الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 10 تابع: المجاز المرسل
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(تابع: المجاز المرسل)
بعض علاقات المجاز المرسل التي غف َ ل عنها كثير من البلاغيين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد:
فنقول أن هناك علاقات أخرى غفل عنها كثير من البلاغيين، ومن المهم -في هذا اللقاء- أن تناولها بشيء من الاختصار، هذه العلاقات تندرج تحت المجاز المرسل:
وأهم هذه العلاقات التي غفل عنها البلاغيون أو كثير منهم اللزومية، وهي أن يُطلق اسم اللازم ويراد الملزوم كقولنا: نظرت إلى الحرارة، والمراد نظرت إلى النار أو إلى مولد الحرارة، فالحرارة يلزم لها وجود نار أو مولد لها، والنظر يكون إلى النار لا إلى هذا المولد، ففي لفظ الحرارة مجاز مرسل علاقته اللزومية، حيث أطلق اللازم وأريد الملزوم، وقد يطلق الملزوم ويراد اللازم، كقولنا: دخلت الشمس من النافذة، والمراد دخول الضوء والضوء لازم للشمس.
ومن ذلك قول الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (طه: 92، 93) وقوله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (الأعراف: 12) وهما من المتشابهات، إذ يقتضي الظاهر أن يقال في غير القرآن: ما منعك أن تتبعني؟ ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ لكن المتأمل يجد أن المعنى الحقيقي للفظ منع هو الصرف عن فعل الشيء، وعليه فالمعنى المراد في الآيتين هو الدعوةُ إلى تركه، فيكون معنى:{مَا مَنَعَكَ} : أي: ما دعاك إلى ترك ما أمرتك به من الاتباع والسجود، فهو من استعمال اسم الملزوم وهو المنع والصرف عن الفعل وإرادة لازمه، وهو الدعوة إلى تركه، وهذا معنى سليم لا يحوج إلى القول بزيادة لا في الآيتين، وهو رأي الإمام السكاكي.
وفي الآيتين وجوه أخرى من المهم أن نقف عليها لتفسير الآيتين،
أهمها أن لفظ منع على معناه الحقيقي و"لا" صلة زائدة، والمعنى: ما صرفك عن اتباعي وعن السجود؟. المعنى الثاني: أنَّ مَنَعَ ليس مأخوذًا من المنع بمعنى الصرف، بل هو من المنعة والحماية، فيكون المراد: ما حماك مني حين تركت السجود؟ وما حماك حين تركت اتباعي؟ وعندئذ لا مجاز في اللفظ؛ لأن منع بمعنى حمى حقيقة لغوية.
ولا يقال: أن جواب هارون: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} (طه: 94) وجواب إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (ص: 76) يقضي ببطلان هذا الرأي؛ لأنا نقول: إن الجواب لا يتحتم أن يكون على وفق السؤال، بل كثيرًا ما يجاب المستفهم بغير ما يتطلب استفهامه لسر ولغرض بلاغي يقتضيه المقام، كما في الآيات الكريمة:{أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 75) وقوله: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} (الأعراف: 127) وكذا قوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 52، 53) إلى غير ذلك من الآيات التي جاء فيها الجواب مخالفًا للسؤال.
والسر البلاغي في العدول عما يتطلبه هذه الأسئلة وأمثالها، يرجع إلى ما عليه النظم الكريم من التسليم بأنه لا كالئ يحرسه ولا حامي يحميه، وكأن المسئول قد فتش ونقب، فلما لم يجد منعة ولا حماية أجاب بما أجاب.
الأمر الثالث: أن تكون الآيتان بتقدير "في" لا بتقدير "من" والمعنى: ما سبب امتناعك في تركك اتباعي وفي تركك السجود، وأيًّا ما كان فهي تخريجات لا تخرج المعنى في الآيتين الكريمتين عن المراد منهما.
من هذه العلاقات غير المشهورة من غير ما سبق التعلق الاشتقاقي، وهو أن يذكر اللفظ ويراد ما اشتق منه من اسم الفاعل أو المفعول كقوله تعالى:{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) والتقدير: مخلوق الله، وقوله كذلك:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (البقرة: 255) أي: بمعلومه حيث أطلق المصدر في الآيتين وأريد اسم الفاعل. ومنها العموم والخصوص. وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (آل عمران: 173) فالمراد بلفظ الناس الأول المثبطون، وبالثاني أبو سفيان ومن معه من المشركين، وكقوله عز وجل:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: 54) فالمراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه -رضوان الله عليهم- فهنا ذكر لفظ العموم في الآيتين وأريد به الخصوص.
كل هذه علاقات تندرج تحت المجاز المرسل.
من هذه العلاقات -وهذه العلاقة بالذات على العكس مما سبق- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 1) وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق: 1) فهنا ذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في الآيتين -يعني: الخصوص- وأريد به كل مكلف، فهو من إطلاق لفظ الخاص وإرادة العام. من هذه العلاقات غير المشتهرة علاقة الضدية كقولنا: سرت في مفازة ممتدة، والمراد صحراء مهلكة. وقولنا: انظر أيها الأعمى، في مقام التوبيخ فالمراد بلفظ الأعمى البصير، وكذا إطلاق لفظ السليم على اللديغ أو الجريح، وإطلاق لفظ الملآن على الفارغ. ومنها علاقة الإطلاق والتقييد وهي أن يكون اللفظ مقيدًا فيطلق عن قيده كما في قول رؤبة:
ومقلة وحاجبًا مزججًا
…
وفاحمًا ومرسنًا مسرجًا
فالمرسن اسم لمحل الرسن، وهو أنف البعير، أطلق عن قيده وأريد به مطلق أنف، فصح إطلاقه على أنف الإنسان باعتباره أحد أفراد هذا المطلق. ومن ذلك