الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعاع من المحراب
الجزء الحادي عشر
إعداد
د. سليمان بن حمد العودة
بسم الله الرحمن الرحيم
شعاع من الحراب
المجاهرة بالذنوب
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
…
هاتفني صاحبي وفجأةً قال لي: هل تعجبك هذه الأجواء؟ وكانت السماء مغبرة والرياح عاتية، والرؤية تكاد تكون معدومة ترددت في الجواب وأنا استحضر الرد وماذا عساي أقول فإن قلت لا، أشعرت نفسي أو أشعرته بالتسخط، أو وقعت في سبِّ الدهر .. وإن قلت نعم فكأني غير مكترث ولا وجل وبينا أنا أختار العبارة المناسبة للرد، وأقول: لا يعجبني وأشكو إلى ربي .. عاجلني بالرد .. ألا تظن أن هذه الأجواء المغبرة والأعاصير العاتية بسبب الذنوب والمعاصي، وإن الله يخوّف عباده ويدعوهم للتضرع والتوبة والطاعة والاستغفار؟
حينها وقفت على ما ذكره أن القيم في الداء والدواء عن كعب قال: إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فزعًا من الرب جل جلاله أن تطلع عليها وحينها انتقل تفكيري إلى مجالات أخرى في هذا الكون فنحن نشهد إلى جانب هذه الأعاصير والتقلبات الجوية، أعاصير من نوع آخر، وتقلبات في عدد من الأحوال والأمكنة مصائب تتردى، وموبقات هنا وأخرى هناك، فساد
(1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 4/ 1428 هـ
وإفساد في الأرض، فعلى مستوى المعتقد يعبد غير الله ويُدعى ويُسْتشفع بغير الله .. وليت هذا كان قصرًا على الكافرين لكنه طال نفرًا من المسلمين تشوّهت عقائدهم وزاغت أبصارهم فأشركوا مع الله غيره إن في شرك العبودية أو شرك الطاعة وسبُّ نفرٌ الدين والنبي علانية وليت هذا توقف عند غير المسلمين لكان المصاب أقل ولكن الشيطان سوّل لنفر من المسلمين وأملى لهم حتى نالوا من الدين، ومن مقام النبوة، ومن سبَّ شيئًا من دين الله أو سخر بشيء من شعائر الإسلام، أو أتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم في شخصه أو أزواجه أو طعن في سنته أو نال من صحابته الكرام آنذاك الطعن في صميم الدين، والتطاول على حرمات الإسلام.
ومن فساد المعتقد والتصورات إلى فساد الأخلاق والتعاملات حيث شاع الزنا والربا، وانتشر اللواط والمخدرات، وطفف المكيال، وكان الغش في البيع والشراء، نقضت العهود، وأخلفت المواعيد، وشاع الكذب، وتطايرت التهم، ووقع الظلم.
وقلت الصدقات، وربما منع أو قصر بعض المسلمين في الزكاة إنها أدواء خطيرة إذا كانت سرًا فكيف إذا وقعت جهارًا نهارًا وما أحوجنا هنا أن نتذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حين أقبل على المهاجرين يومًا فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله
ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (1).
أخوة الإسلام تأملوا في واقعكم ومصائبكم ترون عجبًا .. ألم تكثر في الأمة الأمراض والبلايا، وفي كل يوم لها قتيل، وفي كل مكان بها علة ومريض، قتلٌ متعمد، وخطف جماعي، ودماء تسيل وفي كل يوم تحمل الأخبار عن مصيبة وبلية وفي أرض الرافدين يتضح المشهد، وفي أرض الإسراء والمعراج غير بعيد انتهاكات ومآس ومشاهد مغيبة ولا ندري بماذا تفاجئ غدًا من الصهاينة وإذا كان استهداف المدنيين هناك على قدم وساق وإهلاك الحرث والنسل مخطط ومشروع، فالحفريات تحت المسجد الأقصى بات خطرًا يهدد المقدسات .. هذا فضلًا عن محاولات التطبيع وما تحمله من مشاريع الفساد المقنن .. فإلى الله المشتكى.
يا أخوة الإسلام والفساد في الأرض قديم يتجدد .. والصراع بين الحق والباطل سنة ربانية ماضية تتكرر .. ولكن المصيبة حين يجاهر بالعصيان، وحين يلوذ الأعداء بالقوة ويستضعف المسلمون، وفي زمن لا يعرف إلا القوة، وحين يتجبر المجرمون في فرض الباطل والمنكر، ويضعف المسلمون عن قول المعروف وإظهار الحق إذا كثر الخبث وخفت صوت الحق فهنا تكون المصيبة.
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يحب الفُحش أو يبغض الفاحش والمتفحش، قال: ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوَّن الأمين وقال: ألا أن موعدكم حوض عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكة، وهو مسير شهر، فيه مثل النجوم
(1) رواه ابن ماجه في سننه، وقال البوصيري، رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد (نضرة النعيم 11/ 5551).
أباريق، شرابه أشد بياضًا من الفضة، من شرب منه مشربًا لم يظمأ بعده أبدًا)) (1).
وفي الحديث الآخر إخبار عما يقع في آخر هذه الأمة، وتوصيف للداء، حيث يقول عليه الصلاة والسلام:((يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث (2).
عباد الله احذروا المجاهرة بالمعصية، وإذا بليتم فاستتروا، قال ابن بطال رحمه الله: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم (3).
وهل يُعذبُ العامة بعمل الخاصة؟ يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كان يقال أن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامَّة بذنب الخاصة ولكن إذا عُمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلُّهم (4). ألا وإن المجاهرة بالفسوق والمعاصي يستحقون الفضيحة بما جهروا به، قال النووي: من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به (5). أيها المسلمون لا تحلوا بأنفسكم عقاب الله .. وفي الحديث: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبيه ثم قال ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله (6).
(1) رواه أحمد (2/ 162 وصححه شاكر).
(2)
رواه الترمذي وقال حديث غريب (2185) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8012)(6/ 358).
(3)
(الفتح 10/ 502 عن نضرة النعيم 11/ 5553).
(4)
رواه مالك في الموطأ 2/ 991.
(5)
(الفتح 1/ 502).
(6)
رواه أحمد وأبو يعلى، وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده جيد 3/ 8، وصحح إسناده أحمد شاكر (3809).
أي حمق أن يسترك الله فتفضح نفسك بالمجاهرة، وفي الحديث المتفق على صحته: قال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربَّه ويصبح يكشف ستر الله عنه.
وكيف الحال إذا بلغت المجاهرة بالمعاصي والفسوق حدَّ الانتشار والذيوع والعرض على شاشات القنوات والتليفزيون، وأعمدة الصحف والمجلات، وكاميرات الجوالات وتقنيات البلوتوث ويحدث ما لا تعلمون ونحوها إنها طوام ومصائب نبرأ إلى الله منها، ونعوذ به من شروروها.
يا من تأكلون نعم الله إياكم أن تستعينوا بها على معصية الله يا من تسكنون أرضه إياكم والإفساد في ملكه يا من تقعون تحت سمعه وبصره ومراقبته وعدله .. إياكم وخائنة الأعين وما تخفي الصدور. وإياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يا من لا تُعجزون الله في الأرض ولا في السماء، إياكم والتطاول على شرعه أو انتهاك محرماته فهو يُمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .. إن أخذه أليم شديد.
يا من تخافون عقوبة الدنيا .. ألا وإن عقوبة الآخرة أشد وأنكى .. ويا من تخشون الفضيحة في الدنيا .. فهناك الفضيحة على الملأ من أقطار الأرض والسماء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا} . [النساء: 148].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية
الحمد لله فارج الكربات وكاشف البليات، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله تعالى الله عما يشركون .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله هدى الأمة إلى صراط الله المستقيم، وحذرهم من الزيغ والضلال المبين اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
أيها المسلمون .. وليس المقام مقام حصر للفساد وبأشكاله وممارساته وإلا لكان ثمة حديث عن الفساد الإداري بمحسوبياته وبرشاويه، وحديث عن الفساد الاجتماعي بتجلالاته وتغيراته، وعن الفساد الاقتصادي بتورماته وحيله، عن فساد الرجل والمرأة، والصغير والكبير لكنها وقفات وتنبيهات وتحذيرات واحتياطات أشمل منها وأبلغ قوله تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} .
ولا يعني الحديث عن الفساد أو المجاهرة فيه نسيان الخير في الأمة وتجاهل الصالحين والأخبار ممن تفطر أكبادهم لهذا الفساد ويدعون ربهم خوفًا وطمعًا.
إنه مع وجود الشر والأشرار يوجد الخير والأخيار وإذا وجد من تجاهر بالمعصية أو يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فثمة وجود لمن يجاهرون بالطاعة، ويشيعون الخير بين العباد إن مقصود الحديث التحذير من موبقات المعاصي، والدعوة لتكثيف الخير، وتنشيط الدعوة للفضيلة ومحاربة الرذيلة:
ولذا - وفي ظل هذه الأزمات والتراكمات وفي كثرة الذنوب والفتن - أذكر الأمور التالية:
1 -
اجعل من نفسك يا عبد الله متهمًا في وجود هذه الكوارث والمصائب،
فأنا وأنت .. وكل ابن آدم خطاء {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} .
2 -
ومع اتهام النفس اعمل لإصلاحها ومن يقول ثم انتقل بالخيرية والدعوة إلى الآخرين، فخير الناس أنفعهم للناس.
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} .
3 -
والتوبة يدعى لها المؤمنون {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} وغير المؤمنين مدعوون للتوبة من باب أولى.
4 -
والاستغفار استبشاع للذنب وتعظيم للرب، وفيه تفريج للكروب وتنفيس للهموم فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزق من حيث لا يحتسب.
5 -
وكل ما وقع فيكم ذنب عامله بالتوبة والاستغفار {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} .
6 -
وكلما اجترحتم السيئات اتبعوها بالحسنات فهن الماحيات ذلك ذكرى للذاكرين.
7 -
استبقوا الخيرات وبادروا بالصدقات فالصدقة تطفئ غصب الرب وتستنزل الرحمات والمتصدقون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار أما بعد: «ما من هذه الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وأمر من كان عنده شيءٌ أن يتصدق به فإن الله يقول قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وقولوا لما قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
8 -
الصلاة نور ومن حافظ عليها فهو المحفوظ ومن ضيعها هو لمن سواها أضيع والصلاة مفزع عند الشدائد وراحة للقلوب، ونور وطمأنينة (1).
9 -
الذكر يملأ الميزان والقرآن شفاءٌ ونور وهدى ورحمه وبصائر من ربكم، تداووا بالقرآن وأنى لداء لم يشفه القرآن والسنة أن يُشفى.
10 -
تضرعوا إلى ربكم دائمًا وكلما حلت بكم بأسًا، ففيه كشف للبلاء (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم}.
وقولوا كما قال العبد الصالح لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
11 -
{لا تقنطوا من رحمة الله ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف/ 87].
12 -
فرَّجوا كربة، وساهموا في دفع مصيبة، أصلحوا ذات بينكم، وأصلحوا بين أخوانكم .. فتلك درجات عالية والله يحب المحسنين.
13 -
ادفعوا الشر بالخير، والفساد بالإصلاح فذلك رهان لإصلاح الأرض {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} .
14 -
تأملوا في حادثات الزمن وتأملوا ما فيها من عظات ونذر، وويل للقاسية قلوبهم.
إنها آيات ونذر يخوف الله بها عباده فلا تغفلوا ولا تلهو وتلعبوا فتكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، والطف بنا وبعبادك المؤمنين، ولا تجعلنا عبرة للمعتدين، ولا فتنة للكافرين، ولا من رحمتك يائسين، ولا من عذابك ممسوسين.
(1) الداء والدواء/ 62.
(1) الإنسان في كبد
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله خلق الإنسان في أحسن تقويم، علمه البيان، أنشأه من ضعف وينتهي أمره إلى الضعف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قدر للإنسان حياته وكتب نصبته وكفاحه وهو العليم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أنموذج الكادحين وسيد المفلحين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اتقوا الله معاشر المسلمين وتفكروا في أنفسكم وحياتكم وارجعوا إلى ربكم واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
أيها المسلمون (الإنسان في كبد) حقيقة قرآنية وواقع بشري .. إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها، منذ بدأ يُخلَّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة .. هكذا قدَّر الخالق وأخبر {لقد خلقنا الإنسان في كبد} .
إن الخليَّة الأولى لا تستقرَّ في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها- وبإذن ربها- الظروف الملائمة للحياة وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض إلى جانب الأم ما تذوق، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضُغط ودُفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم، بل ربما اختنق بعض الأجنة فانتهت حياته بنصب الولادة واختناق المولود.
(1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 6/ 1427 هـ
وحين يخرج الجنين للحياة يبدأ الجهد الأشق حيث يتنفس هواء لا عهد له به، ويفتح رئته لأول مرة ليشهق ويزفر ويستهل المولود صارخًا صرخة النزول الأولى في الحياة الجديدة .. وتبدأ دورة هضمية ودموية في العمل على غير عادة ويعاني المولود الجديد من كبد إخراج الفضلات حتى تُروض أمعاؤه على هذا العمل الجديد .. وفي هذه المرحلة يكثر الصراخ والعويل حتى وإن قُلِّب الجنين ذات اليمين وذات الشمال وكل خطوة بعد ذلك فيها كبد .. فهو يعاني ما يعاني حين يهم بالحبو .. وأشد من ذلك معاناة حين يستعد للوقوف والمشي .. فهو خائف وجل وهو يقوم ويسقط ويبكي أكثر مما يضحك .. وعند بروز الأسنان كبد .. هذا فضلًا عن كبد الأمراض المعترضة والآفات المصاحبة للنشأة ويستمر الجهد والكفاح والنصب والكبد في مسيرة الإنسان فهو يكابد حين يتعلم ويكابد حين يفكر .. وفي كل تجربة جديدة له فيها كبد ونصب.
ثم يكبر ويشتد عوده وتبدأ رحلة أخرى من المشاق والكبد.
ولئن اختلفت الطرق وتنوعت المشاق فالكل في كبد هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره والفرق هذا يكدح ويبيع نفسه ليعتقها وآخر ليوبقها .. هذا يكدح في سبيل الله وذاك يكدح في سبيل شهوة ونزو وصدق الله {إن سعيكم لشتى} .
لا يفارق الكبد الإنسان في أطوار حياته كلها .. كبد وكدح في مرحلة الشباب .. وكبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم .. إنه (الكدح) للغني والفقير والذكر والأنثى والسيد والمسود .. وكل يعايش نوعًا من الكبد فالفقير الذي يكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش أو شدة العوز أو همِّ الدَّين وغلبته وقهر الرجال ومطاردتهم قد لا يظن أن غيره في كبد .. بينما ترى الغني
يكابد في تجارته ويفكر في مكاسبه وخسائره .. وربما نام الفقير وهو يقظان وأكل الفقير وأنكح أكثر من الغني.
إنه الكبد لا يسلم منه الزعماء والعظماء وإن كانوا في أبراج عاجية وقصور وخدم وحشم فللمسئولية كبدها وللزعامة والرئاسة ضريبتها .. وللأمانات والمسئوليات حمالتها.
والكبد لا يُعفى منه العلماء وإن وصلوا إلى مراتب علية في العلم والمعرفة .. وهل حصَّلوا تلك العلوم وحازوا تلك المعارف إلا على جسور من التعب والكبد والسهر؟
إنَّ نصب العالم كامن في مسئولياته .. فحمل العلم وأداؤه وإبلاغه كل ذلك فيه كبد ونصب .. والميثاق المأخوذ على أهل الكتاب وزكاة العلم وحشية العلماء لربهم كل ذلك لا يتأتى دون نصب وكبد وجد ومجاهدة.
أين من يسلم من الكبد .. ؟ وإن تفاوت أنواع الكبد؟
لا إله إلا الله قدر أن يعمر الكون بالكبد وشاء أن يقوم سوق الحياة على النصب {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} .
عباد الله لا يكفي أن نعلم كبد الحياة، وشمولها لبني الإنسان ولكن المهم كيف نتعامل مع هذا الكبد؟ وكيف نستفيد من هذا الكبد، وما نهاية الكبد وثمرته؟ وكيف نخفف من مكابد الحياة ومشاقها؟
إن المسلم يختلف عن غيره في نوع الكبد وغايته .. فهو مأجور على نصبه وهمّه وغمّه مادام يعبد الله ويخشاه، فما يصيبه من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربه، مطمئن أنه سيجازى على جهده وعمله .. ومن هنا فهو
يتحسس من المكابد ما يرفع درجاته، ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة .. ولكن نصبه يستمر بعد الممات، فالنهاية مؤلمة والشقاء مستمر ولعذاب الآخرة أشق.
المسلم يستعين على النصب بالصبر والصلاة وحسبك بهما معينًا والله يقول {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} {وويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} ومساكين هم الذين يجزعون ولا للعلق والنصب يصبرون وغير المسلم يتضجر ويقلق، ثم يعود إن لم يقتل نفسه أو يقتله النصب والقلق {ومن يهن الله فما له من مكرم} .
ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد، فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم، سعيهم شتى وأجورهم وأوزارهم مختلفة، وفرق بين من ينصب ليرتفع درجات وبين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانًا مبينًا.
عباد الله والاستغفار يخفف الكبد ويعين على مشاق الحياة ويفتح أبوابًا للرزق، وفي الحديث:((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب)).
ومما يخفف الكبد والقلق أن يتصور المسلم مهما بلغ به من كبد الحياة
ومشاقها أن فيه من هو أشد منه قلقًا وضيقًا، ومهما بلغ في حصول المعالي والمجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبق وفُضِّل عليه، فهذا يُخفف من آلامه الدنيوية وهذا يزيد في سعيه للآخرة (1).
ولا بد من العفو والصفح والمسامحة والتجاوز فالخطأ وارد والسماحة خلق فاضل، والصفح والعفو من أخلاق العظماء ولا بد أن يحصل الخطأ منك أو عليك وربما نالك من خطأ الأقربين ما يحتاج منك إلى جميل العفو وكريم الصفح وفي التنزيل {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} [التغابن: 14].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
(1) تحتاج الحياة إلى جد وحزم وعزم وصدق ويحتاج مع ذلك إلى أناة ورفق وعدم تعجل وطموحات وآمال وفأل حسن لاسيما حين تشتد الأمور، وتدلهم الخطوب وتنتشر الفتن، وحتى لا يقع الإنسان ضحية للهوى والاستعجال أو العجز والكسل يحتاج إلى هذه الموازنات كلها .. ولا يستغني عن دعاء ربه وتوفيق له وعونه، وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يتخلى عنه اجتهاده.
الخطبة الثانية
يا أيها القلقون المكابدون استأنسوا بذكر الله على آلام المكابدة فطالما خاضت ألسنتكم بكل شيء إلا الذكر وبذكر الله تطمئن القلوب، كم يفرّج ذكر الله من كربة ويزيل من غمة وويل للقاسية قلوبهم، ومساكن من شحت عليهم ألسنتهم عن ذكر الله، ومثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت {فاذكروني أذكركم} وفي القرآن شفاء لما في الصدور، ونور للقلوب، ولا غرابة أن تكثر هموم الهاجرين لكتاب الله، إنه القرآن هداية وبصائر ورحمة وذكر، فليكن لك من كتاب الله نصيب فهو نعيم لا ينسى في الوحشة والرفيق في الخلوة، والمصاحب في الغربة.
أيها المسلم وكيف يزيد قلقك وأنت تؤمن بقضاء الله وقدره فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وكيف تضجر ورزقك وأجلك مسطوران في الكتاب ألا فاعمل فيما يفنى لما يبقى، واصرف همك للآخرة فهي المستحقة للعناء إذ هي دار البقاء.
يا أيها العقلاء والاستخارة والاستشارة تخففان من القلق وسبيلان للراحة وحسن المنقلب .. إنك تستخير الله العليم الخبير في أمور لا تدري ما نهايتها .. وتسلم الأمر لله في تقدير ما ينفعك في الدنيا والآخرة .. أليس ذلك سبيل للراحة والاطمئنان؟ وأنت في الاستشارة تستفيد من عقول الآخرين ولا تحرم تجارب المجربين، وإذا تشابهت ظروف الحياة كان لأهل التجربة رأيهم، وخليق بالعقل أن يستفيد منهم .. إنها هدايا بلا ثمن، ومكاسب تخفف من المكابد والقلق.
ومع ذلك فالدنيا - يا ابن آدم - مركب للسهل والصعب، وميدان للسرور
والحزن، وينقلب أصحابها بين الصحة والسقم والشباب والهرم والفقر والغنى، ومن سره زمن ساءته أزمان، لا بد من ترويض النفس على إقبال الدنيا بالشكر وإدبارها بالصبر، لا بد من توقع المفاجآت ولا بد من الصبر واليقين عند الصدمات.
إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه .. إلا فليكن كدحك في مرضاة الله وليكن نصبك في هذه الدار سبيلًا لراحتك يوم تلقى الله.
ألا كم من مغرور غرته هذه الحياة فألقته المنايا في مهاوي الردى وفكر وقدر فإذا بالروح تبلغ الحلقوم فندم على التفريط ولكن هيهات عن التعويض!
ألا إن سعيكم لشتى فانظر أيها العاقل في نوع سعيك وهل أنت ممن يزرع الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعين على نوائب الحق أم أن سعيك إفساد في الأرض وظلم للخلق ونسيان للخالق، ألا فاعلم أن سرَّك ونجواك وظاهرك وباطنك لا يخفى على الله منه شيء {يعلم السر وأخفى} {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} .
يا ابن آدم ومهما ابتلاك الله بشيء من رزايا الدهر ومصائب الزمان فلا تظن بربك الظنون السيئة فلعل الله أراد بك خيرًا وأنت لا تشعر، ولعل حسناتك قصرت بك عن منزلة علية أرادها الله لك فبلغك إياها بهذه المصائب ألا فاصبر واحتسب وفي الحديث:((ومن يرد الله به خيرًا يصب منه)). رواه البخاري
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يدخل على رسول الله وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم،
قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحُطَّت عنه ذنوبه كما تُحطُّ الشجرة ورقها)). متفق عليه
هكذا يعلمنا نبينا أجر المصائب وعواقب الأذى.
اللهم لا تحرمنا أجرك، وارزقنا الصبر واليقين على أقدارك واجعلنا من سعادة الدنيا إلى سعادة الآخرة، ولا تجعلنا من الخاسرين.
المحاسبة لماذا وكيف
؟ (1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.
إخوة الإسلام قوارع الحقِّ تصكُّ أسماعنا صباح مساء فهل من مجيب؟ والنفس الأمارة بالسوء تحاول أن تردي أصحابها فهل من وقفة ومحاسبة؟
{يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18].
هكذا يكون العرض، وكذلك تكون الدقة في المحاسبة.
قف واسأل نفسك
يا أخا الإسلام ماذا أعددت لهذا اليوم، وكيف تتقيه اليوم؟ وفي ديوان الشعراء (أبي العتاهية):
أأخي إن أمامنا كربًا لها شغب وإن أمامنا أهوالا
أأخي إن الدار مدبرة
…
وإن كنا نرى إقبالها إدبارا
قال العالمون (الماوردي) إن على الإنسان أن يتصفح في ليلة ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه ما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل (2).
وقال آخر: أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال
(1) ألقيت هذه الخطبة في 29/ 5/ 1425 هـ
(2)
(أدب الدنيا والدين/ 342).
وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول بصاحبه إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب ويُمش الحال، ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهَّل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها، وعسر عليه قطافها)) (1).
عباد الله ومن أقوال السلف إلى أعمالهم وحرصهم على محاسبة أنفسهم، فهذا عمر رضي الله عنه يدخل حائطًا فسمعه أحد المسلمين - وهو لا يدري - يقول:
عمر! ! أمير المؤمنين؟ ! بخ بخ، والله يا بني الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك.
وجاءه رجل يشكو إليه وهو مشغول فقال له أتتركون الخليفة حين يكون فارغًا، حتى إذا شُغل بأمر المسلمين أتيتموه، وضربه بالدّرة، فانصرف الرجل حزينًا فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به، وأعطاه الدرة، وقال له: اضربني كما ضربتك، فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك، فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: يا ابن الخطاب كنت وضيعًا فرفعك الله، وضالًا فهداك الله وضعيفًا فأعزك الله، وجعلك خليفة فأتاك رجل يستعين بك على رفع الظلم فظلمته؟ ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه (3).
لله درك يا عمر على هذا العدل والإنصاف والمحاسبة أين نحن من عمر؟ كم نظلم أنفسنا بفعل المعاصي فهل نحاسبها وكم يقع منا ظلم على غيرها فهل نتقي الله ونرجع ونرد المظالم ونستأذن من ظلمنا، ونلوم أنفسنا؟
(1)(ابن القيم: إغاثة اللهفان/ 1/ 95).
(2)
(الزهد لأحمد/ 171).
(3)
(مناقب أمير المؤمنين عمر لابن الجوزي/ 171).
إنها نفوس الكبار .. تُرَّوض على العدل والبر والإحسان وإذا وقعت في الخطيئة عادت تلوم وتستغفر وتحاسب؟
إنها الكياسة التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) (1).
قال الترمذي معنى (من دان نفسه) أي حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة.
أيها المسلمون الأمر في المحاسبة النفس غاية في الأهمية، ولئن كان شاقًا اليوم فعاقبته الخير والفلاح غدًا.
ورحم الله القائل: اقرعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنها تنازع إلى شر غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئًا، فتصبَّروا وتشددوا، فإنما هي أيام تعدُّ، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم)) (2).
عباد الله إننا نخطئ بالليل والنهار .. أفلا نتوب ونستغفر ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا.
تصور يا عبد الله لو أن كل ذنب عصيت الله به رمي في بيتك في مقابله حجرًا؟ ألا يمتلئ البيت بالحجارة؟ .. ألا تضيق عليك هذه الحجارة المسالك؟ ألا تخرب بيتك؟ فهل تتصور أن الله غافل عما تعمل، كيف والملكان الموكلان بك يحفظان ويكتبان {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} . {احصاه الله ونسوه}
(1) رواه الترمذي وحسَّنه وصحَّحه الحاكم والذهبي/ المستدرك 4/ 210.
(2)
(الحلية 2/ 144 عن الحسن)
أيها المسلمون وفي رحمة الحياة وغرورها، ومطالب النفس وتطلعاتها، وتسابق الناس إلى الشرف والسؤدد والرئاسة والمال والجاه والسلطان .. في ظل هذا كله قد تغيب أو تضعف المحاسبة، وعلى قدر الإيمان واليقين بحقائق الآخرة .. تكون المحاسبة قال أحدهم: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا؟ قلت فأنت في الأمنية فاعملي (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} اللهم انفعنا بهدي القرآن أقول ما تسمعون.
(1)(الزهد للإمام أحمد/ 501).
الخطبة الثانية
{الحمد لله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحاسب على النقير والقطمير، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال وهو الصادق الأمين.
يا أخا الإيمان .. أما وقد عرفت قيمة المحاسبة وحاجتنا إليها، بل وغفلة الكثير منا عن ممارستها فقد يرد السؤال وكيف تتم محاسبة النفس وما هي الأمور المعينة على هذه المحاسبة؟
ذكر أهل العلم أن المحاسبة الصادقة تعتمد على أمور ثلاثة هي:
1 -
الاستنارة بنور الحكمة.
2 -
وسوء الظن بالنفس.
3 -
وتمييز النعمة من النقمة فكيف يتم ذلك.
فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان حظ العبد من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أتمَّ وأكمل.
أما سوء الظن بالنفس فحتى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب، ولئن تزكية النفس حاجب عن محاسبتها.
وأما تمييز النعمة من الفتنة فلأنه كم مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجُهَّال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (1).
(1)(مدارج السالكين 1/ 188).
ولله در الإمام أحمد حينما بلغه أن المسلمين في بلاد الروم كانوا- وهم في الغزو - إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء له، وكانوا يرمون المنجنيق باسمه حتى سقط رأس علج من درقته .. فلما بلغ أحمد الخبر تغيَّر وجهه وقال: ليته لا يكون استدراجًا (1).
أيها المسلمون ومما يعين على المحاسبة ما قاله ابن القيم رحمه الله: ومن أنفع المحاسبة أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها على ما خسره وربحه في يومه ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربَّه ويستدرك ما فات (2).
ألا ما أحوجنا إلى هذه الساعة من المحاسبة، وكم نغفل عنها، فهل نمارسها قبيل النوم من الليل والليل- كما يقال - أخطر للخاطر وأجمع للفكر.
يا أخا الإسلام حاسب نفسك على عمل السيئات وهل استغفرت وكفَّرت عنها، وعلى عمل الصالحات هل فرحت بها وسألت ربَّك قبولها؟ حاسب نفسك على نوع الكلام الذي صدر منك، وفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، حاسب نفسك على مطعمك ومشربك، وكل جسد نبت على سحت فالنار أولى به وحاسب نفسك على العدل والإنصاف، والظلم ظلمات يوم القيامة حاسب نفسك على استثمار الوقت، والوقت أغلى ما نملك والمغبون من فرط فيه أو استخدمه فيما يغضب الله.
(1)(السير 11/ 210).
(2)
(الروح لابن القيم/ 79).
والوقت أغلى ما عنيت بحفظه
…
وأراه أسهل ما عليك يضيع
حاسب نفسك على همومك أهي للدنيا أم للآخرة، {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} .
ما نصيب الإسلام من جهدك، وما حض أخوانك المسلمين من اهتمامك ودعائك .. إلى غير ذلك من ألوان المحاسبة .. وإياك أن تكون من الغافلين، أو من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .. إننا بحاجة للمحاسبة فهي سبيل للاستقامة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
أيها الأخوة المسلمون هذه الجمعة آخر جمعة في العام والسؤال بماذا تذكرك آخر جمعة في العام؟
إنها تُذكر- فيما تذكر - بسرعة الزمان، وانفراط الآجال وقرب الارتحال فما العمر إلا جمعة وأخرى وثالثة لا تدرك لا تدرك ما فيها من أحداثٍ وحوادث ورابعة خبر من الأخبار سرت وأخرى أضحكت وأبكت إنها الدنيا متاع الغرور وهي حرية أن تفتح صفحة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} بل صفحات للمرء ماذا قدم من الجمعة إلى الجمعة، ومن أول جمعة في العام إلى آخر جمعة، بل وما رصيده من الخير أو نصيبه من الشر منذ أول جمعة عقلها إلى آخر جمعة أدركها؟
إن الجمعة تذكر ببداية الخليقة ومنتهاها، ففيه خلق آدم وبه تقوم الساعة.
يوم الجمعة يوم الخيرية والأفضلية، فما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدى الله له هذه الأمة المسلمة وأضل عنه أمم اليهود والنصارى.
يوم الجمعة يوم اجتماع المسلمين، ويوم زينتهم، وهو شعار للوحدة واجتماع الكلمة والتآلف والتقارب والسلام والبشر والذكر والدعاء والمزيد من الصلاة
والسلام على النبي المجتبى إنه يوم يتفرغ المسلم من أعماله الدنيوية ليزيد من رصيده الأخروي ومن غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر، ومسَّ شيئًا من طيب أهله، ودنا من الإمام واستمع للخطبة ولم يلغ كتب الله له بكل خطوة يخطوها للمسجد أجر سنة صيامها وقيامها.
كم يفرط المسلمون في سنن يوم الجمعة من التبكير في ساعاتها الأولى إلى إهمال الدعاء في آخر ساعة فيها وتلك الساعة لا يوافيها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه - ما لم يسأل إثمًا - وأرجى ساعات الإجابة ساعتكم هذه، وساعة ما بعد العصر، فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة وانتظارها، وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد وانتظار صلاة المغرب ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
هل أنت من المحتسبين لساعة الإجابة في الجمعة، وهل تحتسب على الله في الدعاء في وقت أنت أحوج ما تكون فيه للدعاء وبأمننا من الآلام واللؤى ما لا يرفع إلا إلى الله، فهل نسأل الله في أوقات الإجابة بكشف البلاء ودفع الضراء.
عباد الله: خمسون جمعة هي محصلة العام تقريبًا هل تذكرت أخي المسلم كم لله عليك من فضل خلالها صحة في البدن وأمن في الوطن، والناس من حولك يتخطفون ويفتنون .. كيف تشكر الله على هذه النعمة؟ إن البلايا والمحن أقدار الله .. وهو يقدرها حيث شاء ويفتن بها من شاء، فهل اتخذت من أيام الرخاء عبرة لأيام البأساء والحق يذكرنا بالفتن الحولية ويقول {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} .
بل قد تكون ممن فتن بمال أو ولد أو مرض أو نحوه وهل لك أن تخرج من البلاء بغير كاشف الضراء {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} .
حاسب نفسك
…
(إن سعيكم لشتى)
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله ..
أيها الأخوة المؤمنون، الناس في هذه الحياة كلُّهم يسعى ولكن سعيهم مختلف {إن سعيكم لشتى} وإذا اختلف السعي اختلف الجزاء {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} إنه مقرر عند العقلاء أن الخير ليس كالشر، وليس الهدى كالضلال وليس الصلاح كالإفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى وليس من صدَّق وآمن كمن كذب وتولى .. إن لكل طريقًا ولكل مصيرًا، ولكل جزاء وفاقًا .. ولا يظلم ربك أحدًا.
يا عبد الله إلى أين تسعى، وما الهدف من مسعاك، وما نتائج هذا المسعى؟ تلك أسئلة راشدة حق على كل مسلم أن يسأل نفسه إياها .. فهي مُوجهة للمسيرةٌ، وقائدةٌ بإذن الله للفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة.
واعلم يا عبد الله أنه لا وقوف في الطريق البتة لكن هل تتقدم أم تتأخر، قال تعالى:{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} .
وإذا ضل سعي أكثر العالمين والله يقول عنهم {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} فعلى عباد الرحمن أن يضبطوا مسيرهم، وأن يحددوا أهدافًا عالية لمسعاهم.
(1) ألقيت هذه الخطبة في 1/ 2/ 1429 هـ
وصدق الشاعر:
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب
…
وضاع وقتك بين اللهو والعب
يصلحون أنفسهم، ويسهمون في إصلاح الحياة والأحياء من حولهم ويتأكد السعي المثمر حين يتأمل الساعي قصر الحياة الدنيا، وكثرة طرق الضلال، وتنوع ميادين الفساد والإفساد؛ فمن خلّص نفسه من هذه الأشواك وتجاوز هذه المغريات فهو السعيد الراشد، {وقد أفلح من زكاها} .
ويتأكد السعي المثمر كذلك بالنظر لنعيم الآخرة وطول المكث فيها {فهي الحيوان لو كانوا يعلمون} {وأن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون} :
وشمس عمرك قد حان الغروب لها
…
والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جدَّ وانقشعت
…
عن أفقه ظلمات الليل والسحب
أجل لقد خطى على هذه الأرض أنبياء وعظماء، وأغنياء، وساسة وقادة وكبراء وما هي إلا برهة من الزمن وإذا الأرض تغنيهم في طورها ولم يبق إلا أخبارهم تروى {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} {ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا} ؟ وكان الخبر بعدهم على حسب سعيهم وكان ذكرهم مقرونًا بنوع أعمالهم أجل إنهم أقوام باعوا أنفسهم لله، وجاهدوا في سبيله، ودعوا الخلق إلى عبودية الخالق فأولئك سعيهم مشكور، وأجرهم محفوظ، وأولئك في جنات مكرمون وآخرون دسوا أنفسهم ودنسوها بالمعاصي، وأوبقوها ولا بد للقيام بأمر الله من عاملين عامل القوة وعامل الإخلاص فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي للإخلاص يخدل، فمن قام بهما كاملًا فهو
صديق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب ليس وراء ذلك إيمان .. كذا قرر الإمام الذهبي (1) وفي التنزيل {خذ الكتاب بقوة} {ألا لله الدين الخالص} بالسيئات والمنكرات .. وقد خابوا وخسروا ولم تكن خسارتهم في الدنيا بل خسروها والآخرة وذلك هو الخسران المبين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» والحديث يتمم لكلام قبله قال صلى الله عليه وسلم في أوله حاحثًا على جُمل من الأعمال الصالحة (الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك (2).
يا مسلم يا عبد الله وتشتد الحاجة للسعي الراشد في أزمان الغربة، وفساد الزمان، وقلة الأعوان .. إنهم الغرباء القابضون على دينهم كالقابض على الجمر، ولهؤلاء قال صلى الله عليه وسلم ((طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) (3).
عباد الله المشي في مناكب الأرض لابتغاء الرزق، أو للنظر والاعتبار فيما خلق الله وبرأ أمر مشروع لكن لأنه لا ينفك عن العبودية لله والشكر على تذليل الأرض وبسطها ودحوها وتذكر المبدأ والنشور وتأمل قوله تعالى:{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير} .
(1)(السير 11/ 234).
(2)
رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (صحيح الجامع 4/ 20، 21).
(3)
رواه أحمد عن ابن عمرو بسند صحيح (صحيح الجامع 4/ 12).
أجل لقد عرف الناس مسلمهم وكافرهم، وفي أقصى المعمورة وأدناها كيف تتحول هذه الأرض المذللة بإذن باريها إلى خَلْقٍ آخر يُدمِّر ما حوله في ثوان معدودة .. لا يملك البشر مهما أوتوا من قوة تذليلها ومنع كوارثها إنها حين تضطرب وتهتز وتقع الزلازل والبراكين المدمرة يتحطم كل شيء على ظهرها بناه الإنسان وشيده لعدة قرون أو نغوص في أعماق البحار والمحيطات حين تقع خسوف هنا أو هناك وتغيب قرى بأكملها وأناس وحيوانات في البر والبحر فسبحان القوي العزيز. وكذلك يشهد الناس حين تثور العواصف الحاصبة التي تدمر وتخرب، وتحرق وتصعق، والبشر بإزائها ضعاف لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا حتى يأخذ الله بزمامها ويُسكِّن رياضها، ويوقف أعاصيرها فتنقاد وتلين؟ فمن غير الله يبدئ ويعيد؟ الله القوي العزيز وبيده ملكوت كل شيء:
قل للطبيب تخطفته يد الردى
…
من يا طبيب بطبِّه أرداكا
قل للمريض نجى وعوفي بعدما
…
عجزت فنون الطب من عافاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
…
شهدًا وقل للشهد من حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّه
…
فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان
…
أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته
…
حمدًا وليس لواحد إلاكا
إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبة الله من القوة، عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم، ولكن هذا الكون الهائل زمامه بيد خالقه، ونواميسه من صنعه، وكل شيء بقدر الله وتقديره {إنا كل شيء خلقناه بقدر} وحين ينسى الإنسان هذه الحقائق فيطغى ويغتر وينخدع، بما أوتي من علم أو مال أو قوة، فإنه يصبح مخلوقًا مسيخًا مستكبرًا مقطوعًا عن الله ولا يبالى الله به بأي واد هلك هذا النوع من الخلق!
ومع كتابة القدر وتحديد الآجال، والسعادة والشقاء .. فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب الموصلة للنجاة دون تواكل سلبي .. فعول قدري عن العمل المثمر وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومع مخصرة فنكَّس (أي خفض رأسه وطأطأه نحو الأرض) فجعل ينكث بمخصرته، ثم قال ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} .
اللهم اجعلنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ورزقنا عملًا نافعًا وعملًا صالحًا.
الخطبة الثانية
أيها المسلمون ومع حلول الإجازات يشتد سعي الناس وتكثر سفراتهم وترحالهم، ففريق يشد الرحال لزيارة المسجد الحرام، وأداء العمرة والطواف والسعي، والصلاة في البيت العتيق، والصلاة هناك بمائة ألف صلاة وأكرم بها من رحلة للبيت الحرام.
وآخرون يشدون رحلهم إلى المسجد النبوي حيث مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ودار الهجرة، ومآزر الإيمان .. والصلاة هناك عن ألف صلاة.
كما أن الصلاة في مسجد قباء كعمرة كذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وثمة من يسافرون لصلة الأقارب والتواصل مع الأرحام، ومن وصل الرحم وصله الله ومن قطعها قطعه الله .. وكم هو فساد في الأرض قطيعة الرحم والله يقول {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وكم هو جميل أن يتعلم المسلم من نسيه ما يصله به رحمه، وصلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر وكذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وفريق يرحلون إلى البراري ويصوون الصغار للنزهة وفسحة النفس، والتأمل في أرض الله الواسعة.
وأيًا كانت جهة السفر .. فهو مرهون بحس أو سوء نية المسافر وما أحلى رفقة السفر يتعاونون على البر والتقوى ويقيمون الصلاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يحسنون ويتصدقون على المحتاج، ويعظون قومًا غافلين
(1)(الجامع الصغير 3/ 265).
(2)
(صحيح الجامع 3/ 45).
عن ذكر الله، فإن لم تهدوا درهمًا أو دينارًا، أهدوا كلمة طيبة، وكتيبًا مفيدًا أو شريطًا نافعًا تحمل أعلام النبوة وتهدي للتي هي أقوم.
عباد الله وليس من لوازم السفر السفور والتبرج، والتحلل من الفضيلة، والإقدام على الرذيلة .. ليس يسوغ في السفر كشف العورات ولا التساهل في الجماعات وثمة مخالفات يحسن تنبيه بعض المتنزهين بها ومن ذلك عدم تستر النساء، وركوب الدراجات أمام الرجال .. مع قلة الحياء وربما انقلب الفرح إلى أتراح حين يسقط طفل امرأة، ويصاب إصابات بالغة، وربما عرضت صور النساء على أجانب وربما كانت فضيحة للمرأة وهي لا تشعر كما تساهل الناس في التصوير، وتساهلوا مع الفتيات يتجولن في البراري لوحدهن وبعيدًا عن أهاليهن، وربما وقع المكروه من ضعف الرقابة والتساهل.
كما يتساهل بعض أهل البراري بالرقص والغناء واستعاضوا به عن الشكر والذكر .. وليس يستوي لهو الحديث .. وترتيل القرآن فاشكروه ولا تكفروا نعمة يا أيها الأولياء أهاليكم وأولادكم وبناتكم أمانات في أعناقكم، وكما تحوطونهم في حضركم وحال إقامتكم فكذلك فحاجوهم في حال سفركم وترحالكم.
أيها الناس وكما ترعوا أماناتكم في الذراري والأموال فارعوا أمانتكم في الحفاظ على الأوقات والاستفادة من العمر، وليس ثمة تعارض بين نزهة النفس وحفظ الوقت فلا يدري المرء أنحترمه ريب المنون في حال ** أو حال الإقامة.
يا أهل الإسلام إن جهدًا بُذِلَ لتربية أبنائكم وبناتكم من خلال المؤسسات العلمية والتربوية بمراحلها كافة، لا ينبغي أن تُهدر في بضعة أيام من هذه الإجازة وإن أخوانًا لنا يعيشون المسعفة والحصار لا ينبغي أن ننساهم أينما حللنا أو ارتحلنا .. ولا تحقروا دعوة صادقة بظهر الغيب قد يكشف الله بها كربًا .. أو يشفى مريضًا، أو يفك مأسورًا، أو ينصر مظلومًا.
وقد نقل ابن القيم رحمه الله في الفوائد أن المواساة للمؤمنين أنواع، مواساة بالمال ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب إتباعهم له (1).
أيها المؤمنون عظموا ربكم ووقروه، ألا وإن من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره، فإنك توقر المخلوق وتجلُّه أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، والله يقول {ما لكم لا ترجون لله وقارًا} [نوح: 13].
أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه، وقيل: المعنى ما لكم لا تعرفون لله حقًا ولا تشكرونه، أو لا تعرفون حق تعظيمه (2).
وتوكلوا عليه حق التوكل، وقد قال العالمون التوكل على الله نوعان: أحدهما توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
قال ابن القيم فمن توكل على الله في النوع الثاني فإن النوع الأول (3).
اللهم اجعلنا ممن استهداك فهديته وتوكل عليك، اللهم اجعل عملنا مبرورًا وسعينا مشكورًا.
(1)(الفوائد/ 222).
(2)
(الفوائد/ 242).
(3)
(الفوائد/ 112)
قيادة المرأة للسيارة
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ..
من الذي جعل من المرأة قضية؟ تُثار بمناسبة وبدون مناسبة وتُطرح في كل حوار وإن كان الحوار بعيدًا عن شؤون المرأة؟ لماذا هذه الإثارات؟ ومن المستفيد من هذه الاستفزازات؟ من أنصار المرأة حقًا ومن خصومها؟ ومن النَاصحون ومَنْ المغموسون في اجترار قضاياها؟
إن الإسلام لا يُجاري في إعطاء المرأة حقوقها، وفي تهذيب أخلاقها، والحرص على عفتها، وصون كرامتها. ولن يقوم أي نظام أرضي بديلًا عن الإسلام وإن وهم الواهمون، أو خُيل للمستغربين والمفتونين بحضارة الآخرين غير ذلك.
إن المتأمل في نصوص الوحيين يجد مصطلحات عدة بشأن المرأة تجتمع على العفة والحياء، والقرار والصون لهذه الدرة الثمينة والبعد عن الخلطة بالرجال ونحوها من سلوكيات رفيعة نظيفة يشيد بها الإسلام ويدعو لها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أليس القائل:((وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)) هو العليم الخبير؟
وأين نحن جميعًا من قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} .
ألم يشد القرآن بحياء المرأة {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء}
(1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 4/ 1426 هـ
[القصص: 25] ومن قبل عرض القرآن كنموذج المرأة في الخروج من البيت فالحاجة شرط لها، والبعد عن الاختلاط بالرجال ضمان لتزكيتها {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} [القصص: 23] فشيخوخة الأب والحاجة للماء أخرجت هاتين المرأتين والانتظار حتى يصدر الرعاء من الرجال خلق تجملت به هاتان المرأتان؟
وليس يخفى أن أزكى النساء أمهات المؤمنين .. ومع هذا قيل لهن {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} [الأحزاب: 32].
وإدناء الجلابيب وإرخاء الحجاب، وغضُّ البصر للرجل والمرأة كل ذلك مفردات كريمة جاءت نصوص الشريعة حافلة بها.
وفي حقوق المرأة وواجباتها كفل الإسلام لها ذلك {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} [البقرة: 228]، والنهي واضح في عضلن أو إرثهن كرهًا {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن} [النساء: 19] وفي حسن التعامل معها وتقدير مشاعرها جاءت النصوص الشرعية تقول: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))، ((استوصوا بالنساء خيرًا))، ((لا يكرمهن إلا كريم)).
أيها المسلمون إذا كانت تلك بعض نصوص الإسلام تجاه المرأة فأهل الإسلام أكثر الناس اعتدالًا وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم تعاملًا مع المرأة .. وعلى قدر التزام المرء بالإسلام وفهمه وتطبيقه لنصوص الشريعة يكون قدر المرأة عنده وتتجلى أخلاقياته في التعامل معها دون إسفاف وقهر كالذي مارسته الجاهلية الأولى ودون إفساد وفتنة كالذي تمارسه الجاهلية المعاصرة.
في عالم اليوم محاولات جادة لتنحية المرأة عن قضاياها المصيرية والهامة، وإشغال لها بقضايا استهلاكية هامشية ..
أين الطرح بقوة لرسالة المرأة في الإسلام، ودورها في الدفاع عن قيمها وإسلامها في زمن بات التهجم على القرآن ظاهرًا للعيان، والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام يمارس من خلال وسائل الإعلام وتدعمه دول كبرى أين موقع المرأة المسلمة في عالم تتخذ المرأة الغريبة والشرقية مكانها لتعبر عن حضارة وقيم عالمها ومجتمعها؟ وهي تتقصد المرأة المسلمة بالغزو والتذويب والاستلاب والنهب؟ أين المؤتمرات الإسلامية العالمية للمرأة على غرار مؤتمر المرأة في بكين حيث التخطيط والدعم والإعلام؟ أين الحديث عن المطلقات وأين الحديث عن العنوسة والعانسات أين الدراسات الجادة لدور المرأة في التنمية بمفهومها الشامل حيث تبدأ انطلاقتها من البيت وتربية النشء في زمن ربَّات الخادمات والاستقدام المسعور للسائقين والخدم وفي هذا الجو لا تسأل عن ضعف التربية، وترهل المرأة، والاستنزاف الاقتصادي، والفساد القيمي والانتحار الخلقي وما ينشر في الإعلام من جرائم وموبقات عظيم عظيم وما يخفى ربما كان أعظم.
أين الصيحات الصادقة والمنادية بتأمين كافة المستلزمات الصحية للمرأة من مستشفيات خاصة بالمرأة وعناية طبية فائقة، وتخفيف ساعات عملها حفاظًا على صحتها وإبقاءً لرونق أنوثتها؟
وفي التعليم والعمل من ينادي بتحسين تعليم المرأة، وصياغة مناهجها باستقلالية كاملة تخدم رسالة المرأة في بيتها، وتؤهلها للأعمال المناسبة لطبيعتها، وتثبِّت هويتها في معترك الصراع العالمي، ونصلها بالتبعية المعاصرة، ويصح على عالمها المعاصر دون عزلة أو تذويب وفي عملها ثمة مطالبات ناصحة لتخفيف عن ساعات العمل ونصابها والتدريس على المرأة مع الاحتفاظ بكامل مرتبها .. وثمة دعوات صادقة لتخفيف سنوات الخدمة حتى تحصل المرأة على التقاعد المبكر ..
لتتفرغ لرعاية بيتها وتربية أطفالها وتوفير جو السعادة لزوجها، مع الاحتفاظ بحقوقها المالية وحتى تتيح الفرصة لأخت لها على قائمة الانتظار الوظيفي.
أين الجمعيات والهيئات المتابعة لعضل المرأة والاعتداء على حقوقها سواء من قبل الزوج أو الأب أو غيرهم أين المحامون عنها والمطالبون بحقوقها قضايا كثيرة يمكن أن تُدرج في الاهتمام بالمرأة ولكنها في سياق العفة والكرامة، وفي محيط الصدق والعمق، والنصح والأدب والتوازن والاعتدال.
أما اختزال قضية المرأة في أمورها مشية .. فذلك نوع من التلاعب بقضايا المرأة .. بل هو يسير في اتجاه الاستفزاز، وإثارة الجدلية وهدر الأوقات والجهود، وبث روح التنازع والافتراق.
خذوا على سبيل المثال (قيادة المرأة للسيارة) هل هي بالفعل حاجة ماسة لا تستقر حياة المرأة والأسرة والمجتمع إلا بها؟
ولا تصلح دنيا الناس إلا بها؟ وهل نكرم المرأة بقيادتها للسيارة أم أن مهنة القيادة لا تحتل قيمة مرموقة حين تصنف المهن؟
إن القضية في نظر المنصفين لا تعدو أن تكون موضوعًا جانبيًا متأخرًا في الترتيب لمن يرون ترتيب الأولويات بعيدًا عن الإثارة والضجيج وحين نفكر بهدوء هل قيادتها للسيارة ستخفف أم تزيد من مشكلاتنا الاجتماعية، والاقتصادية والأمنية فضلًا عن تأثيراتها القيمية وتداعياتها الأخلاقية.
وإذا كنا نهتم بالدراسات ونعني بالتقارير، ونثمن النتائج فثمة دراسات هادئة تبرز النتائج المتوقعة لقيادة المرأة للسيارة وتشير هذه الدراسة إلى ما يلي:
1 -
قيادة المرأة للسيارة ستضيف أعباء اقتصادية على المجتمع، وسترهق كوامن كثير من الأسر التي تعاني حتى توفر سيارة واحدة .. فكيف إذا أضيف إليها للأثاث مثلها .. وما يتتبعها من نفقات السير والمرور؟ والوقود والإصلاح.
2 -
وقيادة المرأة للسيارة ستضيف مشكلات مرورية هائلة، وستحدث من الزحام ولاسيما في المدن الكبرى ما سيكون على حساب الوطن والمواطن.
3 -
وستضيف أعباء أمنية كثيرة ذات مظاهر خطيرة هذا فضلًا عن المظاهر الخلقية وانتهاك القيم، وخدش الحياء والخلق.
4 -
أما الزعم بحلها لمشكلة السائقين فالتجربة الموجودة في دول الخليج مثلًا تؤكد أن نسبة 80% من الأسر الخليجية لديهم سائقون مع كون قيادة المرأة للسيارة متاحة (1).
وبكل حال فخسارة الأعراض أشد من خسارة الأموال (2).
أيها الناس إن بلادنا غير محتاجة لمزيد من القلاقل والفتن، وليس فيها متسع للاستفزازات وردود الأفعال، وكفانا تجارب من سلفنا بل ويمكننا أن نأخذ الدرس من تجارب وقعت في محيطنا، وعلى سبيل المثال دخلت المرأة عالم الأسهم وهذا حلال لها، لكنها حين مارسة الاقتصاد بشكل مهم فماذا جنت وبماذا أخرجت؟ إليكم اعترافات بعضهن عبر عناوين سريعة نشرتها صحافتنا المحلية وتقول على السنة النساء وسوق الأسهم ((خرب الآلاف وأصبت بانهيار)).
وأخرى تقول: ((انتظر أن يتراجع زوجي عن الطلاق والطامة حدثت مع هبوط سوق الأسهم)) وثالثة تقول: ((الطمع أعمى بصيرتي وأرى السخرية في عيني زوجي يوميًا)) (3).
لقد كفل الإسلام لها حق النفقة على الأزواج .. ولئن تعيش المرأة سعيدة
(1)(د. العشماوي، الجزيرة 20/ 4/ 1426 هـ).
(2)
(الشيخ الفوزان في رده على آل زلفه/ المدين - 26/ 4/ 1426 هـ).
(3)
(حمد القاضي/ الجزيرة 20/ 4/ 26 هـ).
آمنة مطمئنة .. وإن لم تسجل في قوائم المساهمين والتجار، خير لها من أن تملك القناطير المقنطرة .. ولكن على حساب سعادتها .. وأنوثتها .. وتكدير صفو عيشها مع زوجها وأولادها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
الخطبة الثانية
أيها المسلمون: قيادة المرأة للسيارة قضية محسومة في بلادنا بفتوى شرعية وبقرار سياسي، ونحن في بلد تحتكم إلى الشرع، ونطيع وليَّ الأمر أما الفتوى فقد صدرت من أعلى هيئة شرعية (هيئة كبار العلماء) مدعومة بالدليل، مدللة بفقه الواقع، معتبرة للمآلات مقدرة للنتائج، أليست هذه الهيئة محل ثقتنا .. أليست فتواها معتبرة لرجالنا ونسائنا؟
وإذا كانت فتواهم غير مقنعة عند فئة قليلة في المجتمع فهي بحمد الله محل للثقة والاعتبار عند غالبية المجتمع.
وهل يراد من هذه الإثارات لقيادة المرأة للسيارة بين الفينة والأخرى هز الثقة بهذه المرجعيات الشرعية في بلادنا؟ هل يسوغ أن نسمع للهيئة الشرعية العليا في بلادنا، فيما نشاء ونحب ونتجاهل رأيها حين لا نشاء ولا نحب؟ إنها انتقائية يرفضها العقل المنصف ويردها الشرع المطهر، فالحكم الشرعي إذا صدر من أهل الفتيا والعلم فليس لمسلم أن يكون له الخيرة {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا} .
أليس الله يقول لنا {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} .
ولقد سُئل أهل الذكر فأجابوا، وأُحيل موضوع قيادة المرأة للسيارة لهيئة كبار العلماء فأفتوا .. فماذا بعد؟
أنرغب أن تكون أمور حياتنا فوضى، كل يتدخل فيما يعنين وما لا يعنين، وكل يهرف بما يعرف وما لا يعرف، وكل يجعل من نفسه حكمًا ومفتيًا هذا يحلل وذلك يحرم، وهذا يخطئ وذاك ينتقد، وخامس يجرم وسادس يتهم .. وهكذا
تتحول أمورنا إلى فوضى عارمة، وفتن عمياء تفرق جمعنا وتذهب ريحنا، ويفرح العدو حين تكون المعركة محتدمة بيننا ألسنا نعطي القوس باريها في أمور السياسة والاقتصاد وننتقد حين يتدخل المهندس في عمل الطبيب أو يستشار الطبيب في عمل هندسي وهكذا في أمورنا الأخرى فلماذا نحيد ونتجاوز في مسألة حُكْم قيادة المرأة للسيارة عن الهيئة الشرعية التي اختارها الحاكم وزكاها .. وأحال إليها الأمر ورضي فتواها؟
ولقد أحسن نائب رئيس مجلس الشورى صنعًا وكان حصيفًا ومقنعًا ومنطقيًا ومنصفًا حين قال المسألة شرعية ولهيئة كبار العلماء الكلمة وقال المهندس محمود طيبة طيّب الله وجهه ((إن المسألة يجب أن تناقش من قبل أعلى هيئة شرعية في البلاد، وهي هيئة كبار العلماء لأنها سبق وأن أفتت في الأمر (1).
على أن قضية قيادة المرأة للسيارة في بلادنا سبق وإن صدر فيه قرار سياسي، حين كانت شرارتها الأولى في أيام أزمة الخليج الأولى في التسعينيات وحينها صدر قرار الدولة بمنع قيادة المرأة للسيارة، بل وأكثر من هذا عوقبت اللاتي خرجن من النساء بالفصل من أعمالهن واستنكار تصرفاتهن فهل يريد المثيرون لهذه القضية من جديد إعادة الأمر جذعة ومراغمة الحكم الشرعي والقرار السياسي؟ إن ذاكرتنا تحتفظ بهذه المواقف ولن تنسى هذه الأحكام المنهية للفقه.
أيها المؤمنون إن قيادة المرأة للسيارة عند أولي النهى لا يتعلق بقضية واحدة ولا بحكم فقهي محدد بل يستتبعها ويلحق بها أمور أخرى، لا بد أن نعيها ويتفطن لها حين تثار هذه القضية ومن التسطيح أن نقارن بين ركوب المرأة
(1)(جريدة المدنية، ملحق الرسالة 26/ 4/ 1426 هـ).
للحمل وقيادتها للسيارة في زمن السعار الجنسي، والاختناق المروري، وغزو الفضائيات فهي أولًا جزء من مشروع كبير طالما دندن حوله المغموسون في ثقافة المرأة، والمنبهرون بوضع المرأة الغربية أنه جزء من تغريب المرأة وإن شئت فقل تغريب المجتمع والقضية كذلك رهان تسابق عليه فئة قليلة، وتتطلع من خلاله إلى التمرد على السلطة الشرعية .. وعلى القيم والأعراف وتريد أن تفرض إرادته الفئة القليلة على الأغلبية الساحقة.
ومن هنا كان وزير الداخلية واعيًا ومدركًا لطبيعة مجتمعنا حين قال مؤخرًا إن القضية تتعلق بالمجتمع، وحين لا نحتاج إلى الاستفتاء في مسألة صدر الحكم فيها .. فلن نكون الاستفتاء النزيه لو وقع في مصلحة المطالبين بقيادة المرأة للسيارة.
وقيادة المرأة للسيارة لا ينبغي أن تفصل عن مشاكلنا الاقتصادية وإن دلّس فيها المدلسون، ولا عن اختناقاتنا المرورية وإن تجاهلها المتعجلون، ولا عن قيمنا وأعراضنا وإن تسامح فيها المتسامحون.
قيادة المرأة للسيارة ستنتقل المرأة من امرأة مخدومة إلى امرأة خادمة وستنقلها من ظلال المنزل إلى وهج الشمس ومن أمين القرار ونعومة المظهر إلى خطر الإطارات المتفجرة وذبول الزهرة بالتعب والمعاناة.
من يكرم المرأة أهو الذي يستجيب لطلباتها ويوفر حاجياتها أم الذي يسوقها لتذهب بنفسها في حمأة الظهيرة، ويضطرها للخروج بنفسها أو بمن تعول في ساعات متأخرة من الليل في الحالات الطارئة؟
كم تتعرض النساء للمضايقات من قبل السفهاء وهن مترجلات وفي خطوات محدودة .. فكيف سيكون الحال إذا قادت السيارة بعيدًا عن وليها وبيتها؟
إن التحرش الجنسي ظاهرة لا تُنكر .. وإذا مورست مع المرأة وهي في بيتها
أو في السوق لقضاء حوائجها وهي في محيط الناس فكيف سيكون حال ضعفاء النفوس مع المرأة حين تقود السيارة في مكان تقل فيه الرقابة ويغيب الشهود؟
إننا - بقيادة المرأة للسيارة - نعرضها لمخاطر وأدواء هي في غنى عنها وطرقنا وشوارعنا لا نتحمل أعباد سيارتها ولا تنتعش صحيًا بعادم كربون مركبتها.
إننا نثق بالمرأة لكننا نكرمها حين نقود السيارة بها .. ونثق بالمرأة ولكننا نحافظ على أنوثتها وجمالها حين نتحمل أعباء القيادة عنها.
والواقع يشهد أن المرأة لم تتضايق من وضعها، ولم تشتك إلينا أو تطالبنا بتوفير القيادة لها ولكن البعض منا يريد تحقيق قاربه على أكتاف النساء وإن كان أولئك صادقون في المطالبة لها فليطالبوا بحاجيات أساسية للمرأة سبقت الإشارة إليها، وليرفعوا الظلم عنها من فئات تمارس الظلم بحقها.
إن المرأة بخير في بلادنا .. والزاعمون لتحرير المرأة إن كانوا صادقين فليسهموا في رفع الظلم الواقع على المرأة حين تحتل بلادها ويصغي العاملون لها لقد عانت المرأة وما زالت في فلسطين من ظلم الصهاينة فماذا صنع أدعياء تحرير المرأة لها واليوم تعاني المرأة في العراق ألوان الظلم والاستبداد والحرب والاستعمارية والتصفية الطائفية فماذا صنع الرافعون لعقيدة تحرير المرأة؟
الحج والحملات
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
…
أخوة الإسلام الحج ركن من أركان الإسلام، وفريضة على كل مسلم ومسلمة استطاع إليه سبيلاً، إنه شعائر ومشاعر وأحكام ومناسك، سنة الأنبياء، ونهج المرسلين، أذَّن به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهبط موسى عليه السلام ملبيًا حتى أتى ثنية هَرْشَ، ولبى يونس بن متى على ناقة حمراء جَعْدَة، وقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ليهلَّن ابن مريم بفجِّ الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليَثْنِيَّنهما (أي يقرن بين الحج والعمرة)(2).
وفجُّ الروحاء: مكان بين مكة والمدينة كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحجة الوداع وهذا يكون بعد نزول عيسى عليه السلام من السماء في آخر الزمان (3).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًا وقد صححه بعض العلماء وضعفه آخرون. صححه ابن حجر وضعفه الألباني (4).
أيها المسلمون وكما أن الحج اتباع للمرسلين، واقتداءً بمحمد عليه الصلاة والسلام، فهو من جانب آخر مخالفة للمشركين، وإظهار للبراءة منهم ومن أديانهم وعوائدهم يتجلى ذلك في كثير من مشاعر الحج، وفيما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم
(1) هذه الخطبة ألقيت في 24/ 11/ 1427 هـ
(2)
رواه مسلم 1252.
(3)
(محمد فؤاد عبد الباقي مسلم 2/ 915).
(4)
(البعداني: أحوال النبي في الحج/ 27).
على الملأ من تقصد مخالفة المشركين، وتظهر المخالفة في ابتداء التلبية فهي خالصة لله عند المسلمين (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك).
أما المشركون فشركهم يبدأ من التلبية حيث يقولون (إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك).
والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يقفون بعرفات، على حين ينتهي المشركون خاصة الخمس بالوقوف عند المزدلفة ويقولون: نحن أهل الحرم (لا نفيض إلا من الحرم) والرسول والمسلمون يفيضون من عرفة بعد مغيب الشمس، ومن مزدلفة قبل طلوعها، أما المشركون فكانوا يفيضون من عرفة قبل المغيب، ومن مزدلفة بعد الشروق، وكذلك خالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول:(هدينا مخالف لهديهم)(1).
إلى غير ذلك من أمور خالف فيها الرسول والمسلمون المشركين حتى قال ابن القيم رحمه الله: (استقرت الشريعة ولاسيما في المناسك على قصد مخالفة المشركين)(2).
إنها البراءة من الشرك والمشركين ومخالفة نهجهم، والتأسي بالأنبياء وهديهم، وكذلك يؤسس الحج لقضية الولاء والبراء، والإتباع والانقياد لهدي المرسلين عليهم السلام.
عباد الله وكما يذكر الحج بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين فهو يذكر بالتقوى .. والمتأمل في عدد من آيات الحج يجدها تختم بالتقوى ففي قوله تعالى:
(1) السنن الكبرى للبيهقي 5/ 125 والمستدرك 2/ 304 وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
شرح ابن القيم لسنن ابن داود (5/ 146).
{وأتموا الحج والعمرة لله} ختمت الآية بقوله: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} .
وفي قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} ختمت بقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} .
ومثل ذلك في قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} ، وفي قوله تعالى {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينال التقوى منكم} .
إنها آيات تذكر المسلم عمومًا، والحاج خصوصًا بتقوى الله ومراقبته وهذه الرقابة في أيام معدودات يراد لها أن تتحول إلى منهج وسلوك مستديم في الأيام التاليات فيبقى المسلم متقيًا لله في كل حين.
أيها المسلمون عظموا شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .. فليس الحج رحلة تتحرك فيها الحافلات والأجساد من موقع إلى آخر دون وعي بل الحج رحلة قدسية يجتمع فيها شرف الزمان وشرف المكان، وشرف العمل أما الزمان فأيام عشر ذي الحجة تلك التي أقسم الله بها في كتابه {وليال عشر} وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفضل أيام الدنيا أيام العشر» - يعني عشر ذي الحجة - قيل ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه في التراب) (1).
أما فضل المكان فهو بيت الله الحرام، والمشاعر العظام (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا).
أما فضل العمل فهو لأفضلية العمل الصالح في عشر ذي الحجة (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله .. الحديث
(1) رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني.
أيها الحاج إذا عرفت شيئًا من مقاصد الحج وقيمته وعظم مشاعره فخليق بك أن تعلم الحج المشروع بأركانه وواجباته وسننه حتى تعبد الله على بصيرة .. وكم هو مؤلم أن يذهب عدد من الحجاج للحج وهم يصنعون كما صنع الناس، ولو أخطأ من حولهم لأخطأوا معهم، وهنا أنبه إلى أمرين مهمين:
الأول أن يقرأ الحاج عن الحج ما يعينه على فهم المناسك كما أمر الله وكما سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «خذوا عني مناسككم» والكتب والمطويات والأشرطة عن الحج متوفرة بحمد الله وبعدد من اللغات.
ثانيًا: أنبه إلى أهمية اختيار الرفقة في الحج، فرفقة الحج تختلف عن رفقة الرحلات الأخرى فلابد أن يختار الحاج رفقته بعناية ويحرص على من يعينه على أداء نسكه، يذكره إذا نسي، ويعلمه إذا جهل، ويعينه على تعظيم شعائر الله أيها الأولياء حري بكم أن تبرؤوا ذممكم بالحج بمن فرض عليه الحج من أهليكم وأولادكم ذكورًا أم إناثًا وهو مستطيع ولم يحج بعد ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد حج بنسائه كليهن معه (1).
كما خرج بضعفة أهله معه (2).
بل حرَّض على الحج حتى من كان مريضًا منهم فقد دخل صلى الله عليه وسلم على ابنة عمه ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها وهي عليلة فقال لها: ما يمنعك يا عمتاه من الحج؟ فقالت: أنا امرأة سقيمة، وأنا أخاف الحبس، فقال فأحرمي واشترطي أن محلك حيث حبست (3).
(1)(ابن القيم: زاد المعاد 2/ 106).
(2)
(البخاري 1678، 1680، مسلم 1293).
(3)
البخاري 5089، صحيح سنن ابن ماجه 2375.
وفي رواية أنه قال لهما: أما تريدين الحج هذا العام؟ (1).
فهل نتفقد أهلينا وذوينا لأداء ما افترض الله عليهم، لاسيما وقد جاء الأمر صريحًا في التعجل للحج حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم (تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)(2).
عباد الله .. وإذا خرجتم للحج فاعلموا أن الحج مدرسة يربى من خلالها .. كيف لا والحج شعار للوحدة بين المسلمين، لباسهم واحد، وإهلالهم واحد، ومناسكهم واحدة .. يستوي في الحج الضعفاء والأقوياء، والمأمورون والأمراء، والأغنياء والفقراء.
كم تسيل بهم مناسك الحج زرافات وجموعًا يختلط فيها العربي بالأعجمي وأهل المشرق بأهل المغرب، والصغير والكبير والذكر والأنثى؛ فلا إله إلا الذي خلقهم، ولا رب إلا الذي وحدهم على هذا النسك العظيم في الحج فرض ومواطن تُذرف فيها الدموع بكاء وخشية لله، وفي الحج مناسك يبلغ الزحام والتدافع حدَّ الموت .. وحق للحاج في مواطن البكاء أن يبكي وفي مواطن التدافع أن يترفق بإخوانه المسلمين وفي الحج أنظمة ومنظمون ورجالات تعمل، ومؤسسات تبذل ومن حق هؤلاء على الحجاج أن يقدروا جهدهم، وأن يسمعوا لتوجيهاتهم، وأن يشكروا للباذلين بذلهم، وللميسرين للحج جهودهم وفي الحج فرض للعلماء وطلبة العلم والدعاة أن يعلموا وأن يفتوا وأن يدعوا إلى الله بالحسنى فهي مناسبة إسلامية عالمية.
وفرص للمحسنين أن يحسنوا وكم هو مبهج للنفس أن ترى وجودًا للمحسنين
(1) صحيح سنن ابن ماجه 2376.
(2)
رواه أحمد في المسند 2868 وهو حسن لغيره. (أحوال النبي في الحج/ البعداني/ 142).
في كل مكان .. هذا يوزع طعامًا وآخر يوزع ماءً أو عصيرًا أو لبنًا، وثالث يوزع كتبًا أو أشرطة نافعة للحجاج ولا يعذر أحد على تقديم الخير والإحسان .. فمن أسعف مريضًا، أو ساعد عاجزًا، أو أرشد مسترشد .. فهو محسن وأجره على الله، ومن لم يحتج إليه في هذا ولا ذاك فليقل كلمة طيبة وليدع لإخوانه المسلمين، وليتحسس حوائج المحتاجين، إلا أن في الحج منافع ومقاصد وصدق الله {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} .
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين تذكرون جميعًا بالموسم القادم، فرصة العام، وسيدة الأيام، إنها عشر ذي الحجة، ليس بينكم وبينها سوى أيام معدودة، وكم ستخترم المنا أناسي قبل بلوغها، إلا وأن من حسن طالع المرء أن يتشوق لبلوغها فإذا بلغه الله إياها أن يجتهد في عمل الصالحات فيها، سواء كان حاجًا أم مقيمًا .. إنها فرصة لأن تعمر بالذكر، وتلاوة القرآن والصيام، والصدقات والإحسان، والدعوة للخير .. وكفى بقسم الله فيها داعيًا لأهميتها، وكفى بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاديًا لاستثمارها .. إلا وأن من علائم الخير أن يفكر المسلم قبل حلولها في أنواع الطاعات التي سيعملها فيها، وأن تكون هذه العشر محطة للمسلم يتزود منها لعامه فيها، بل ويودع عامة بحسن العمل فيها يا من قصرتم في الجهاد - وكلنا كذلك - وهو ذروة سنام الإسلام عوضوا بهذه العشر فقد قال حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم:«ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» .
ومرة أخرى اسأل نفسك ماذا أعددت لهذه العشر؟ ثم حاسب نفسك بعد دخولها على العمل.
أيها المسلمون وألتفت إلى الحجاج وإلى حملات الحج لأقول: فإن كره بعض الناس هذه الحملات إما لعدم قدرته المادية على تكاليفها أو لرغبة البعض في أخذ راحتهم بوسائلهم الخاصة وأماكنهم المفضلة إلا أن في الحملات فرصة للتنظيم والفائدة، وتقليل المراكب والدعوة للتعارف والتآلف بين الحجاج وهذا من منافع الحج وشكرًا لأصحاب الحملات حين يتنافسون في تقديم خدمات
مخفضة للمحتاجين حتى لا يكون الهدف ماديًا فحسب، على أن المهم أن تتنافس الحملات في تقديم الخدمات لحجاجها، وألا تكون الدعاية والإعلان أكبر من حجم التطبيق الواقعي، فذاك الذي يُفقد الحملة مصداقيتها ويجعل الناس ينفرون ويُنفرون غيرهم مستقبلاً من المشاركة فيها.
أما خدمات التوعية فقد أصبحت جزءً من مظهر الحملات وأسلوبًا لتسويقها - وهذا شيء جميل - لكن من المهم في توعية الحملات ألا تكون متخمة للحجاج بحيث لا يجدون فرصة للخلوة بربهم، أو لقراءة القرآن بمفردهم أو لمزيد من ممارسة العبادة الفردية في تلك الأيام الفاضلة ومن المهم كذلك أن تكون التوعية شاملة فلا يُتخمون بالحديث عن الحج طوال الرحلة مع حاجتهم لقضايا تربوية وآداب وتنبيهات أخرى قد يكون استعدادهم لها في هذه الظروف أكثر من غيرها.
ومن المهم - في هذه الحملات - أن تنال المرأة عناية إن لم تفق العناية بالرجال فلا تقل عنها، لأن فرص توعية المرأة أقل من فرص الرجال، وفوق ذلك العناية بمكانها ونوع خدماتها الأخرى.
الحملات فرصة لاكتشاف الطاقات وتوظيفها، فقد تكون ضمن إفراد الحملات طاقات من المهم تقديرها واستثمارها وحسن التعامل معها - والحج فرصة للتعارف والتآلف - والحج فرصة عالمية ومن المهم مساهمة الحملة في إيجابيات هذه العالمية - بحيث يرشد الضال، ويطعم المسكين، ويترحم الغير العربي، وتقضى حاجات كثيرة من خلال مجموع أفراد الحملة.
كل ذلك يتم باستشعار هذا المعنى والدعوة لتفعيله وبشكل لا يؤثر على نظام الحملة وانتظامها - يقال للحجاج في الجملة وأصحاب الحملات خاصة أن الحج بعمومه فرصة لاكتشاف الأخلاق، والحملة ميدان لاكتشاف تطبيقات
الأخلاق فثمة منافع عامة يشترك فيها أصحاب الحملة وقد يحتاجون إلى الإيثار أو إلى الصبر، والتحمل .. وهنا تسفر الأخلاق عن وجهها ويتبين المؤثر من الأناني، والصبور من الجزع وهكذا .. فلتمتحن أخلاقنا ولنُصبِّر أنفسنا على آثار ومخرجات الخلطة في أيام معدودة.
ويقال لأصحاب الحملات إياكم والوعود الهلامية لأنواع الخدمات المقدمة ثم يتفاجأ المشاركون في الحملة بخلاف ذلك .. إنه الكذب والتلاعب بمشاعر الناس .. ولا كثر الله أصحاب هذه الحملات .. كما أن الإسراف ممنوع فالتقتير مرفوض .. وإذا قيل هذا لأصحاب الحملات قيل للمشاركين في الحملة ولا يكن الأكل والشرب همَّكم فإذا تأخر الطعام عن موعده قليلاً - لعذر ما - قامت الدنيا ولم تقعد .. إنه التعاون والتفاهم والصدق والتحمل ينبغي أن تسود أجواء الحملات حتى تؤدى المشاعر بعيدًا عن الخصومة والجدال المنهي عنها في كل حين ولاسيما في الحج {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
حقًا يا أخي الحاج تكرم بقراءة كتاب أو سماع شريط نافع عن الحج قبل أن تؤدي المناسك، واجتهد باختيار رفقة الحج تربت يداك.
وختامًا أيضًا -أيها المسلمون عامة- عظموا شعائر الله واستثمروا فرص الطاعات، {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض} .. ألا أنها فرض للمقصرين أن يعوضوا، وفرض للمسرفين في المعاصي أن يتوبوا .. وفرص للمجتهدين في عمل الصالحات أن يزيدوا.
اللهم بلغنا عشر ذي الحجة، وأعنا فيها على عمل الصالحات اللهم يسر للحجاج حجهم واحفظهم في مناسكهم، وارجعهم إلى أهليهم وبلادهم سالمين غانمين.
الاعتصام بالوحيين وأسباب الخلاف (1)
الحمد لله رب العالمين جعل الدين الحقَّ دينًا واحدًا فقال {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [آل عمران: 19] وحكم ببطلان ما سواه فقال جلَّ من قائل عليمًا {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85] وجعل من سمات هذه الأمة الوحدة مع تباعد الزمان واختلاف المكان وكثرة المرسلين واختلاف الشرائع فقال {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أوصى عباده بالاعتصام بالكتاب والسنة ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال:{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان من أواخر ما أوصى به أصحابه كما نقل العرباض بن سارية رضي الله عنه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ بدعة ضلالة» (2).
اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله المؤمنين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اتقوا الله معاشر المسلمين واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، {ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} .
(1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 5/ 1429 هـ.
(2)
حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي. (شرح السنة للبغوي 1/ 205).
عباد الله وحين يغيب الاعتصام بالكتاب والسنة يتفرق الناس شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وتسود الفرقة والتناحر بدل الوحدة والألفة تستبدُّ بالناس الأهواء، ويعود المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا.
ويتهاون الناس بالواجبات المتحتمات ويتشبثون بالبدع والخرافات فهذا يقيم مولدًا، وذاك يستغيث بميت أو يطوف حول قبر، وفئة تعظم (رجبًا) وربما كان عندهم أفضل من شهر الصيام، وأخرى تعتقد أفضلية خاصة (ليلة النصف من شعبان) وتعتقد في أحيائها فضلًا خاصًا بها، ومائة ثالثة تعني بأوراد وأذكار جماعية وفرقة تعظم مزارات مبتدعة أعظم من تعظيم الكعبة.
أيها المسلمون إن ما تلحظون في عالمنا الإسلامي من الاختلاف والفرقة، ومشو البدع وقلة المستمسكين بالسنة إنما هو ثمرة طبيعية للبعد عن هدي الكتاب والسنة والجهل بهما أو التجاهل لنصوصهما، والله تعالى يقول {ومن يَعْش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين} [الزخرف: 36].
قيل: معناه: من يُعرض عن ذكر القرآن وما فيه من الحِكم إلى أقاويل المضلِّين وأباطيلهم، نعاقبه بشيطان نقيضه له حتى يضلَّه ويلازمه قرينًا له».
وذكر ابن كثير نظيرها قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى نوله ما تولى} (1).
أجل لقد اقتضت حكمة الله أن يتباين الناس في آرائهم وأن تختلف اجتهاداتهم.
لماذا الكتاب والسنة؟
{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربِّك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 118، 119]،
(1)(شرح السنة 1/ 190).
ولكن الله جعل للمسلمين ضمانة الاتفاق إن هم احتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا} [النساء: 59].
إنها قطع الاختيار، وإنهاء النزاع، والتسليم لأوامر الشرع المطهر كذلك يكون الإيمان وبذا يوصف المؤمنون {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا} [الأحزاب: 36].
وبمثل ذلك تُضرب الأمثال، أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا .. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا: أوِّلوها له يفْقهْها، قال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرَّق بين الناس» (1).
هكذا فرق محمد صلى الله عليه وسلم بين المطيع والعاصي فمن اتبع السنة ولزم الحقَّ وإن خالف هواه فذلك المطيع، ومن هجر السنة واتخذ إلهه هواه فذلك العاصي.
أمة الإسلام لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من شرِّ الفرقة والاختلاف، ويرى أن إلباس الناس شيعًا وإذاقة بعضهم بأس بعض أعظم من رجم السماء أو خسف
(1)(صحيح البخاري مع الفتح 13/ 249).
الأرض، وفي ذلك روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} [الأنعام: 65]، قال: أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال أعوذ بوجهك، فلما نزلت:{أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهونُ أو أيسر (1).
ولاشك أن المتبعين لهدي محمد صلى الله عليه وسلم يجمعون الكلمة ولا يفرقونها ويؤلفون بين المسلمين ولا يفرقون جمعهم، وينصحون صادقين لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ولا يطلبون أجرًا على نصحهم وماذا تستفيد الأمة من التفرق وفيها من الأدواء ما لا يحتمل المزيد وفيها من الجراح ما يكفي لشغل أوقات الفارغين إن لم تكن لهم همة سوى تضميد الجراح، أما أن تُستنزف دماء أخرى وتوسِعَ دائرة الجراح فذلك لا يُسلِّم به العقلاء فضلًا عمن يدعي الصلاح والتقى ألا وإن من أسباب الفرقة والخلاف بين المسلمين تتبع العورات وتصيد الزلات، والتزيد في الاتهامات، وإساءة الظنون واتهام النوايا، وتفسير المقاصد، والتهويش والتحريش بين المسلمين وإثارة المعارك الكلامية، وكل ذلك لا يخدم مصلحة المسلمين، وإنما هو سهم من سهام الشياطين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» (2).
وهل غاب عن المسلمين عمومًا وأولئك المشتغلين بأعراض الصالحين
(1)(الصحيح مع الفتح 13/ 296).
(2)
رواه مسلم وغيره (انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 478 ح 1804، صحيح الجامع الصغير 2/ 72).
خصوصًا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذب الحديث ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (1).
وكان السلف رضوان الله عليهم يعيبون هذا المنهج المتخوّض في أعراض المسلمين ويخوفون أصحابه، وفي صحيح مسلم باب لا يدخل الجنة قتَّات، عن همام بن الحارث قال: كنا جلوسًا مع حذيفة رضي الله عنه في المسجد، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فقيل لحذيفة: إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء، فقال حذيفة: إرادة أن يُسْمِعَه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنَّة قتَّات» (2)، ألا إنها ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا {ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا} [الفرقان: 71].
(1)(رواه مسلم، مختصر المنذري/ 477).
(2)
(مختصر المنذري لصحيح مسلم ص 478، ح 1808).
نابتة القرآنية
الخطبة الأولى
أيها المسلمون ونبتت نابتة أخرى في بلاد المسلمين ترى التشكيك في كتب السنة، وربما أنكر أو شكك بعضهم بأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما بلغت الجرأة ببعضهم أن يقول: نحن بشر ومحمد بشر فما وجدنا في كتاب الله قبلناه، وما وجدنا في السنة قبلنا ما تحتمله العقول وأنكرنا ما عداه؟ وأيَّ عقل نرتضيه، ومن ذا الذي يُقدم بين يدي الله ورسوله؟
وهؤلاء مصدر خطر على وحدة الأمة واعتصامها بالكتاب والسنة، وهم سبب في فرقة الأمة وانشطارها، ومكمن خطر في حاضر الأيام ومستقبلها وأنى لهذه الأفكار أن تروج عند المسلمين الذين يعتقدون بأن السنة رديفة القرآن، وهي إحدى الوحيين، وصاحبها عليه الصلاة والسلام هو القائل:«ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (1). والحق تبارك وتعالى يقول: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].
ويقول: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وفي آية ثالثة:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63].
والمعنى كما قيل: لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعاكم لأمر أو نهي كدعاء بعضكم بعضًا تجيبون إذا شئتم وتمتنعون إذا شئتم (2).
والسنة شارحة للقرآن ومبيِّنة لمجمله والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وأنزلنا إليك
(1) رواه الترمذي وحسنه (شرح السنة 1/ 201).
(2)
(شرح السنة 1/ 191).
الذكر لتبين للناس ما نزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44].
وعن هذا الضَّرب من الناس بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وحذَّر فقال: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» (1).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنة، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله» (2).
ويقول الزهري رحمه الله: «لا تُناظرْ بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: لا تجعل شيئًا نظيرًا لهما فتدعهما لقول قائل» (3).
ألا فاحذورا عباد الله هذه الدعوات المضلّلة، وتنبهوا لهذا التحرر الفكري الخطير، وإن لُبِّس بلبوس التجديد والمعاصرة والانعتاق من التقليد؟
أعوذ الله من الشيطان الرجيم {فإن لم يستجيبوا لك فإنما يتبعون أهواءهم ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص: 50].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابهن ورزقني وإياكم والمسلمين الاقتداء بالسنة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم.
(1) حديث حسن أخرجه الشافعي في الرسالة، وأحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه وغيرهم. (شرح السنة 1/ 200، 201).
(2)
(شرح السنة/ 202).
(3)
(شرح السنة للبغوي 1/ 202).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أوحى إلى عبده فيما أوحى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159]، أولئك هم أهل الأهواء والبدع وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وهو القائل «إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (1).
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد عباد الله فإن من أعظم أسباب الفرقة والحيدة عن الكتاب والسنة إتباع الهوى، فقد يكون صاحبه يعلم الحقَّ لكنه يُغمض عنه ويستجيب لهواه، قال الله تعالى:{ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]، وقال عز وجل:{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [البقرة: 213].
أي على علم أن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوه بغيًا (2).
وإتباع الهوى يبلغ بصاحبه الابتداع في الدين وعبادة الله بما لم يأذن به الله، ومن عبد الله بمستحسنات العقول فقد قدح في كمال هذا الدين، واتهم محمدًا صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ، قال الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله يقول:{اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا» (3).
(1)(رواه مسلم ح 867 في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، شرح السنة 1/ 211).
(2)
(شرح السنة 1/ 210).
(3)
(الاعتصام للشاطبي 2/ 53).
وقد يكون الهوى رغبة في مطمع دنيوي، أو تطلعًا إلى منصب إداري أو حُلُمًا في مكانة اجتماعية، أو ليثبت نفسه أمام الناس بالمخالفة ليس إلا.
والهوى - عباد الله - أيًا كانت دوافعه مرتع وخيم، وآفة مهلكة وحجاب يمنع صاحبه النور، ويفصله ويعزله عن جماعة المسلمين {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} .
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء وأثره فيهم وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة في الجنة وهي الجماعة، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مَفْصِلٌ إلا دخله» (1).
قال صاحب النهاية: «الكلب» بالتحريك: داء يَعْرِضُ للإنسان من عضِّ الكلب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فلا يعضُّ أحدًا إلا كلب، وتعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشًا» (2).
وحذّر السلف من الأهواء فقال الربيع عن الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء» (3).
وجماع الأمر أيها المسلمون والمخرج من هذا كما قال يحيى بن سعيد، سمعت أبا عبيد يقول: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ» وجميع أمر الدنيا في كلمة «إنما الأعمال بالنيات» يدخلان في كل باب» (4).
(1) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح (شرح السنة للبغوي 1/ 213).
(2)
(4/ 195).
(3)
(شرح السنة 1/ 217).
(4)
(شرح السنة 1/ 218).
فاحرصوا على هذين الأمرين الإتباع والإخلاص تهتدوا وتسلموا.
أيها المسلمون وأحيانًا تكون الحيدة عن هدي الكتاب والسنة بسبب الرغبة في زيادة الخير والغلو في الدين، والإسلام يمنع الزيادة التي لم يأذن بها الله، ولم يهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعًا لمداخل الشيطان وحفاظًا على وحدة الأمة من الفرقة والشتات وحذرًا من الفتنة في الدين، وفي قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها، وأرادوا المزيد عليها - عبرة وعظة - فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (1).
وروي أن رجلًا قال لمالك بن أنس رحمه الله: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة، قال وأيُّ فتنة في ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63] وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يُخصَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
عباد الله ومن أسباب الزيغ والاختلاف المبالغة في الأسئلة والتكلف فيما لا يعني، والجدل العقيم واتخاذ المراء ديدندًا وطريقة، قال عليه الصلاة والسلام
(1)(الحديث متفق على صحته: البخاري في النكاح 9/ 89، 90، ومسلم في النكاح ح 1401).
(2)
[المجموعة الثانية من خطب ابن حميد/ 14].
قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلًا عما لا يحتاج إليه في الحال (2).
فحري بالمسلم الصادق أن يعمل بما يعلم، ثم يسأل عما يحتاج إليه مما لا يعلمه أما إضاعة الأوقات في الخصومة والمراء، والمفاخرة والتطاول في الجدل فتلك وربي من علائم الضلال، وليست من الهدى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (3).
ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين وكونوا عباد الله إخوانًا، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وعليكم بالثبات على هدي الكتاب والسنة وإياكم والتلون وإتباع الأهواء، وإليكم هذا الحوار المعبر، والنصح الصادق بين صحابي وآخر، فقد دخل ابن مسعود على حذيفة رضي الله عنهما فقال: اعهد إليَّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربي، قال: فاعلم أن الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلوَّن فإن دين الله واحد» (4).
اللهم ارزقنا البصيرة في ديننا والثبات على كتاب ربنا وسنة نبينا واعصمنا من الأهواء المضللة والفتن المهلكة.
هذا وصلوا على النبي المصطفى.
(1) رواه البخاري (الصحيح مع الفتح 13/ 251).
(2)
(الفتح 13/ 263).
(3)
(حديث حسن رواه الترمذي وأحمد وغيرهما (صحيح الجامع الصغير 5/ 146).
(4)
(شرح السنة للبغوي 1/ 216).
الشباب إيجابيات وسلبيات نماذج وتوصيات
الخطبة الأولى
(1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا.
فئة من المجتمع تستحق الرعاية والاهتمام، نسبتها في الإحصاءات عالية، والاهتمام الدولي والمحلي بها ظاهرة، تستحوذ على اهتمام المخططين للمستقبل، بها يقاس قوة المجتمع أو ضعفه طاقتها كبيرة، والمخططات لإصلاحها أو إفسادها كثيرة هذه الفئة لها إيجابيات تستحق الإشادة والمتابعة ولها سلبيات تستوجب النظر والعلاج.
إنهم الشباب (الفتيان والفتيات) لفت القرآن الإشارة إليهما {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} وأصحاب الكهف {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} .
وجاء في السنة النبوية العناية بهما «وشاب نشأ في طاعة الله» «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» وفي السيرة النبوية اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على الشباب في الدعوة والهجرة، والجهاد، وتعلم العلم وتعليمه وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا أحداثًا .. ومصعب بن عمير ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس وابن عمر، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل نماذج لهؤلاء الشباب وفي مجالات متعددة.
(1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 3/ 1429 هـ
أخوة الإسلام العناية بالشباب عناية بالمجتمع فهم يمثلون (نسبة كبيرة) منه، وفاعلة فيه والالتفات للشباب عناية بالمستقبل، فهؤلاء هم رجالاته وصانعوا تاريخه.
إن المتأمل في وضع الشباب، يرصد إيجابيات تسرُّ وتفرح ومنها الحرص على الصلاة والإقبال على المساجد، والانخراط في حِلَقْ تحفيظ القرآن، والبحث عن السنة ومحاولة الالتزام بها والمشاركة في الدعوة، وطلب العلم، ومحبة العلماء، ومحاولة تقديم النموذج الأمثل للشباب، والبر والصلة، والإحسان والحسبة.
وأيًا ما كان إجادة الشباب أو الشابات في هذه الأمور أو غيرها، أو تقصيرهم .. فالرغبة موجودة والدافع وإن ضعف يقوى، والملاحظات وإن وردت تُعالج، والجميل أن لدى الشباب استعدادًا للتوجيه، وقدرة على تطوير الذات وهذه وتلك تفرح وتسر.
لكن ثمة ما يحزن ويؤلم ويحتاج إلى وعي بالداء ومعرفة بوضع الدواء، وصبر على المتابعة والتربية.
إنها أخطاء يقع فيها الشباب .. ممارسات سلوكية مشينة وفراغ قاتل، وتسكع في الشوارع واعتداء على الآخرين وغيبة في الاستراحات - ولا تسأل عن موائدها - وخروج عن البيت وغيبة عن الأهل لساعات طوال لا يدري الأبوان فضلًا عن الأخوان والأخوات أين يكون هذا الشاب؟
نهم في العكوف على الفضائيات وأي فضائيات - إنها سارقة الدين والخلق، مثيرة الغرائز والفتن.
وانشغال ولساعات طوال في الشبكات العنكبوتية، ولا سيما في مواقع مشبوهة، ومحادثات ودردشات هابطة وإدمان على مشاهدة برامج معينة في ما
يسمى (بالسني) أو ما يسمى بـ (بلي ستيشن) وما فيها من غزو للأفكار والمعتقدات.
ضعف في الدراسة وعقوق للوالدين وانطواء وعزلة عن الأسرة والمجتمع، تهور في القيادة وتسبب في قتل أنفس بريئة .. تهافت على الوجبات السريعة وزهد في طعام الأهل وموائد الأسرة ويسوءك في هذه النوعية من الشباب سهر مفرط - وعلى غير فائدة - بل ربما كان على أمور مشبوهة.
ونوم ولساعات طوال في النهار يفوِّت الصلوات المكتوبة ويكون على حساب العمل أو الدراسة، ويشكل خطرًا يهدد الصحة ويدعو للانطواء والسلبية فماذا ترجوا من شباب يطيل السهر أن يقدم خدمات لأهله وأسرته.
وربما نفعهم البعيد والقريب يغط في نوم عميق؟
والأخطر من ذلك حين يساق الشاب إلى مجتمعات وشلل من الشباب قلَّ دينها، أو يغرر به في الدخول إلى نفق المخدرات والمسكرات إنها خسارة للفرد والمجتمع وخطر وقلق على الأهل ومن سواهم.
وحين يكون الحديث عن الشباب والجوال فالحديث يطول، ومكالمات تحصد الدرهم والدينار وتحصد قبل ذلك المُثُل والأخلاق، ورسائل تُبعث عبر بريد الرسائل يندى لها الجبين، وصور فاخمة يتبادلها الشباب وربما الشابات عبر تقنية البلوتوث أو غيرها وتلك تثير الغرائز وربما كانت سببًا في الوقيعة في المحظور.
ومواعيد تربط عبر الجوال عبر أحداث وربما وقعت في فخهم فتيات أغرار فكانت الفتنة ومن يراقب الجوال؟ وإن شئت أن تقع على الداء فاذهب إلى محلات بيعها لترى معظم نوعية زبائنها؟
يا أيها الشباب وحين تهدى إليكم نصائح فاقبلوها، أو على الأقل تأملوا في جدواها.
إنكم مَعْقِدْ أمل للأهل والمجتمع والدولة والأمة فأين تضعون أنفسكم؟
إن سكرة الشباب قد تلهيكم ولكن النظرة بعمق لمستقبلكم توقظ مشاعركم.
يا أيها الشباب طاقتكم أمانة فارعوها، وصحتكم نعمة فلا تغبنوا فيها وأوقاتكم غالية فإياكم أن تقتلوها، ومعدنكم ومعتقدكم من الأصالة والطيب فإياكم أن تذبحوها على قارعة الطرقات والقنوات.
يا معشر الشباب لن تزول أقدامكم يوم القيامة حتى تُسألوا عن شبابكم وأعماركم فيما أفنيتموها، فأعدوا للسؤال جوابًا يا معشر الشباب أيسركم أن يكون شباب الأمم الأخرى غارقين في الدراسة والبحث، مشاركين في بناء الحضارة، ووضع لبنات المستقبل، وأنتم في لهوكم غافلون وعن تطلعات بلدكم وأمتكم سادرون.
{من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
إن العناية بالشباب (فتيان كانوا أم فتيات) ينبغي أن يستحوذ على اهتمام المربين (تعقد له الاجتماعات وتناقش السلبيات والإيجابيات ونخلص إلى توصيات تُتَابع لا تُحفظ.
وعلى رعاية ووقاية الآباء والأمهات فهم أغلى كنز، وأحق من توجه له التربية، زينة في الدنيا، ورصيد بعد الممات، وذكر ومفخرة للأحياء والأموات وعلى الجهات الدعوية والاحتسابية أن تخصهم ببرامج توعية متميزة، وتوضع لهم الدورات والمسابقات، وتدعم بالجوائز والمحفزات .. وليس خسارة ما ينفق على هؤلاء وأولئك وعلى الجهات الأمنية أن تراقب وتتابع، وتشخص المشكلات وتقترح العلاج، وأن تغطي الجوانب التربوية والتوعوية في هذه القطاعات ما عسى الله أن يفتح به على قلوب من بُلي بقضايا أمته تخل بالشرف
والعرض وتخرم المروءة وتهدد المجتمع وعلى القطاعات المعنية بالشباب وسواء كانت رسمية (كرعاية الشباب) أو خيرية كالندوة العالمية للشباب أن تطور في خدماتها، وتوسع دائرة مناشطها، وتسهم بفاعلية في حل مشكلات الشباب واستثمار طاقاتهم بما يفيدهم ويفيد مجتمعهم.
وعلى وسائل الإعلام أن تخصص برامج للشباب وتكون من القوة والجاذبية بحيث تشكل بديلًا نافعًا عن عدد من وسائل الإعلام التي فتنت الشباب أن للكلمة وقعها .. وللحوارات، والمنتديات والقصة والشعر، وغير ذلك من مفردات الإعلام أثر لا يستهان به.
والمهم أن نستشعر جميعًا موقع هؤلاء الشباب ومسئوليتنا تجاههم، ومع ذلك وقبله أن يستشعر الشباب موقعهم ويضعوا أنفسهم في الموقع المناسب لهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يستحق الحمد والثناء، {وما بكم من نعمة فمن الله} ، وإذا مسكم الضر ضل من تدعون إلا إياه.
يا معشر الفتيان والفتيات ويكفي أن نذكركم بنموذجين صالحين للشباب يمثل الذكور (أبو جندل) عبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما ويمثل الإناث (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط) رضي الله عنها وكلاهما كان أبواهما من قادة قريش منهم من هلك قبل (عقبة) ومنهم من هو سيد المفاوضات في صلح الحديبية وخبرهما جاء في صحيح البخاري.
أما أبو جندل فقصته وعصاميته وولاءه للإسلام وأهله تبدأ قبل صلح الحديبية حيث كان من السابقين إلى الإسلام، وممن عُذب على إسلامه فثبت، وحين خرج أهله لبدر، خرج معهم لكنه انحاز إلى المسلمين، ثم أُسر بعد ذلك وعُذِب ليرجع عن دينه فثبت فلما كان صلح الحديبية جاء يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال أبوه (سهيل) هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردَّه إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد .. فأبى سهيل فلما أجيز للمشركين قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في الله (1).
ثم استطاع أبا جندل أن يفرَّ مع أبي بصير إلى الساحل وهناك شكلوا خطرًا يهدد تجارة قريش .. حتى طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يردهم إليه في المدينة.
(1)(صحيح البخاري .. الفتح 5/ 331).
وحين فتحت مكة كان الشاب (أبو جندل) هو الذي استأمن لأبيه (سهيل بن عمرو) وطلب الجوار حتى أسلم (سهيل) وأخيرًا شهد (أبو جندل) اليمامة لقتال مسيلمة فكان آخر شهدائها رضي الله عنه وأرضاه (سنة 11)(1).
وتلك صفحات ناصعة لهذا الشباب في الثبات والجهاد وعلو الهمة، ومقاومة الكفر وأهله.
أما النموذج الأخير فهي (أم كلثوم) بنت أحد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم البارزين، قتل أبوها في بدر وبقي إخوانها وأخواتها على الكفر أما هي ورغم حداثة سنها فقد رغبت في الإسلام وتحدت أهلها وخرجت مراغمة لهم حين أتيحت لها الفرصة.
وفي البخاري في قصة صلح الحديبية وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ -وهي عاتق- يعني شابة لم تتزوج، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حين نزل {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (2).
أم كلثوم هذه هي التي قال عنها ابن سعد: ولا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلى الله ورسوله إلا أم كلثوم (3).
إنما نموذج آخر لصدق المرأة وثباتها رغم البلاء والمحن، والصدود والإعراض، والإغراء والفتن تجاوزت به أم كلثوم ضعف النساء لتسجل في قائمة الثابتين على الحق والمهاجرين في سبيل الله. فنعمت الهجرة إلى الله ورسوله ونعمت المرأة أم كلثوم؟
(1)(الإصابة 11/ 64، 65).
(2)
البخاري كتاب الشروط والفتح 5/ 312.
(3)
(الطبقات 8/ 230).
يا معشر الفتيان والفتيات أين أنتم من هذه النماذج أليس مصيركم كمصيرهم؟ ماذا بقي لهؤلاء السابقين إلا الذكر الحسن .. والذكر للمرء عمر ثان.
يا معشر الشباب لابد للشمس من غروب، ولابد للشباب من المشيب هذا إن عمروا .. ويا ليتكم تتأملون قول الشاعر:
يعمر واحد فيغرُّ قومًا
…
ويُنسى من يموت من الشباب
قال ابن الجوزي رحمه الله: يجب على كل من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا ولا يغتر بالشباب والصحة فإن أقل من يموت من الأشياخ وأكثر من يموت من الشباب، ولهذا يندر من يكبر ويبلغ الشيخوخة (1).
يا معشر الشباب أيكم صاحب القلبين: قلب يتألم به وآخر به يتأمل؟
ألا تقدرون أن تكونوا كالنخلة تراها عن الأحقاد مرتفعة وبالطوب تُرمى فتُلقي أطيب الثمر.
وكونوا كالنحلة أين وقعت فالعسل لا يفارقها وما يخرج من بطونها شفاء للناس والتعاون والجدية والعمل ديدنها.
وهل يكون مثلكم عثمان رضي الله عنه فقد خطب على المنبر وقال: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، وما تركت ذلك تأثمًا ولكن تركته تكرمًا (2).
يا أيها الشباب كيف تفكر في مستقبلك؟ وما هي طموحاتك، وبرامجك ما وزن الدنيا والآخرة في نظرك؟ وكيف تضبط جنوحك وتستثمر طاقتك فكر ساعة، واعمل مثلها، واصبر في الساعة الثالثة تذل لك الصعاب وترتق مراق العز والشرف، ليكن قدوتك الشباب الجادين، وإياك ومصاحبة البطالين، كن
(1)(متعة الحديث/ 53).
(2)
(متعة الحديث/ 156).
لأبويك كالظل، ولإخوانك كالنحل، ولمجتمعك كالنخلة لا تكن كلًّا على المجتمع، ولا شغلًا لرجالات الأمن، ولا مشكلة لرجالات التعليم، أمامك مشوار طويل للحياة وفي طريقك تحديات، وأمامك فرص للنجاح والفشل، فخذ من شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا قامت القيامة وبيدك فسيلة فاغرسها كان الله في عونك وسدد على طريق الخير خطاك، وحفظك ووقاك وجعلك قرة عين لوالديك وللمسلمين.