الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوع علوم البلاغة، والفرق بينها، وأثرها في النفس
موضوع علوم البلاغة والفرق بينها وما تحدثه هذه العلوم من أثر في النفس:
من خلال ما سبق تلاحظ أن كلمة أهل العلم مُجمِعة على أنه لا سبيل لفهم وتدبر كلام الله، والتعرف على أسراره البيانية إلا بتعاطي علوم البلاغة، وبخاصة من عبارة الألوسي الأخيرة أن علم البديع لا يقل أهمية عن أخويه المعاني والبيان؛ لكونه العلم الذي به يُعرف وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة، ووضوح الدلالة، فهو فضلًا عن اعتنائه في الأساس بمحسنات الكلام، فإنه يشتمل أيضًا على المعاني والبيان؛ لأن رعاية المطابقة هذا أمر يختص به علم المعاني، ووضوح الدلالة هذا أمر يختص به علم البيان، ولا بد من اجتماعهما في ألوان ومحسنات البديع.
علم المعاني يعني بالأساس بجانب المطابقة، يعني: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ويُعرف لدى عبد القاهر بالنظم، ولدى متأخري البلاغيين بالاعتبار المناسب، أو خصائص التراكيب، أو المعاني الثانوية، كل هذه مترادفات لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، المعاني الثانوية تكمن وراء المعاني الوضعية للجملة العربية، هذا ما يتعلق به علم المعاني.
أما علم البيان: فهو يُعنى باستقصاء الطرق التي ترد عليها هذه التراكيب من تشبيه، واستعارة، وتعريض، وكناية.
إذن فمهمة البلاغة البحث عن المعاني الثانوية في الجمل الوضعية، أو اللغوية، وعن معنى المعنى في الجمل الفنية أقصد مشتملة على ألوان البيان من مجاز، وكناية، فخذ مثلًا قول الله تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17) تجد أن الله سبحانه وتعالى حينما سأل موسى عليه السلام عما بيمينه وكانت عصا {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18).
أتناول الآن معنى كلمة المعاني الثانوية، أو الاعتبار المناسب، أو كلمة النظم، أو الخصائص التراكيب معناها عن طريق هذه الآية، فأي واحد يأتي ويقول: هذا سؤال من الله، وهذا جواب من موسى عليه السلام:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 17، 18)، لكن البلاغي لا ينظر إلى مجرد هذه الكلمات وحسب، فما يقتضيه الكلام أن الجواب لا بد أن يكون على قدر السؤال، فعندما يسأل ربنا -جل وعلا- موسى عليه السلام ويقول له:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الأصل أن يقول: عصا، هكذا دون حتى ما ذكر للمسند إليه؛ لأنه مفاد من خلال السؤال، لكن موسى عليه السلام يقول: هي، فيذكر المسند إليه هو المبتدأ، {هِيَ عَصَايَ} ، لا يكتفي بكلمة عصا، بل يضيفها إلى نفسه، ثم يقول بعد ذلك {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} رب العزة سبحانه لم يطلب منه هذا كله، ولم يقل له: ماذا تفعل بهذه العصا، لكنه يقول ذلك من باب التلذذ بحضرة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يكلم من؟ يكلم رب العزة سبحانه وتعالى، ولذلك كان من أشياء التي يعاقب الله بها هؤلاء الذين يستحقون العقاب يقول:{وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (آل عمران: 77) فجعل ذلك عقابًا لمن يستحق هذا العقاب.
إذن فالكلام مع الله فيه استشعار للذة، وهذا ما كان لموسى عليه السلام {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18)، وكأنه كان ينتظر من الله سبحانه وتعالى أن يقول له: وما تلك المآرب الأخرى، هذه المعاني ما كان لها أن تفهم بحال من الأحوال إلا بتعاطي علوم البلاغة، وهذه المعاني هي التي تُسمى المعاني الثانوية يعني: التي تضاف للمعاني اللغوية، أو الوضعية التي تواضع عليها العرب، كذلك عندما تقول مثلًا: ما أنا قلت هذا، هنا إثبات، أي واحد ممكن أن يقول: هو نفي للقول عن نفسه، لكن البلاغي لا ينظر إلى مجرد هذا، وإنما يجد أن هنا تقديم
المسند إليه المنفي على الخبر الفعلي، وهذا يفيد الاختصاص، وعليه فهذه الجملة تفيد ثلاثة أمور:
الأمر الأول: إثبات للقول أن قولا قد قيل.
الأمر الثاني: هو أنه نفاه عن نفسه على جهة الاختصاص.
الأمر الثالث: أنه خص به غيره.
ولذلك لا يصح بلاغة أن نضيف على هذه الكلمة أو هذه العبارة، "ولا قاله أحد غيري"؛ لأنه بذلك يكون قد نقض نفسه، ما أنا قلت هذا. يعني: معنى ذلك أن غيره قد قاله، فعندما يقول: ولا قاله غيري إذن، يكون بذلك قد ناقض نفسه. هذه معاني ثانوية ما كان لها أن تُفهم إلا بتعلم علوم المعاني، وأسرار ذكر المسند إليه، وأسرار تقديمه إلى آخر ذلك.
وأنت إذا نظرت إلى قولهم: "هو كثير رماد القدر": وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد على أنه تُنصب له القدور الكثيرة، ويُطبخ فيها للقرى والضيفان، وذلك لأنه إذا كثر الطبخ كثر إحراق الحطب، وإذا كثر إحراق الحطب تحتها؛ كثر الرماد لا محالة. وهكذا السبيل في كل ما كان كناية، وإذا قد عرفت في الكناية، فالاستعارة في هذه القضية.
هذا بالنص كلام عبد القاهر، وأنا أردت أن أسوقه؛ لأبين أن كلام عبد القاهر عندما يذكر في (دلائل الإعجاز) أو (أسرار البلاغة)، إنما كلام تستشعر منه عظمة العبارة وعظمة القائل، وهكذا تكون البلاغة، فأنت تقرأ في كلام عبد القاهر تستمتع، وتستشعر معاني البلاغة بحق.
كذلك كل ما فيه على الجملة مجاز، أو إتساع، أو عدول باللفظ عن الظاهر هو داخل في هذا الباب، ويسمى هذا معنى المعنى، وفيه -كما يقول عبد القاهر-
"المعنى ومعنى المعنى" علم المعاني يعتني بالمعاني الثانوية، علم البيان يعتني بمعاني المعاني، أو المعنى ومعنى المعنى، يقول:"وتعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يُفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرته لك"،
يقول: "كثير رماد القدر" أي واحد يفهم أن الرماد عنده كثير، لكن ليس هذا هو مراد القائل، وإنما مراده أن يعبر عن كرم الضيافة، وعن كرم الممدوح، وأنه كثير القرى، وكثير الضيافة؛ لذلك يأتي بهذه اللوازم؛ ليصل إلى هذه النتيجة في النهاية، هذا هو معنى المعنى، فمعنى المعنى إذن كما يقول الإمام عبد القاهر:"أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرته لك، فالمعاني الثواني الذي يومأ إليها بتلك المعاني، هي التي تكسى تلك المعارض، وتزين بذلك الوشي والحلي، وهذا هو معنى المعنى".
ما هو أثر علم البيان في النفس؟
يقول شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر: "إنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر" كان له موقع وحظ من القبول لا يكون إذا قلت: هو كثير القرى والضيافة، وكذا إذا قلت: "هو طويل النجاد" كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت: "هو طويل القامة"، وأنت تستشعر هذه المعاني وأنت تميز بين هذه التعبيرات، كثير رماد القدر، يختلف تمامًا عن قولك كثير القرى والضيافة، فرق بين السماء والأرض، طويل النجاد تختلف عن كلمة طويل القامة.
إذا قلت أيضًا: رأيت أسدًا، كان له مزية لا تكون إذا قلت: رأيت رجلًا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة، وحسبك أنك اختصرت كل هذا في كلمتين: رأيت أسدًا، وكذلك إذا قلت: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، كان له موقع لا يكون إذا قلت: أراك تتردد في الذي دعوتك إليه كمن يقول: أخرج أو لا أخرج، فيقدم رجلًا ويؤخر أخرى، أنت لك أن تستشعر أيهما أبلغ في الدلالة، أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، أم أنك تقول: أراك تتردد في الذي دعوتك إليه كمن يقول أخرج ولا أخرج فيقدم رجلا ويؤخر أخرى، هذه هي معنى المعنى، كذلك إذا قلت: ألقى حبله على غاربه، كان له مأخذ في القلب لا يكون إذا قلت: هو كالبعير الذي يُلقى حبله على غاربه، الغارب هو الكاهل من ذي الخف هو الجمل، وهو ما بين السنام والعنق،
يقول: هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء، ويذهب حيث يريد كل هذه العبارة تُختصر في كلمة ألقى حبله على غاربه.
وأخذ هذا المعنى وقاله لمن كان حاله هكذا، "فلا تُجهل المزية فيه، أو لا يجهل المزية في هذه الكلمات أو العبارات المختصرة" هذا كلام عبد القاهر "إلا عديم الحس ميت النفس، وإلا من لا يكلم؛ لأنه من مبادئ المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى، وهكذا السبيل في كل كناية والاستعارة من هذه القضية" انتهى من كلام عبد القاهر.
هذا الكلام نخلص منه في النهاية إلى أن كل ما تعلق على جهة الحقيقة بالاعتبار المناسب، وكان مرجع البلاغة فيه مراعاة المعاني الثانوية، والاحتراز عن الخطأ في تعدية المعنى المراد؛ اختص بعلم المعاني، وكل ما كان على جهة الاتساع، أو بعبارة عبد القاهر "فيه على الجملة مجاز وعدول باللفظ عن الظاهر، وهو ما أطلقوا عليه معنى المعنى؛ اندرج تحت علم البيان"، هذا هو الفرق بين هذا وذاك، أو بين العلمين، وكل ما كانت المزية فيه راجعة لتحسين الكلام بالأساس، وتزيينه بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة جاء بالطبع مؤخرًا ودخل تحت علم البديع، هذا هو الفرق بين المعاني والبيان والبديع.
كذلك نخلص من كل ما سبق إلى أن ذلك لا يعني انفصال هذه العلوم بعضها عن بعض، إذ ما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب، وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية، كما أن ثمة عاملًا مشتركًا يجمع بين علم المعاني المعني بالأساليب، وعلم البيان هو المعني بطرق إيرادها، يتمثَّل هذا العامل المشترك إلى جانب حسن الدلالة وإحداث المزية التي بها يتفاضل كلام على
كلام، يتمثل في أن كلًّا يبحث بطريق غير الآخر عما وراء دلالات الألفاظ الوضعية، وفيما يتصل بخصائص القول التي تعود على المعاني.
فقضية البلاغة وموضوعها في تصور عبد القاهر، بل وفي تصور عامة البلاغيين هو حسن الدلالة، أو المزية التي يتفاضل بها الكلام، وأن النظم مناط هذه المزية، وعامل مشترك بين النحو والبلاغة، وأن مقتضى الحال يتسع ليشمل ما لا نهاية له من معاني النحو المتآخية فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يُصاغ لها الكلام، أو المرتبطة بالمعاني الثانوية، أو بخصوصيات الكلم وما يتخلله من الأحوال الداعية إليها، وأنه لذلك جعله عبد القاهر محور كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) اللذين خليا تماما من الحديث عن الدلالة الوضعية؛ لخلوها من المزية، وإن كانت صحتها قيدًا في البلاغة، وتمييز الكلام الفصيح من غيره.
على أن دائرة هذا النظم تتسع أكثر لتشمل إلى جانب ما اختص بعلم المعاني -أعني: المعاني الثانوية: وهو اللفظ الملتبس بتآخي معاني النحو- تشمل كذلك ألوان البيان؛ لدلالة اللفظ فيه على معنى معناه، وألوان البديع؛ لكونها لا تتم إلا بنصرة المعنى، فلا ينبغي أن نعزل قضية النظم، ونقول: إنها أمر خاص بعلم المعاني، كما يفعل، أو كما يحدث من كثير من البلاغيين يظن أن قضية النظم إنما هي خاصة بعلم المعاني، ولا تمتُّ بصلة إلى علم البيان أو البديع، العكس صحيح النظم لا بد أن تتسع دائرته؛ لتشمل كل هذه الجوانب، الأمر الذي يؤكد أن هناك عوامل مشتركة تجمع بين هذه العلوم جعلت علماء البلاغة يجمعون فيما بينها، ويدرجونها تحت علوم البلاغة، أو تحت مسمى البلاغة. هذا لا يعني أن هناك فروق دقيقة -كما ذكرنا- تميز بين هذه العلوم الثلاثة.