الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شروط حسن السجع، وأنواعه
والسؤال إذًا: إذا كان حال السجع هكذا فما هي إذن شروط حسن السجع -بالطبع في غير القرآن؟ الجواب: أن ابن الأثير ذكر شروطًا أربعة ينبغي تحققها؛ حتى يكون السجع حسنًا، فإذا فقد شرط منها لا يكون السجع حسنًا. وتلك الشروط هي؛ أولًا: أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوةً رنانةً، لا غثةً ولا باردةً. الأمر الثاني: أن تكون التراكيب أيضًا صافيةً حسنةً رائقةً خاليةً من الغَثاثة، وذلك أن المفردات قد تكون حسنة ولكنها عند التركيب تفقد هذا الحسنَ، ولذا شُرط في التركيب ما شرط في المفرد. ومعنى الغثاثة والبرودة التي ينبغي أن تخلو منها الألفاظ والتراكيب: أن يهتم المتكلم بالسجع ويهمل الألفاظ والتراكيب، فتأتي متكلفةً، قد بدت فيها الصنعة والتعمق. الشرط الثالث: أن يكون اللفظ فيه تابعًا للمعنى، لا أن يكون المعنى تابعًا للفظ، وإلا كان كظاهر مموه على باطن مشوه. الرابع: أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالةً على معنى غير المعنى الذي دلتْ عليه أختها، فإذا كان المعنى فيهما سواء فذلك هو التطويل بعينه؛ لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليها بدونها.
وهذا الشرط الأخير لم يسلم لابن الأثير، فقد فنده بعضهم، ذاكرًا أن السجعة الثانية إذا كانت بمعنى الأولى فهي تؤكد معناها، فالتأكيد عمدة البيان. ثم ذكر أن القرآن الكريم قد ورد فيه ذلك في كثير من مواضعه، نحو قول الله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} (الناس: 1 - 3) فالرب هنا والمَلك والإله بمعنى واحد، وكل سجعة من هذه السجعات قد أعطت معنى الأخرى. ومثله قوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (النبأ: 14 - 16) فإن الجنات هي البساتين، ولا معنى
للبساتين إلا ما كان محتويًا على الحَب والنبات. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} (النبأ: 27، 28) فإن عدم اعتقادهم في الحساب هو تكذيبهم بالآيات. ومثل هذا في القرآن العزيز كثير جدًّا.
والرأي في ذلك: أن السجعة الثانية عندما تأتي بمعنى الأُولى فإن كانت مؤكدةً لها أو مبينةً وموضحةً -كما رأينا في الآيات- فذلك محمود؛ لأنه إطناب، والإطناب من البلاغة، أما إذا كان تكرارها لا يزيد الأولى شيئا فذلك مذموم؛ لأنه من التطويل، والتطويل عيب في الكلام. ومن ذلك التطويل المعيب: قول الصبي: الحمد لله الذي لا تدركه العيون بألحاظها، ولا تحده الألسن بألفاظها، ولا تَخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها. فلا فرق هنا بين مرور العصور وكَر الدهور. يقول: ثم الصلاة على النبي الذي لم يرَ للكفر أثرًا إلا طمسه ومحاه، ولا رسمًا إلا أزاله وعفاه. فهنا تجد أنه لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم. فالسجعة الثانية في كل مكررة، وتكرارها لم يفد الأولى شيئًا، ولم يزد الكلام بهجةً، ولا أضفى عليه رونقًا، ولذا كان من التطويل المعيب. هذا، وللسجع أنواع باعتبار وروده في النثر والشعر، إذ بعض هذه الأنواع يكون في النثر والشعر معًا يشترك فيهما، وبعضها يختص بالشعر فقط. فأنواعه المشتركة بين النثر والشعر ثلاثة:
أولها: المطرف: وهو ما اختلفت فيه الفاصلتان أو الفواصل وزنًا واتفقت رويًّا، كما في قول الله تعالى:{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح: 13، 14) فوزن: {وَقَارًا} يختلف عن وزن: {أَطْوَارًا} والروي واحد، وهو حرف الراء. ومنه شعرًا، قول أبي تمام وقد سبق:
تجلَّى به رشدي وأثرتْ به يدي
…
وفاضَ به ثَمْدي وأورَى به زِندي
فزندي ويدي مختلفان وزنًا، متفقان رويًا. أما رشدي وثمدي وزندي: فمتفقة في الروي والوزن معًا، والمراد بالوزن هنا الوزن العروضي لا الصرفي.
النوع الثاني من المشترك بين النثر والشعر: ما يسمى بالمرصع وهو أن يكون ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثره مثل ما يقابله من الأخرى وزنًا وتقفيةً، كما في قول الله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14) فالأبرار في الوزن والتقفية مثل الفجار، ونعيم كذلك مثل جحيم، ومثله قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية: 25، 26) وقوله عز وجل: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} (العاديات: 1 - 5) ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفا)) ومنه قول الحريري: فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. ومنه شعرًا قول أبي فِراس الحمداني:
وأفعالنا للراغبين كرامةً
…
وأموالنا للطالبين نهاب
وقول الآخر:
فحريق جمرة سيفه للمعتدي
…
ورحيق خَمرة سببه للمعتفي
النوع الثالث -ما يشترك فيه السجع بين الشعر والنثر: ما يسمى بالمتوازي، وهو ما اتفقت فيه الفاصلتان فقط وزنًا وتقفيةً، كما في قول الله تعالى:{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الغاشية: 13، 14) فإن: {مَرْفُوعَةٌ} و {مَوْضُوعَةٌ} متفقتان وزنًا ورويًّا. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)) فـ ((نحورهم)) و ((شرورهم)) متفقتان وزنًا وقافيةً. ومنه شعرًا قول المتنبي -وقد مر بنا:
فنحن في جذل والروم في وجل
…
والبر في شغل والبحر في خجل
فالشطر الأول مسجوع سجعًا متوازيًا، والشطر الثاني من السجع المرصع، فإن اتفقت الفاصلتان في الوزن دون القافية سُمي هذا باسم الموازنة، كقوله تعالى:{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (الغاشية: 15، 16) فلفظا: {مَصْفُوفَةٌ} و {مَبْثُوثَةٌ} متفقان في الوزن لا في القافية، فالأولى على الفاء والثانية على الثاء، وهما حرفان متقاربان لا متفقان. ومنه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا * فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (مريم: 83، 84) فـ {أَزًّا} و {عَدًّا} اتفقتا وزنًا واختلفتَا قافيةً. فإن كان ما في إحدى القرينتين من الألفاظ أو أكثر ما فيهما مثل ما يقابله من الأخرى في الوزن دون القافية، خُصَّ باسم المماثلة، وهذا هو النوع الخامس، كقول الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الصافات: 117، 118). ومنه شعرًا قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانسٌ
…
قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
وقول البحتري: فأحجم -أي: الأسد الذي بارزه الممدوح:
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعا
…
وأقدم لما لم يجد عنك مهربًا
وكما يقع السجع في كلام شخص واحد فقد يقع في كلام شخصين، كما حُكِي من أنه قيل لرجل: ما أحسن السجع؟ قال: ما راق في السمع، قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا، يقصد ما سبق من جواب وسؤال. ومنه: ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عمن قتل أحد الكفرة، فقالوا له: ابن الأكوع، فقال صلى الله عليه وسلم:((له سلبه أجمع)). وأما أنواعه الخاصة بالشعر فهي؛ أولًا: التشطير؛ وهو أن يُجعل كل شطر من شطري البيت سجعتين، بحيث تختلف سجعتا كل شطر عن سجعتي الشطر الآخر في القافية، كما في قول أبي تمام:
تدبير معتصم بالله منتقم
…
لله مرتقب في الله مرتغب
النوع الثاني: التصريع؛ وهو جعل كل شطر من شطري البيت فقرةً، فتكون العروض مقفاةً تقفيةَ الضرب. وهذا النوع يحسن في أول أبيات القصيدة، وعند الانتقال من غرض إلى آخر كالانتقال من النسيب إلى المديح. وفيما عَدَا هذين الموضعين يحسن ما قل منه دونما كثر. ومن شواهده قول أبي فِراس:
بأطراف المثقفة العوالي
…
تفردتا بأوساط المعالي
وقول امرئ القيس:
ألا عِم صباحًا أيها الطلل البالي
…
وهل ينعمن مَن كان في العصر الخالي
وقوله في مطلع معلقته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وفي أثنائها:
أفاطم مهلًا بعد هذا التدلل
…
وإن كنتِ قد أزمعت صرمي فأجملي
ومنه قول أبي العتاهية:
الفقر فيما جاوز الكفافَ
…
مَن اتقى الله رجا وخافا
النوع الثالث: أن يكون غير مصروع ولا مشطور، كما في قول الخَنساء:
حامي الحقيقة محمود الخليقة مه
…
ـدي الطريقة نفاع وضرار
ونلاحظ في بناء الأسجاع أن فواصل هذه الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الأعجاز، موقوفا عليها، إذ الغرض أن يزاوج بينها ولا يتم هذا في كل صورة إلا بالوقف والبناء على السكون. ففي قول قس بن ساعدة الأيادي:"من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت". وقول الآخر: "ما أبعد ما
فات، وما أقرب ما هو آت". لو لم نقف بالسكون لفات الغرض من السجع، إذ التاء من "مات وفات" تصير مفتوحةً، ومن "آت" تصير مكسورة منونة، وذلك حَسْب إجراء حركات الإعراب أو البناء على آخر الفواصل، وهذا الإجراء لا يحقق التزاوج بين الفواصل، فوجب الوقوف عليها وتسكين أعجازها. أما السجع باعتبار طول الفقر وقصرها، فهو يأتي على اختلاف أنواعه، وينقسم من حيث طول فقره وقصرها إلى قسمين: سجع قصير، وسجع طويل.
فالقصير: ما كان مؤلفًا من ألفاظ قليلة، إذ يبدأ بكلمتين وينتهي إلى تسع كلمات أو عشْر، كما في الآيات الكريمة:{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} (المرسلات: 1، 2){يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1 - 5) من ذلك قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 - 3) وقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} (القمر: 1 - 3).
أما الطويل: هو ما كان مؤلفًا من ألفاظ طويلة وتتفاوت درجاته في الطول، إذ يبدأ من إحدى عشرة لفظةً وينتهي إلى عشرين فما فوقها، من ذلك قول الله تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} (هود: 9، 10) وقوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التوبة: 128، 129)
ويرى البعض: أن السجع من حيث طول فقره وقصرها ثلاثة أقسام: طويل، ووسط، وقصير. فالقصير: يبدأ بكلمتين وينتهي إلى أربع كلمات، والوسط: يبدأ من خمس إلى عشر، والطويل: ما فوق ذلك. ولا فائدةَ ترجَى من وراء هذا الاختلاف، بل ولا حتى من وراء هذه التقسيمات، فالأولى أن يقال: إن السجع يبدأ بكلمتين وينتهي إلى العشرين أو ما قاربها.
أما السجع من حيث تساوي فِقره وعدم تساويها، فإننا نلحظ أن السجع تتساوى فقره أحيانًا، كما في قول الله تعالى:{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الواقعة: 28 - 30) وقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى: 9، 10) وقد تطول الفقرة الثانية طولًا لا يَخرج بها عن حد الاعتدال، كقول الله تعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وقد تتساوى الأولى والثانية وتطول الثالثة، كقوله تعالى:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة: 30 - 32) وقد تكون الثانية أقصرَ من الأولى قصرًا يسيرًا كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} (الفيل: 1، 2). وهذه الأنواع كلها حسنة قد وردت في أساليب القرآن الكريم -كما رأينا.
ويذكر البعض: أن أحسن السجع ما تساوت قرائنه، ثم ما طالت قرينته الثانية، ثم الثالثة، ثم ما قصرت قرينته الثانية قصرًا يسيرًا، ولا وجه لهذا التفضيل،