الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين المجاز والتورية
وسواء كانت القرينة عقلية أو لفظية فلا بد أن تكون خفية تعتمد على إعمال الذهن وإدارة الخاطر، فإذا كانت ظاهرة لم يكن اللفظ تورية، وهذا أحد الفروق بين المجاز والكناية، ذلك أن التورية تقوم على لفظ له معنيان -كما قلنا- أحدهما مراد، والآخر ليس مرادًا، وهو نفس ما يقوم عليه المجاز، فالمجاز لفظ مستعمل في غير معناه الحقيقي، إذًا هناك معنى موضوع له اللفظ يتبادر إلى الذهن عند سماعه وهو غير مراد، ومعنى آخر مستعمل فيه غير ما وُضِعَ له لا يتبادر إلى الذهن عند سماعه وهو المعنى المراد، وهذا القدر يتحقق في التورية كما يتحقق في المجاز، فكلاهما لفظ له معنيان، أحدهما مراد والآخر غير مراد. كما أن المجاز والتورية كليهما لا بد فيهما من قرينة تبين المراد، وهو المعنى المجازي في المجاز، والمعنى البعيد في التورية، إلا أن هذه القرينة -التي في التورية- لا بد أن تكون خفية وغير واضحة -كما سبق أن أشرنا. أما في المجاز فينبغي أن تكون واضحة ظاهرة لا خفاءَ فيها ولا غموض؛ لتمنع من إرادة المعنى الحقيقي للفظ، كما نراه في قول المتنبي:
تعرض لي السَّحاب وقد قفلنا
…
فقلت: إليكِ إن معي السحاب
ففي لفظ "السحاب" الثانية استعارة، والمراد به الرجل الكريم؛ لأنه يجود بالمال كما يجود السحاب بالغيث، والقرينة قوله:"معي" وهي قرينة ظاهرة واضحة؛ لأن السحاب الذي في السماء لا يكون معه، وإنما معه الممدوح، ولذلك قال بعده:
فشم في القبة الملك المُرجى
…
فأمسَك بعدما عزَم انسكابا
"شم" معناه: انظر، يقول: إنه أمر السحاب أن ينظر إلى الملك الذي معه، فلما نظر السحاب أمسك عن إنزال الغيث بعدما عزَم على الانسكاب؛ حياءً من جوده. فالشاعر نقل كلمة السحاب من معناها الحقيقي وهي الغمام في السحاب إلى الممدوح، وهذا النقل مجاز قرينته ظاهرة واضحة -كما ترى. وهناك فرق أكثر وضوحًا بين التورية والمجاز: ذلك أن كل واحد من المعنيين في التورية يُفهم من اللفظ من غير وساطة الآخر، ومن غير احتياج لعلاقة بينهما، أما في المجاز فلا بد من علاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي، قد تكون المشابهة فيكون المجاز استعارة، وقد تكون غير المشابهة فيكون المجاز مرسلًا. والمعنيان الدال عليهما اللفظ في التورية قد يكونان حقيقيين، ويكون اللفظ الدال عليهما مشتركًا بينهما مع تفاوتهما في الإدراك عند سماع اللفظ، وقد يكونان مختلفين؛ الأول حقيقة، والثاني مجاز. ففي قول الشاعر:
يا عاذلي فيه قل لي
…
إذا بَدَا كيف يسلو
يمر بي كل وقت
…
وكلما مر يحلو
التورية هنا في لفظ "مر" التي جاءت في آخر البيت الثاني، ومعناه القريب من المرارة التي هي ضد الحلاوة، والمعنى البعيد من المرور الذي هو السير، هما معنيان حقيقيان، فدلالته على أي منهما دلالة حقيقية وليست مجازًا. وإذا وضح هذا علمنا؛ أولًا: إذا كان لفظ التورية حاملًا لمعنيين حقيقيين، فالتورية من باب الحقيقة ضرورةً. ثانيًا: إذا كان لفظ التورية حاملًا لمعنيين أحدهما حقيقي والثاني مجازي، وهو دائمًا -يعني المعنى المجازي في التورية- هو المعنى البعيد المورى بالمعنى القريب، إذا كان الأمر كذلك فإن التورية أدخل في باب المجاز منها في باب الحقيقة؛ ذلك لأن المقصود منها هو المعنى المجازي وإن وُرِّي بالمعنى الحقيقي.