده نجدها اقتصرت جميعًا على الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي.
وبالنظر في أمثلة السلب والإيجاب نجدها تقتصر على الأمر والنهي، والأسماء المثبتة والمنفية، وهذا فرق لا تقوم عليه تفرقة بين نوع وآخر.
والخطيب القزويني أحد من أدخل السلب والإيجاب في الطباق، وأطلق عليه طباق السلب لكن ضيق نطاقه، فحصره في الأفعال وحدها، حيث أخذ من السلب والإيجاب عند ابن أبي الإصبع الأمر والنهي، وضمه إلى طباق السلب، كما ورد في بديع القرآن لابن أبي الإصبع الذي اقتصر عنده على فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي، وشكّل من هذين النوعين وحدهما طباق السلب، مع أن الباب أوسع من ذلك وأبعد مدًى، ويتضح من تعريف الخطيب القزويني للطباق مدى هذا النوع عنده، فقد عرفه في كتابه (الإيضاح) أنه الجمع بين فعلي مصدر واحد مثبت ومنفي، أو بين أمر ونهي، ومثّل للأمر والنهي بقوله تعالى:{فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: 150) ومثل الإثبات والنفي بقوله سبحانه:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الروم 6، 7)، ثم أردف الإثبات والنفي بخمسة أبيات لشعراء مختلفين، وشواهد النوعين من غير ما ذكر هي في الحقيقة أكثر من أن تُحصى، وفي الإثبات والنفي نجد مثلًا قول الله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9)، وقوله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْت} (الأنفال: 17).
ومنه قول الحسن رضي الله عنه: "أما تستحيون من طول ما لا تستحيون"، ومثله كذلك ما ذُكر من أن ابن عمر رضي الله عنهما لما قيل له: ترك فلان مائة ألف، فقال:"ولكنها لا تتركه"، وفي الأمر والنهي نجد قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23)، وقول بعضهم: خف الله خوفًا يشغلك عن الرجاء، فإن الرجاء يشغلك عن الخوف، وفر إلى الله ولا تفر منه، والشواهد على ذلك أكثر من أن تُعد.
هذا هو المدى الذي امتد إليه نظر الخطيب في دراسة طباق السلب، فهو عنده محصورٌ في الأفعال وفي الأمر والنهي، وقد كان نظر القدماء إليه أوسع وفهمهم له أعمق للطباق، وقد عرّفه أبو هلال العسكري بقوله: هو أن نبني الكلام على نفي الشيء من جهة وإثباته من جهة أخرى، أو على الأمر من جهة والنهي عنه من جهة أخرى، وما يجري مجرى ذلك.
وتعريف ابن أبي الإصبع للطباق يكاد يكون صورة طبق الأصل من هذا التعريف، فطباق السلب بهذا المعنى يتسع للأفعال والأسماء جميعًا، وهذا التعريف الواسع تجد له في فصيح الكلام ما يشهد بصحته.
فمن شواهد أبي هلال عليه قول الشاعر:
خفيف الحاذي نثال الفيافي
…
وعبد للصحابة غير عبدي
فكلمة عبد جاءت مثبتةً مرة ومنفيةً أخرى، ومثله في ذلك قول أبي تمام:
إلى سالم الأخلاق من غير عائبٍ
…
وليس له مال على الجُود سالم
فكلمة سالم جاءت مرة مثبتةً ومرة منفيةً، على الرغم من أن سالم المثبتة تعني سلامة الأخلاق، وسالم المنفية تعني سلامة المال، وبينهما فرق.
ومن شواهد ابن أبي الإصبع في الأسماء قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (المجادلة: 2)، فهنا أمومة مثبتة وأمومة منفية، ومنه قوله عز وجل:{وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان} (الرعد: 4)، وقوله تعالى:{مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة} (الحج: 5)، وقوله عز وجل:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} (الحج: 2).
ومن الطباق في الأسماء قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت
…
العجاج وأخرى تعلق اللجم
وقول مسلم بن الوليد:
كيف السلو لقلب راح مختبلًا
…
يهذي بصاحب قلب غير مختبل
ومنه قول أبي تمام:
هب من له شيء يريد حجابه
…
ما بال لا شيء عليه حجاب
ومنه قول بعضهم:
لا تلمني على التي فتنتني
…
وأرتني القبيح غير قبيح
وهذا باب واسع، وللقدماء فيه لفتات طيبة، ولكن الخطيب ضيق الواسع وحصره في آفاق محدودة بلا ضرورة. وإذا كان الخطيب قد توقف عند الأفعال وحدها في طباق السلب فقد وقف القدماء عند الأفعال والأسماء في السلب
والإيجاب، الذي هو طباق السلب نفسه، وقلما تجد من لفت نظره إلى طباق السلب في الحروف والظروف، مع أن تعريف أبي هلال العسكري للسلب والإيجاب الذي تبعه فيه ابن أبي الأصبع يشمل هذا اللون أيضًا.
ولطباق السلب في الحروف شواهد كثيرة ومن ذلك قول الفرزدق:
أقول له لما أتاني نعيه به
…
لا بظبي بالصرائم أعفرا
فحرف الجر الباء جاء مرة مثبتًا ومرة منفيًّا، وإن اختلف مجروره في الحالين، ومنه المثل المشهور الذي جاء على لسان الزباء: بيدي لا بيد عمرو، فحرف الباء هنا جاء مرة مثبتًا وجاء مرة أخرى منفيًّا، وبهذا يتضاد معنياه، ومن ذلك ما ذكره المبرد في (الكامل)، قال رجل لأبي بكر الصديق رحمه الله: لأسبنك سبًّا يدخل معك قبرك، فقال:"معك والله لا معي"، يريد أن سبه هو من كسبه وعمله، ومن ثم فهو المجزي عنه.
وتستطيع أن تنسج على هذا المنوال في الظروف والحروف ما شئتَ، وستجد أن طباق السلب مستساغ في الحروف والظروف، كما هو مستساغ في الأفعال والأسماء على السواء.
ولا يتوقف الأمر في طباق السلب على ما سبق، ولكنه في الحقيقة يمتد ليشمل الجمع بين الأفعال والأسماء إذا صيغتَا من مادة واحدة، وكان أحدهما مثبتًا والآخر منفيًّا، وممن التفت إليه من العلماء القدماء قدامة بن جعفر الذي استشهد ببيت الفرزدق:
لعمري لئن قل الحصا في رجالكم
…
بني نهشل ما لؤمكم بقليل
وقال: فهذا ضرب من المكافأة من جهة السلب وهو يعني اجتماع الفعل قل المثبت مع صلة المشبهة قليل المنفية، ومنهم أيضًا ابن رشيق حين ذكر قول جرير:
أتصحو أم فؤادك غير صاح
…
............................
ثم قال: فقوله غير صاح، نقيض تصحو، لولا أنه استفهام لم تُعلم حقيقة محصوله بعد، إلا على مذهب مَن جعل أم بمعنى بل، فكأنه قال لنفسه: بل فؤادك غير صاح، فناقض الصحو ودخل كلامه في المطابقة، وهذا يعني أنه لمح الطباق بين الفعل المستفهم عنه تصحو، وبين الاسم المنفي صاح، ومما هو من هذا الباب قول الله تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} (الرعد: 14).
ففي هذه الآية اجتمع فعل المثبت يبلغ واسم المنفي بالغ، وكلاهما يرتد إلى مادة واحدة هي بلغ، من ذلك أيضًا قول ربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم ويهجو يزيد بن أسلم السلمي:
لشتان ما بين اليزيدين في النَّدا
…
يزيد بن سلم والأغر بن حاتم
يزيد بن سلم سالم المال والفتى
…
أخو الأُسد للأموال غير مسالم
فقد اجتمع هنا الفعل سالم المثبت مع الاسم مسالم المنفي، ومن ذلك أيضًا قول الحسن بن وهب:
لله أيام خطبنا لينها
…
في ظلة بالخندريس السلسل
من مدامة نغم السماع صفيرها
…
لا خير في المعلول غير معلل
يغشَى عليها وهو يجلو مقلتي
…
باز ويغفل وهو غير مغفل
ففي البيت الأخير اجتمع الفعل يغفل المثبت مع اسم الفاعل مغفل المنفي وبينهما طباق سلب، أما في البيت الثاني فطباق السلب بين معلول المثبت ومعلل المنفي، وهما اسمان، فهو من طباق السلب في الأسماء وحدها.
وفي قول الشاعر أيضًا:
كم من حبة لؤلؤ مثقوبة
…
وحبة لؤلؤ لم تثقب
فتجد طباق السلب بين الاسم المثبت مثقوبة والفعل المنفي تثقب، وهو من طباق السلب بين الأسماء والأفعال، ومثل ذلك قول بشار:
إذا كنتَ في كل الأمور معاتبًا
…
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فقد اجتمع هنا اسم الفاعل معاتبًا المثبت مع الفعل المضارع المنفي تعاتبه، ومنه كذلك قول مسلم بن الوليد:
هي البدر يغنيها تودد وجهها
…
إلى كل مَن لاقت وإن لم تودد
فتودد الأولى مصدر مثبت، وتودد الثانية فعل منفي.
ومنه قول الشاعر:
والصارم المصقول أحسن حالةً
…
يوم الوغَى من صارم لم يصقل
فقد اجتمع فيه الاسم المثبت مصقول مع الفعل المنفي لم يصقل، وكذلك منه قول أبي نواس الذي كان يستحسنه ابن دريد:
لا جزا الله دمع عيني خيرًا
…
وجزا الله كل خير لساني
نمّ دمعي فلم يكتم شيئًا
…
ورأيت اللسان ذا كتمان
فقد التقى فيه الفعل المنفي يكتم، والاسم المثبت كتمان.
وهكذا يتبين لنا أنه ما من صورة يصح ورودها في طباق الإيجاب إلا وجدتَ لها صورة أخرى في طباق السلب، الأمر الذي يعني أن الخطيب حين قصر طباق السلب على الأفعال أو بين الأمر والنهي دون طباق الإيجاب الذي عممه وجعله في الأسماء والأفعال والحروف، حجّر واسعًا ولم يكن مصيبًا، فقد ثبت لنا أن هذا غير دقيق، وأن شواهد العربية حافلة بصور طباق السلب في الأسماء والأفعال والحروف، بل في النوعين المختلفين، كما هي حافلة تمامًا بصور طباق الإيجاب في هذه الأنواع ذاتها.