المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شعاع من المحراب   ‌ ‌الجزء الحادي عشر إعداد د. سليمان بن حمد العودة - شعاع من المحراب - جـ ١١

[سليمان بن حمد العودة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الحادي عشر

- ‌المجاهرة بالذنوب

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌(1) الإنسان في كبد

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌المحاسبة لماذا وكيف

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌(إن سعيكم لشتى)

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌قيادة المرأة للسيارة

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الحج والحملات

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌نابتة القرآنية

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الشباب إيجابيات وسلبيات نماذج وتوصيات

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الثقافة الوافدة ومعرض الكتاب بالرياض

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌في البيوع والغلاء والتكسب والتجارة الرابحة

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌{قل آمنت بالله فاستقم}

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌(2) أسباب الخلاف وآثاره وطرق العلاج

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌بين خالد والوليد

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌حصار القطاع الخيري لمصلحة من

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌حصار القطاع الخيري لماذا؟ وكيف المخرج

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الشكر والشاكرون

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌حين يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الخيانة بئست البطانة/ أنواع، نماذج، آثار

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌معنيات الطاعة

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌تميم الداري وخبر الدجال والمبشرات

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌دعوى وحدة الأديان

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌تقدير الأكابر بين الغلو والجفاءوعبد الله بن المبارك العالم المجاهد

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌لحوم العلماء مسمومة، ولجنة رعاية السجناء

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌ملحمة الإيمان وانتصار غزة

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌من مكاسبنا في حصار غزة

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌حين يغيب الإيمان عن العلمنموذج لتدهور الغرب القيمي

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الغزو الفكري(وسائل ومظاهر ومخارج)

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الإيجابية في زمن التحولات والانتخابات

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌الزواج وقفات ومحاذير

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

- ‌ثقافة التسامح والتيسير

- ‌الخطبة الأولى

- ‌الخطبة الثانية

الفصل: شعاع من المحراب   ‌ ‌الجزء الحادي عشر إعداد د. سليمان بن حمد العودة

شعاع من المحراب

‌الجزء الحادي عشر

إعداد

د. سليمان بن حمد العودة

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 2

شعاع من الحراب

ص: 3

‌المجاهرة بالذنوب

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره

هاتفني صاحبي وفجأةً قال لي: هل تعجبك هذه الأجواء؟ وكانت السماء مغبرة والرياح عاتية، والرؤية تكاد تكون معدومة ترددت في الجواب وأنا استحضر الرد وماذا عساي أقول فإن قلت لا، أشعرت نفسي أو أشعرته بالتسخط، أو وقعت في سبِّ الدهر .. وإن قلت نعم فكأني غير مكترث ولا وجل وبينا أنا أختار العبارة المناسبة للرد، وأقول: لا يعجبني وأشكو إلى ربي .. عاجلني بالرد .. ألا تظن أن هذه الأجواء المغبرة والأعاصير العاتية بسبب الذنوب والمعاصي، وإن الله يخوّف عباده ويدعوهم للتضرع والتوبة والطاعة والاستغفار؟

حينها وقفت على ما ذكره أن القيم في الداء والدواء عن كعب قال: إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فزعًا من الرب جل جلاله أن تطلع عليها وحينها انتقل تفكيري إلى مجالات أخرى في هذا الكون فنحن نشهد إلى جانب هذه الأعاصير والتقلبات الجوية، أعاصير من نوع آخر، وتقلبات في عدد من الأحوال والأمكنة مصائب تتردى، وموبقات هنا وأخرى هناك، فساد

(1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 4/ 1428 هـ

ص: 5

وإفساد في الأرض، فعلى مستوى المعتقد يعبد غير الله ويُدعى ويُسْتشفع بغير الله .. وليت هذا كان قصرًا على الكافرين لكنه طال نفرًا من المسلمين تشوّهت عقائدهم وزاغت أبصارهم فأشركوا مع الله غيره إن في شرك العبودية أو شرك الطاعة وسبُّ نفرٌ الدين والنبي علانية وليت هذا توقف عند غير المسلمين لكان المصاب أقل ولكن الشيطان سوّل لنفر من المسلمين وأملى لهم حتى نالوا من الدين، ومن مقام النبوة، ومن سبَّ شيئًا من دين الله أو سخر بشيء من شعائر الإسلام، أو أتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم في شخصه أو أزواجه أو طعن في سنته أو نال من صحابته الكرام آنذاك الطعن في صميم الدين، والتطاول على حرمات الإسلام.

ومن فساد المعتقد والتصورات إلى فساد الأخلاق والتعاملات حيث شاع الزنا والربا، وانتشر اللواط والمخدرات، وطفف المكيال، وكان الغش في البيع والشراء، نقضت العهود، وأخلفت المواعيد، وشاع الكذب، وتطايرت التهم، ووقع الظلم.

وقلت الصدقات، وربما منع أو قصر بعض المسلمين في الزكاة إنها أدواء خطيرة إذا كانت سرًا فكيف إذا وقعت جهارًا نهارًا وما أحوجنا هنا أن نتذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حين أقبل على المهاجرين يومًا فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله

ص: 6

ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (1).

أخوة الإسلام تأملوا في واقعكم ومصائبكم ترون عجبًا .. ألم تكثر في الأمة الأمراض والبلايا، وفي كل يوم لها قتيل، وفي كل مكان بها علة ومريض، قتلٌ متعمد، وخطف جماعي، ودماء تسيل وفي كل يوم تحمل الأخبار عن مصيبة وبلية وفي أرض الرافدين يتضح المشهد، وفي أرض الإسراء والمعراج غير بعيد انتهاكات ومآس ومشاهد مغيبة ولا ندري بماذا تفاجئ غدًا من الصهاينة وإذا كان استهداف المدنيين هناك على قدم وساق وإهلاك الحرث والنسل مخطط ومشروع، فالحفريات تحت المسجد الأقصى بات خطرًا يهدد المقدسات .. هذا فضلًا عن محاولات التطبيع وما تحمله من مشاريع الفساد المقنن .. فإلى الله المشتكى.

يا أخوة الإسلام والفساد في الأرض قديم يتجدد .. والصراع بين الحق والباطل سنة ربانية ماضية تتكرر .. ولكن المصيبة حين يجاهر بالعصيان، وحين يلوذ الأعداء بالقوة ويستضعف المسلمون، وفي زمن لا يعرف إلا القوة، وحين يتجبر المجرمون في فرض الباطل والمنكر، ويضعف المسلمون عن قول المعروف وإظهار الحق إذا كثر الخبث وخفت صوت الحق فهنا تكون المصيبة.

قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يحب الفُحش أو يبغض الفاحش والمتفحش، قال: ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوَّن الأمين وقال: ألا أن موعدكم حوض عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكة، وهو مسير شهر، فيه مثل النجوم

(1) رواه ابن ماجه في سننه، وقال البوصيري، رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد (نضرة النعيم 11/ 5551).

ص: 7

أباريق، شرابه أشد بياضًا من الفضة، من شرب منه مشربًا لم يظمأ بعده أبدًا)) (1).

وفي الحديث الآخر إخبار عما يقع في آخر هذه الأمة، وتوصيف للداء، حيث يقول عليه الصلاة والسلام:((يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث (2).

عباد الله احذروا المجاهرة بالمعصية، وإذا بليتم فاستتروا، قال ابن بطال رحمه الله: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم (3).

وهل يُعذبُ العامة بعمل الخاصة؟ يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كان يقال أن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامَّة بذنب الخاصة ولكن إذا عُمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلُّهم (4). ألا وإن المجاهرة بالفسوق والمعاصي يستحقون الفضيحة بما جهروا به، قال النووي: من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به (5). أيها المسلمون لا تحلوا بأنفسكم عقاب الله .. وفي الحديث: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبيه ثم قال ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله (6).

(1) رواه أحمد (2/ 162 وصححه شاكر).

(2)

رواه الترمذي وقال حديث غريب (2185) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8012)(6/ 358).

(3)

(الفتح 10/ 502 عن نضرة النعيم 11/ 5553).

(4)

رواه مالك في الموطأ 2/ 991.

(5)

(الفتح 1/ 502).

(6)

رواه أحمد وأبو يعلى، وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده جيد 3/ 8، وصحح إسناده أحمد شاكر (3809).

ص: 8

أي حمق أن يسترك الله فتفضح نفسك بالمجاهرة، وفي الحديث المتفق على صحته: قال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربَّه ويصبح يكشف ستر الله عنه.

وكيف الحال إذا بلغت المجاهرة بالمعاصي والفسوق حدَّ الانتشار والذيوع والعرض على شاشات القنوات والتليفزيون، وأعمدة الصحف والمجلات، وكاميرات الجوالات وتقنيات البلوتوث ويحدث ما لا تعلمون ونحوها إنها طوام ومصائب نبرأ إلى الله منها، ونعوذ به من شروروها.

يا من تأكلون نعم الله إياكم أن تستعينوا بها على معصية الله يا من تسكنون أرضه إياكم والإفساد في ملكه يا من تقعون تحت سمعه وبصره ومراقبته وعدله .. إياكم وخائنة الأعين وما تخفي الصدور. وإياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يا من لا تُعجزون الله في الأرض ولا في السماء، إياكم والتطاول على شرعه أو انتهاك محرماته فهو يُمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .. إن أخذه أليم شديد.

يا من تخافون عقوبة الدنيا .. ألا وإن عقوبة الآخرة أشد وأنكى .. ويا من تخشون الفضيحة في الدنيا .. فهناك الفضيحة على الملأ من أقطار الأرض والسماء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا} . [النساء: 148].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ص: 9

‌الخطبة الثانية

الحمد لله فارج الكربات وكاشف البليات، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله تعالى الله عما يشركون .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله هدى الأمة إلى صراط الله المستقيم، وحذرهم من الزيغ والضلال المبين اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.

أيها المسلمون .. وليس المقام مقام حصر للفساد وبأشكاله وممارساته وإلا لكان ثمة حديث عن الفساد الإداري بمحسوبياته وبرشاويه، وحديث عن الفساد الاجتماعي بتجلالاته وتغيراته، وعن الفساد الاقتصادي بتورماته وحيله، عن فساد الرجل والمرأة، والصغير والكبير لكنها وقفات وتنبيهات وتحذيرات واحتياطات أشمل منها وأبلغ قوله تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} .

ولا يعني الحديث عن الفساد أو المجاهرة فيه نسيان الخير في الأمة وتجاهل الصالحين والأخبار ممن تفطر أكبادهم لهذا الفساد ويدعون ربهم خوفًا وطمعًا.

إنه مع وجود الشر والأشرار يوجد الخير والأخيار وإذا وجد من تجاهر بالمعصية أو يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فثمة وجود لمن يجاهرون بالطاعة، ويشيعون الخير بين العباد إن مقصود الحديث التحذير من موبقات المعاصي، والدعوة لتكثيف الخير، وتنشيط الدعوة للفضيلة ومحاربة الرذيلة:

ولذا - وفي ظل هذه الأزمات والتراكمات وفي كثرة الذنوب والفتن - أذكر الأمور التالية:

1 -

اجعل من نفسك يا عبد الله متهمًا في وجود هذه الكوارث والمصائب،

ص: 10

فأنا وأنت .. وكل ابن آدم خطاء {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} .

2 -

ومع اتهام النفس اعمل لإصلاحها ومن يقول ثم انتقل بالخيرية والدعوة إلى الآخرين، فخير الناس أنفعهم للناس.

{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} .

3 -

والتوبة يدعى لها المؤمنون {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} وغير المؤمنين مدعوون للتوبة من باب أولى.

4 -

والاستغفار استبشاع للذنب وتعظيم للرب، وفيه تفريج للكروب وتنفيس للهموم فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزق من حيث لا يحتسب.

5 -

وكل ما وقع فيكم ذنب عامله بالتوبة والاستغفار {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} .

6 -

وكلما اجترحتم السيئات اتبعوها بالحسنات فهن الماحيات ذلك ذكرى للذاكرين.

7 -

استبقوا الخيرات وبادروا بالصدقات فالصدقة تطفئ غصب الرب وتستنزل الرحمات والمتصدقون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار أما بعد: «ما من هذه الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وأمر من كان عنده شيءٌ أن يتصدق به فإن الله يقول قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وقولوا لما قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ص: 11

8 -

الصلاة نور ومن حافظ عليها فهو المحفوظ ومن ضيعها هو لمن سواها أضيع والصلاة مفزع عند الشدائد وراحة للقلوب، ونور وطمأنينة (1).

9 -

الذكر يملأ الميزان والقرآن شفاءٌ ونور وهدى ورحمه وبصائر من ربكم، تداووا بالقرآن وأنى لداء لم يشفه القرآن والسنة أن يُشفى.

10 -

تضرعوا إلى ربكم دائمًا وكلما حلت بكم بأسًا، ففيه كشف للبلاء (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم}.

وقولوا كما قال العبد الصالح لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

11 -

{لا تقنطوا من رحمة الله ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف/ 87].

12 -

فرَّجوا كربة، وساهموا في دفع مصيبة، أصلحوا ذات بينكم، وأصلحوا بين أخوانكم .. فتلك درجات عالية والله يحب المحسنين.

13 -

ادفعوا الشر بالخير، والفساد بالإصلاح فذلك رهان لإصلاح الأرض {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} .

14 -

تأملوا في حادثات الزمن وتأملوا ما فيها من عظات ونذر، وويل للقاسية قلوبهم.

إنها آيات ونذر يخوف الله بها عباده فلا تغفلوا ولا تلهو وتلعبوا فتكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.

اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، والطف بنا وبعبادك المؤمنين، ولا تجعلنا عبرة للمعتدين، ولا فتنة للكافرين، ولا من رحمتك يائسين، ولا من عذابك ممسوسين.

(1) الداء والدواء/ 62.

ص: 12

(1) الإنسان في كبد

(1)

‌الخطبة الأولى

الحمد لله خلق الإنسان في أحسن تقويم، علمه البيان، أنشأه من ضعف وينتهي أمره إلى الضعف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قدر للإنسان حياته وكتب نصبته وكفاحه وهو العليم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أنموذج الكادحين وسيد المفلحين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اتقوا الله معاشر المسلمين وتفكروا في أنفسكم وحياتكم وارجعوا إلى ربكم واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.

أيها المسلمون (الإنسان في كبد) حقيقة قرآنية وواقع بشري .. إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها، منذ بدأ يُخلَّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة .. هكذا قدَّر الخالق وأخبر {لقد خلقنا الإنسان في كبد} .

إن الخليَّة الأولى لا تستقرَّ في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها- وبإذن ربها- الظروف الملائمة للحياة وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض إلى جانب الأم ما تذوق، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضُغط ودُفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم، بل ربما اختنق بعض الأجنة فانتهت حياته بنصب الولادة واختناق المولود.

(1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 6/ 1427 هـ

ص: 13

وحين يخرج الجنين للحياة يبدأ الجهد الأشق حيث يتنفس هواء لا عهد له به، ويفتح رئته لأول مرة ليشهق ويزفر ويستهل المولود صارخًا صرخة النزول الأولى في الحياة الجديدة .. وتبدأ دورة هضمية ودموية في العمل على غير عادة ويعاني المولود الجديد من كبد إخراج الفضلات حتى تُروض أمعاؤه على هذا العمل الجديد .. وفي هذه المرحلة يكثر الصراخ والعويل حتى وإن قُلِّب الجنين ذات اليمين وذات الشمال وكل خطوة بعد ذلك فيها كبد .. فهو يعاني ما يعاني حين يهم بالحبو .. وأشد من ذلك معاناة حين يستعد للوقوف والمشي .. فهو خائف وجل وهو يقوم ويسقط ويبكي أكثر مما يضحك .. وعند بروز الأسنان كبد .. هذا فضلًا عن كبد الأمراض المعترضة والآفات المصاحبة للنشأة ويستمر الجهد والكفاح والنصب والكبد في مسيرة الإنسان فهو يكابد حين يتعلم ويكابد حين يفكر .. وفي كل تجربة جديدة له فيها كبد ونصب.

ثم يكبر ويشتد عوده وتبدأ رحلة أخرى من المشاق والكبد.

ولئن اختلفت الطرق وتنوعت المشاق فالكل في كبد هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره والفرق هذا يكدح ويبيع نفسه ليعتقها وآخر ليوبقها .. هذا يكدح في سبيل الله وذاك يكدح في سبيل شهوة ونزو وصدق الله {إن سعيكم لشتى} .

لا يفارق الكبد الإنسان في أطوار حياته كلها .. كبد وكدح في مرحلة الشباب .. وكبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم .. إنه (الكدح) للغني والفقير والذكر والأنثى والسيد والمسود .. وكل يعايش نوعًا من الكبد فالفقير الذي يكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش أو شدة العوز أو همِّ الدَّين وغلبته وقهر الرجال ومطاردتهم قد لا يظن أن غيره في كبد .. بينما ترى الغني

ص: 14

يكابد في تجارته ويفكر في مكاسبه وخسائره .. وربما نام الفقير وهو يقظان وأكل الفقير وأنكح أكثر من الغني.

إنه الكبد لا يسلم منه الزعماء والعظماء وإن كانوا في أبراج عاجية وقصور وخدم وحشم فللمسئولية كبدها وللزعامة والرئاسة ضريبتها .. وللأمانات والمسئوليات حمالتها.

والكبد لا يُعفى منه العلماء وإن وصلوا إلى مراتب علية في العلم والمعرفة .. وهل حصَّلوا تلك العلوم وحازوا تلك المعارف إلا على جسور من التعب والكبد والسهر؟

إنَّ نصب العالم كامن في مسئولياته .. فحمل العلم وأداؤه وإبلاغه كل ذلك فيه كبد ونصب .. والميثاق المأخوذ على أهل الكتاب وزكاة العلم وحشية العلماء لربهم كل ذلك لا يتأتى دون نصب وكبد وجد ومجاهدة.

أين من يسلم من الكبد .. ؟ وإن تفاوت أنواع الكبد؟

لا إله إلا الله قدر أن يعمر الكون بالكبد وشاء أن يقوم سوق الحياة على النصب {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه} .

عباد الله لا يكفي أن نعلم كبد الحياة، وشمولها لبني الإنسان ولكن المهم كيف نتعامل مع هذا الكبد؟ وكيف نستفيد من هذا الكبد، وما نهاية الكبد وثمرته؟ وكيف نخفف من مكابد الحياة ومشاقها؟

إن المسلم يختلف عن غيره في نوع الكبد وغايته .. فهو مأجور على نصبه وهمّه وغمّه مادام يعبد الله ويخشاه، فما يصيبه من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.

والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربه، مطمئن أنه سيجازى على جهده وعمله .. ومن هنا فهو

ص: 15

يتحسس من المكابد ما يرفع درجاته، ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة .. ولكن نصبه يستمر بعد الممات، فالنهاية مؤلمة والشقاء مستمر ولعذاب الآخرة أشق.

المسلم يستعين على النصب بالصبر والصلاة وحسبك بهما معينًا والله يقول {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} {وويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} ومساكين هم الذين يجزعون ولا للعلق والنصب يصبرون وغير المسلم يتضجر ويقلق، ثم يعود إن لم يقتل نفسه أو يقتله النصب والقلق {ومن يهن الله فما له من مكرم} .

ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد، فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم، سعيهم شتى وأجورهم وأوزارهم مختلفة، وفرق بين من ينصب ليرتفع درجات وبين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانًا مبينًا.

عباد الله والاستغفار يخفف الكبد ويعين على مشاق الحياة ويفتح أبوابًا للرزق، وفي الحديث:((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب)).

{فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا} .

ومما يخفف الكبد والقلق أن يتصور المسلم مهما بلغ به من كبد الحياة

ص: 16

ومشاقها أن فيه من هو أشد منه قلقًا وضيقًا، ومهما بلغ في حصول المعالي والمجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبق وفُضِّل عليه، فهذا يُخفف من آلامه الدنيوية وهذا يزيد في سعيه للآخرة (1).

ولا بد من العفو والصفح والمسامحة والتجاوز فالخطأ وارد والسماحة خلق فاضل، والصفح والعفو من أخلاق العظماء ولا بد أن يحصل الخطأ منك أو عليك وربما نالك من خطأ الأقربين ما يحتاج منك إلى جميل العفو وكريم الصفح وفي التنزيل {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} [التغابن: 14].

بارك الله لي ولكم في القرآن.

(1) تحتاج الحياة إلى جد وحزم وعزم وصدق ويحتاج مع ذلك إلى أناة ورفق وعدم تعجل وطموحات وآمال وفأل حسن لاسيما حين تشتد الأمور، وتدلهم الخطوب وتنتشر الفتن، وحتى لا يقع الإنسان ضحية للهوى والاستعجال أو العجز والكسل يحتاج إلى هذه الموازنات كلها .. ولا يستغني عن دعاء ربه وتوفيق له وعونه، وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يتخلى عنه اجتهاده.

ص: 17

‌الخطبة الثانية

يا أيها القلقون المكابدون استأنسوا بذكر الله على آلام المكابدة فطالما خاضت ألسنتكم بكل شيء إلا الذكر وبذكر الله تطمئن القلوب، كم يفرّج ذكر الله من كربة ويزيل من غمة وويل للقاسية قلوبهم، ومساكن من شحت عليهم ألسنتهم عن ذكر الله، ومثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت {فاذكروني أذكركم} وفي القرآن شفاء لما في الصدور، ونور للقلوب، ولا غرابة أن تكثر هموم الهاجرين لكتاب الله، إنه القرآن هداية وبصائر ورحمة وذكر، فليكن لك من كتاب الله نصيب فهو نعيم لا ينسى في الوحشة والرفيق في الخلوة، والمصاحب في الغربة.

أيها المسلم وكيف يزيد قلقك وأنت تؤمن بقضاء الله وقدره فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وكيف تضجر ورزقك وأجلك مسطوران في الكتاب ألا فاعمل فيما يفنى لما يبقى، واصرف همك للآخرة فهي المستحقة للعناء إذ هي دار البقاء.

يا أيها العقلاء والاستخارة والاستشارة تخففان من القلق وسبيلان للراحة وحسن المنقلب .. إنك تستخير الله العليم الخبير في أمور لا تدري ما نهايتها .. وتسلم الأمر لله في تقدير ما ينفعك في الدنيا والآخرة .. أليس ذلك سبيل للراحة والاطمئنان؟ وأنت في الاستشارة تستفيد من عقول الآخرين ولا تحرم تجارب المجربين، وإذا تشابهت ظروف الحياة كان لأهل التجربة رأيهم، وخليق بالعقل أن يستفيد منهم .. إنها هدايا بلا ثمن، ومكاسب تخفف من المكابد والقلق.

ومع ذلك فالدنيا - يا ابن آدم - مركب للسهل والصعب، وميدان للسرور

ص: 18

والحزن، وينقلب أصحابها بين الصحة والسقم والشباب والهرم والفقر والغنى، ومن سره زمن ساءته أزمان، لا بد من ترويض النفس على إقبال الدنيا بالشكر وإدبارها بالصبر، لا بد من توقع المفاجآت ولا بد من الصبر واليقين عند الصدمات.

إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه .. إلا فليكن كدحك في مرضاة الله وليكن نصبك في هذه الدار سبيلًا لراحتك يوم تلقى الله.

ألا كم من مغرور غرته هذه الحياة فألقته المنايا في مهاوي الردى وفكر وقدر فإذا بالروح تبلغ الحلقوم فندم على التفريط ولكن هيهات عن التعويض!

ألا إن سعيكم لشتى فانظر أيها العاقل في نوع سعيك وهل أنت ممن يزرع الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعين على نوائب الحق أم أن سعيك إفساد في الأرض وظلم للخلق ونسيان للخالق، ألا فاعلم أن سرَّك ونجواك وظاهرك وباطنك لا يخفى على الله منه شيء {يعلم السر وأخفى} {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} .

يا ابن آدم ومهما ابتلاك الله بشيء من رزايا الدهر ومصائب الزمان فلا تظن بربك الظنون السيئة فلعل الله أراد بك خيرًا وأنت لا تشعر، ولعل حسناتك قصرت بك عن منزلة علية أرادها الله لك فبلغك إياها بهذه المصائب ألا فاصبر واحتسب وفي الحديث:((ومن يرد الله به خيرًا يصب منه)). رواه البخاري

وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يدخل على رسول الله وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم،

ص: 19

قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحُطَّت عنه ذنوبه كما تُحطُّ الشجرة ورقها)). متفق عليه

هكذا يعلمنا نبينا أجر المصائب وعواقب الأذى.

اللهم لا تحرمنا أجرك، وارزقنا الصبر واليقين على أقدارك واجعلنا من سعادة الدنيا إلى سعادة الآخرة، ولا تجعلنا من الخاسرين.

ص: 20

‌المحاسبة لماذا وكيف

؟ (1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.

إخوة الإسلام قوارع الحقِّ تصكُّ أسماعنا صباح مساء فهل من مجيب؟ والنفس الأمارة بالسوء تحاول أن تردي أصحابها فهل من وقفة ومحاسبة؟

{يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18].

هكذا يكون العرض، وكذلك تكون الدقة في المحاسبة.

{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا وليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا} [الكهف: 49].

قف واسأل نفسك

يا أخا الإسلام ماذا أعددت لهذا اليوم، وكيف تتقيه اليوم؟ وفي ديوان الشعراء (أبي العتاهية):

أأخي إن أمامنا كربًا لها شغب وإن أمامنا أهوالا

أأخي إن الدار مدبرة

وإن كنا نرى إقبالها إدبارا

قال العالمون (الماوردي) إن على الإنسان أن يتصفح في ليلة ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه ما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل (2).

وقال آخر: أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال

(1) ألقيت هذه الخطبة في 29/ 5/ 1425 هـ

(2)

(أدب الدنيا والدين/ 342).

ص: 21

وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول بصاحبه إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب ويُمش الحال، ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهَّل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها، وعسر عليه قطافها)) (1).

عباد الله ومن أقوال السلف إلى أعمالهم وحرصهم على محاسبة أنفسهم، فهذا عمر رضي الله عنه يدخل حائطًا فسمعه أحد المسلمين - وهو لا يدري - يقول:

عمر! ! أمير المؤمنين؟ ! بخ بخ، والله يا بني الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك.

وجاءه رجل يشكو إليه وهو مشغول فقال له أتتركون الخليفة حين يكون فارغًا، حتى إذا شُغل بأمر المسلمين أتيتموه، وضربه بالدّرة، فانصرف الرجل حزينًا فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به، وأعطاه الدرة، وقال له: اضربني كما ضربتك، فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك، فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: يا ابن الخطاب كنت وضيعًا فرفعك الله، وضالًا فهداك الله وضعيفًا فأعزك الله، وجعلك خليفة فأتاك رجل يستعين بك على رفع الظلم فظلمته؟ ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه (3).

لله درك يا عمر على هذا العدل والإنصاف والمحاسبة أين نحن من عمر؟ كم نظلم أنفسنا بفعل المعاصي فهل نحاسبها وكم يقع منا ظلم على غيرها فهل نتقي الله ونرجع ونرد المظالم ونستأذن من ظلمنا، ونلوم أنفسنا؟

(1)(ابن القيم: إغاثة اللهفان/ 1/ 95).

(2)

(الزهد لأحمد/ 171).

(3)

(مناقب أمير المؤمنين عمر لابن الجوزي/ 171).

ص: 22

إنها نفوس الكبار .. تُرَّوض على العدل والبر والإحسان وإذا وقعت في الخطيئة عادت تلوم وتستغفر وتحاسب؟

إنها الكياسة التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) (1).

قال الترمذي معنى (من دان نفسه) أي حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة.

أيها المسلمون الأمر في المحاسبة النفس غاية في الأهمية، ولئن كان شاقًا اليوم فعاقبته الخير والفلاح غدًا.

ورحم الله القائل: اقرعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنها تنازع إلى شر غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئًا، فتصبَّروا وتشددوا، فإنما هي أيام تعدُّ، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم)) (2).

عباد الله إننا نخطئ بالليل والنهار .. أفلا نتوب ونستغفر ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا.

تصور يا عبد الله لو أن كل ذنب عصيت الله به رمي في بيتك في مقابله حجرًا؟ ألا يمتلئ البيت بالحجارة؟ .. ألا تضيق عليك هذه الحجارة المسالك؟ ألا تخرب بيتك؟ فهل تتصور أن الله غافل عما تعمل، كيف والملكان الموكلان بك يحفظان ويكتبان {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} . {احصاه الله ونسوه}

(1) رواه الترمذي وحسَّنه وصحَّحه الحاكم والذهبي/ المستدرك 4/ 210.

(2)

(الحلية 2/ 144 عن الحسن)

ص: 23

أيها المسلمون وفي رحمة الحياة وغرورها، ومطالب النفس وتطلعاتها، وتسابق الناس إلى الشرف والسؤدد والرئاسة والمال والجاه والسلطان .. في ظل هذا كله قد تغيب أو تضعف المحاسبة، وعلى قدر الإيمان واليقين بحقائق الآخرة .. تكون المحاسبة قال أحدهم: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا؟ قلت فأنت في الأمنية فاعملي (1).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} اللهم انفعنا بهدي القرآن أقول ما تسمعون.

(1)(الزهد للإمام أحمد/ 501).

ص: 24

‌الخطبة الثانية

{الحمد لله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحاسب على النقير والقطمير، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال وهو الصادق الأمين.

يا أخا الإيمان .. أما وقد عرفت قيمة المحاسبة وحاجتنا إليها، بل وغفلة الكثير منا عن ممارستها فقد يرد السؤال وكيف تتم محاسبة النفس وما هي الأمور المعينة على هذه المحاسبة؟

ذكر أهل العلم أن المحاسبة الصادقة تعتمد على أمور ثلاثة هي:

1 -

الاستنارة بنور الحكمة.

2 -

وسوء الظن بالنفس.

3 -

وتمييز النعمة من النقمة فكيف يتم ذلك.

فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان حظ العبد من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أتمَّ وأكمل.

أما سوء الظن بالنفس فحتى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب، ولئن تزكية النفس حاجب عن محاسبتها.

وأما تمييز النعمة من الفتنة فلأنه كم مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجُهَّال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (1).

(1)(مدارج السالكين 1/ 188).

ص: 25

ولله در الإمام أحمد حينما بلغه أن المسلمين في بلاد الروم كانوا- وهم في الغزو - إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء له، وكانوا يرمون المنجنيق باسمه حتى سقط رأس علج من درقته .. فلما بلغ أحمد الخبر تغيَّر وجهه وقال: ليته لا يكون استدراجًا (1).

أيها المسلمون ومما يعين على المحاسبة ما قاله ابن القيم رحمه الله: ومن أنفع المحاسبة أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها على ما خسره وربحه في يومه ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربَّه ويستدرك ما فات (2).

ألا ما أحوجنا إلى هذه الساعة من المحاسبة، وكم نغفل عنها، فهل نمارسها قبيل النوم من الليل والليل- كما يقال - أخطر للخاطر وأجمع للفكر.

يا أخا الإسلام حاسب نفسك على عمل السيئات وهل استغفرت وكفَّرت عنها، وعلى عمل الصالحات هل فرحت بها وسألت ربَّك قبولها؟ حاسب نفسك على نوع الكلام الذي صدر منك، وفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، حاسب نفسك على مطعمك ومشربك، وكل جسد نبت على سحت فالنار أولى به وحاسب نفسك على العدل والإنصاف، والظلم ظلمات يوم القيامة حاسب نفسك على استثمار الوقت، والوقت أغلى ما نملك والمغبون من فرط فيه أو استخدمه فيما يغضب الله.

(1)(السير 11/ 210).

(2)

(الروح لابن القيم/ 79).

ص: 26

والوقت أغلى ما عنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضيع

حاسب نفسك على همومك أهي للدنيا أم للآخرة، {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} .

ما نصيب الإسلام من جهدك، وما حض أخوانك المسلمين من اهتمامك ودعائك .. إلى غير ذلك من ألوان المحاسبة .. وإياك أن تكون من الغافلين، أو من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .. إننا بحاجة للمحاسبة فهي سبيل للاستقامة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.

أيها الأخوة المسلمون هذه الجمعة آخر جمعة في العام والسؤال بماذا تذكرك آخر جمعة في العام؟

إنها تُذكر- فيما تذكر - بسرعة الزمان، وانفراط الآجال وقرب الارتحال فما العمر إلا جمعة وأخرى وثالثة لا تدرك لا تدرك ما فيها من أحداثٍ وحوادث ورابعة خبر من الأخبار سرت وأخرى أضحكت وأبكت إنها الدنيا متاع الغرور وهي حرية أن تفتح صفحة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} بل صفحات للمرء ماذا قدم من الجمعة إلى الجمعة، ومن أول جمعة في العام إلى آخر جمعة، بل وما رصيده من الخير أو نصيبه من الشر منذ أول جمعة عقلها إلى آخر جمعة أدركها؟

إن الجمعة تذكر ببداية الخليقة ومنتهاها، ففيه خلق آدم وبه تقوم الساعة.

يوم الجمعة يوم الخيرية والأفضلية، فما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدى الله له هذه الأمة المسلمة وأضل عنه أمم اليهود والنصارى.

يوم الجمعة يوم اجتماع المسلمين، ويوم زينتهم، وهو شعار للوحدة واجتماع الكلمة والتآلف والتقارب والسلام والبشر والذكر والدعاء والمزيد من الصلاة

ص: 27

والسلام على النبي المجتبى إنه يوم يتفرغ المسلم من أعماله الدنيوية ليزيد من رصيده الأخروي ومن غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر، ومسَّ شيئًا من طيب أهله، ودنا من الإمام واستمع للخطبة ولم يلغ كتب الله له بكل خطوة يخطوها للمسجد أجر سنة صيامها وقيامها.

كم يفرط المسلمون في سنن يوم الجمعة من التبكير في ساعاتها الأولى إلى إهمال الدعاء في آخر ساعة فيها وتلك الساعة لا يوافيها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه - ما لم يسأل إثمًا - وأرجى ساعات الإجابة ساعتكم هذه، وساعة ما بعد العصر، فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة وانتظارها، وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد وانتظار صلاة المغرب ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة.

هل أنت من المحتسبين لساعة الإجابة في الجمعة، وهل تحتسب على الله في الدعاء في وقت أنت أحوج ما تكون فيه للدعاء وبأمننا من الآلام واللؤى ما لا يرفع إلا إلى الله، فهل نسأل الله في أوقات الإجابة بكشف البلاء ودفع الضراء.

عباد الله: خمسون جمعة هي محصلة العام تقريبًا هل تذكرت أخي المسلم كم لله عليك من فضل خلالها صحة في البدن وأمن في الوطن، والناس من حولك يتخطفون ويفتنون .. كيف تشكر الله على هذه النعمة؟ إن البلايا والمحن أقدار الله .. وهو يقدرها حيث شاء ويفتن بها من شاء، فهل اتخذت من أيام الرخاء عبرة لأيام البأساء والحق يذكرنا بالفتن الحولية ويقول {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} .

بل قد تكون ممن فتن بمال أو ولد أو مرض أو نحوه وهل لك أن تخرج من البلاء بغير كاشف الضراء {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} .

حاسب نفسك

ص: 28

(إن سعيكم لشتى)

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله ..

أيها الأخوة المؤمنون، الناس في هذه الحياة كلُّهم يسعى ولكن سعيهم مختلف {إن سعيكم لشتى} وإذا اختلف السعي اختلف الجزاء {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} إنه مقرر عند العقلاء أن الخير ليس كالشر، وليس الهدى كالضلال وليس الصلاح كالإفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى وليس من صدَّق وآمن كمن كذب وتولى .. إن لكل طريقًا ولكل مصيرًا، ولكل جزاء وفاقًا .. ولا يظلم ربك أحدًا.

يا عبد الله إلى أين تسعى، وما الهدف من مسعاك، وما نتائج هذا المسعى؟ تلك أسئلة راشدة حق على كل مسلم أن يسأل نفسه إياها .. فهي مُوجهة للمسيرةٌ، وقائدةٌ بإذن الله للفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة.

واعلم يا عبد الله أنه لا وقوف في الطريق البتة لكن هل تتقدم أم تتأخر، قال تعالى:{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} .

وإذا ضل سعي أكثر العالمين والله يقول عنهم {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} فعلى عباد الرحمن أن يضبطوا مسيرهم، وأن يحددوا أهدافًا عالية لمسعاهم.

(1) ألقيت هذه الخطبة في 1/ 2/ 1429 هـ

ص: 29

وصدق الشاعر:

شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب

وضاع وقتك بين اللهو والعب

يصلحون أنفسهم، ويسهمون في إصلاح الحياة والأحياء من حولهم ويتأكد السعي المثمر حين يتأمل الساعي قصر الحياة الدنيا، وكثرة طرق الضلال، وتنوع ميادين الفساد والإفساد؛ فمن خلّص نفسه من هذه الأشواك وتجاوز هذه المغريات فهو السعيد الراشد، {وقد أفلح من زكاها} .

ويتأكد السعي المثمر كذلك بالنظر لنعيم الآخرة وطول المكث فيها {فهي الحيوان لو كانوا يعلمون} {وأن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون} :

وشمس عمرك قد حان الغروب لها

والفيء في الأفق الشرقي لم يغب

وفاز بالوصل من قد جدَّ وانقشعت

عن أفقه ظلمات الليل والسحب

أجل لقد خطى على هذه الأرض أنبياء وعظماء، وأغنياء، وساسة وقادة وكبراء وما هي إلا برهة من الزمن وإذا الأرض تغنيهم في طورها ولم يبق إلا أخبارهم تروى {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} {ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا} ؟ وكان الخبر بعدهم على حسب سعيهم وكان ذكرهم مقرونًا بنوع أعمالهم أجل إنهم أقوام باعوا أنفسهم لله، وجاهدوا في سبيله، ودعوا الخلق إلى عبودية الخالق فأولئك سعيهم مشكور، وأجرهم محفوظ، وأولئك في جنات مكرمون وآخرون دسوا أنفسهم ودنسوها بالمعاصي، وأوبقوها ولا بد للقيام بأمر الله من عاملين عامل القوة وعامل الإخلاص فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي للإخلاص يخدل، فمن قام بهما كاملًا فهو

ص: 30

صديق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب ليس وراء ذلك إيمان .. كذا قرر الإمام الذهبي (1) وفي التنزيل {خذ الكتاب بقوة} {ألا لله الدين الخالص} بالسيئات والمنكرات .. وقد خابوا وخسروا ولم تكن خسارتهم في الدنيا بل خسروها والآخرة وذلك هو الخسران المبين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» والحديث يتمم لكلام قبله قال صلى الله عليه وسلم في أوله حاحثًا على جُمل من الأعمال الصالحة (الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك (2).

يا مسلم يا عبد الله وتشتد الحاجة للسعي الراشد في أزمان الغربة، وفساد الزمان، وقلة الأعوان .. إنهم الغرباء القابضون على دينهم كالقابض على الجمر، ولهؤلاء قال صلى الله عليه وسلم ((طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) (3).

عباد الله المشي في مناكب الأرض لابتغاء الرزق، أو للنظر والاعتبار فيما خلق الله وبرأ أمر مشروع لكن لأنه لا ينفك عن العبودية لله والشكر على تذليل الأرض وبسطها ودحوها وتذكر المبدأ والنشور وتأمل قوله تعالى:{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير} .

(1)(السير 11/ 234).

(2)

رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (صحيح الجامع 4/ 20، 21).

(3)

رواه أحمد عن ابن عمرو بسند صحيح (صحيح الجامع 4/ 12).

ص: 31

أجل لقد عرف الناس مسلمهم وكافرهم، وفي أقصى المعمورة وأدناها كيف تتحول هذه الأرض المذللة بإذن باريها إلى خَلْقٍ آخر يُدمِّر ما حوله في ثوان معدودة .. لا يملك البشر مهما أوتوا من قوة تذليلها ومنع كوارثها إنها حين تضطرب وتهتز وتقع الزلازل والبراكين المدمرة يتحطم كل شيء على ظهرها بناه الإنسان وشيده لعدة قرون أو نغوص في أعماق البحار والمحيطات حين تقع خسوف هنا أو هناك وتغيب قرى بأكملها وأناس وحيوانات في البر والبحر فسبحان القوي العزيز. وكذلك يشهد الناس حين تثور العواصف الحاصبة التي تدمر وتخرب، وتحرق وتصعق، والبشر بإزائها ضعاف لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا حتى يأخذ الله بزمامها ويُسكِّن رياضها، ويوقف أعاصيرها فتنقاد وتلين؟ فمن غير الله يبدئ ويعيد؟ الله القوي العزيز وبيده ملكوت كل شيء:

قل للطبيب تخطفته يد الردى

من يا طبيب بطبِّه أرداكا

قل للمريض نجى وعوفي بعدما

عجزت فنون الطب من عافاكا

واسأل بطون النحل كيف تقاطرت

شهدًا وقل للشهد من حلاكا

وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّه

فاسأله من ذا بالسموم حشاكا

واسأله كيف تعيش يا ثعبان

أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا

فالحمد لله العظيم لذاته

حمدًا وليس لواحد إلاكا

إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبة الله من القوة، عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم، ولكن هذا الكون الهائل زمامه بيد خالقه، ونواميسه من صنعه، وكل شيء بقدر الله وتقديره {إنا كل شيء خلقناه بقدر} وحين ينسى الإنسان هذه الحقائق فيطغى ويغتر وينخدع، بما أوتي من علم أو مال أو قوة، فإنه يصبح مخلوقًا مسيخًا مستكبرًا مقطوعًا عن الله ولا يبالى الله به بأي واد هلك هذا النوع من الخلق!

ص: 32

ومع كتابة القدر وتحديد الآجال، والسعادة والشقاء .. فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب الموصلة للنجاة دون تواكل سلبي .. فعول قدري عن العمل المثمر وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومع مخصرة فنكَّس (أي خفض رأسه وطأطأه نحو الأرض) فجعل ينكث بمخصرته، ثم قال ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} .

اللهم اجعلنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى.

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ورزقنا عملًا نافعًا وعملًا صالحًا.

ص: 33

‌الخطبة الثانية

أيها المسلمون ومع حلول الإجازات يشتد سعي الناس وتكثر سفراتهم وترحالهم، ففريق يشد الرحال لزيارة المسجد الحرام، وأداء العمرة والطواف والسعي، والصلاة في البيت العتيق، والصلاة هناك بمائة ألف صلاة وأكرم بها من رحلة للبيت الحرام.

وآخرون يشدون رحلهم إلى المسجد النبوي حيث مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ودار الهجرة، ومآزر الإيمان .. والصلاة هناك عن ألف صلاة.

كما أن الصلاة في مسجد قباء كعمرة كذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).

وثمة من يسافرون لصلة الأقارب والتواصل مع الأرحام، ومن وصل الرحم وصله الله ومن قطعها قطعه الله .. وكم هو فساد في الأرض قطيعة الرحم والله يقول {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وكم هو جميل أن يتعلم المسلم من نسيه ما يصله به رحمه، وصلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر وكذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

وفريق يرحلون إلى البراري ويصوون الصغار للنزهة وفسحة النفس، والتأمل في أرض الله الواسعة.

وأيًا كانت جهة السفر .. فهو مرهون بحس أو سوء نية المسافر وما أحلى رفقة السفر يتعاونون على البر والتقوى ويقيمون الصلاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يحسنون ويتصدقون على المحتاج، ويعظون قومًا غافلين

(1)(الجامع الصغير 3/ 265).

(2)

(صحيح الجامع 3/ 45).

ص: 34

عن ذكر الله، فإن لم تهدوا درهمًا أو دينارًا، أهدوا كلمة طيبة، وكتيبًا مفيدًا أو شريطًا نافعًا تحمل أعلام النبوة وتهدي للتي هي أقوم.

عباد الله وليس من لوازم السفر السفور والتبرج، والتحلل من الفضيلة، والإقدام على الرذيلة .. ليس يسوغ في السفر كشف العورات ولا التساهل في الجماعات وثمة مخالفات يحسن تنبيه بعض المتنزهين بها ومن ذلك عدم تستر النساء، وركوب الدراجات أمام الرجال .. مع قلة الحياء وربما انقلب الفرح إلى أتراح حين يسقط طفل امرأة، ويصاب إصابات بالغة، وربما عرضت صور النساء على أجانب وربما كانت فضيحة للمرأة وهي لا تشعر كما تساهل الناس في التصوير، وتساهلوا مع الفتيات يتجولن في البراري لوحدهن وبعيدًا عن أهاليهن، وربما وقع المكروه من ضعف الرقابة والتساهل.

كما يتساهل بعض أهل البراري بالرقص والغناء واستعاضوا به عن الشكر والذكر .. وليس يستوي لهو الحديث .. وترتيل القرآن فاشكروه ولا تكفروا نعمة يا أيها الأولياء أهاليكم وأولادكم وبناتكم أمانات في أعناقكم، وكما تحوطونهم في حضركم وحال إقامتكم فكذلك فحاجوهم في حال سفركم وترحالكم.

أيها الناس وكما ترعوا أماناتكم في الذراري والأموال فارعوا أمانتكم في الحفاظ على الأوقات والاستفادة من العمر، وليس ثمة تعارض بين نزهة النفس وحفظ الوقت فلا يدري المرء أنحترمه ريب المنون في حال ** أو حال الإقامة.

يا أهل الإسلام إن جهدًا بُذِلَ لتربية أبنائكم وبناتكم من خلال المؤسسات العلمية والتربوية بمراحلها كافة، لا ينبغي أن تُهدر في بضعة أيام من هذه الإجازة وإن أخوانًا لنا يعيشون المسعفة والحصار لا ينبغي أن ننساهم أينما حللنا أو ارتحلنا .. ولا تحقروا دعوة صادقة بظهر الغيب قد يكشف الله بها كربًا .. أو يشفى مريضًا، أو يفك مأسورًا، أو ينصر مظلومًا.

ص: 35

وقد نقل ابن القيم رحمه الله في الفوائد أن المواساة للمؤمنين أنواع، مواساة بالمال ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب إتباعهم له (1).

أيها المؤمنون عظموا ربكم ووقروه، ألا وإن من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره، فإنك توقر المخلوق وتجلُّه أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، والله يقول {ما لكم لا ترجون لله وقارًا} [نوح: 13].

أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه، وقيل: المعنى ما لكم لا تعرفون لله حقًا ولا تشكرونه، أو لا تعرفون حق تعظيمه (2).

وتوكلوا عليه حق التوكل، وقد قال العالمون التوكل على الله نوعان: أحدهما توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.

والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.

قال ابن القيم فمن توكل على الله في النوع الثاني فإن النوع الأول (3).

اللهم اجعلنا ممن استهداك فهديته وتوكل عليك، اللهم اجعل عملنا مبرورًا وسعينا مشكورًا.

(1)(الفوائد/ 222).

(2)

(الفوائد/ 242).

(3)

(الفوائد/ 112)

ص: 36

‌قيادة المرأة للسيارة

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ..

من الذي جعل من المرأة قضية؟ تُثار بمناسبة وبدون مناسبة وتُطرح في كل حوار وإن كان الحوار بعيدًا عن شؤون المرأة؟ لماذا هذه الإثارات؟ ومن المستفيد من هذه الاستفزازات؟ من أنصار المرأة حقًا ومن خصومها؟ ومن النَاصحون ومَنْ المغموسون في اجترار قضاياها؟

إن الإسلام لا يُجاري في إعطاء المرأة حقوقها، وفي تهذيب أخلاقها، والحرص على عفتها، وصون كرامتها. ولن يقوم أي نظام أرضي بديلًا عن الإسلام وإن وهم الواهمون، أو خُيل للمستغربين والمفتونين بحضارة الآخرين غير ذلك.

إن المتأمل في نصوص الوحيين يجد مصطلحات عدة بشأن المرأة تجتمع على العفة والحياء، والقرار والصون لهذه الدرة الثمينة والبعد عن الخلطة بالرجال ونحوها من سلوكيات رفيعة نظيفة يشيد بها الإسلام ويدعو لها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أليس القائل:((وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)) هو العليم الخبير؟

وأين نحن جميعًا من قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} .

ألم يشد القرآن بحياء المرأة {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء}

(1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 4/ 1426 هـ

ص: 37

[القصص: 25] ومن قبل عرض القرآن كنموذج المرأة في الخروج من البيت فالحاجة شرط لها، والبعد عن الاختلاط بالرجال ضمان لتزكيتها {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} [القصص: 23] فشيخوخة الأب والحاجة للماء أخرجت هاتين المرأتين والانتظار حتى يصدر الرعاء من الرجال خلق تجملت به هاتان المرأتان؟

وليس يخفى أن أزكى النساء أمهات المؤمنين .. ومع هذا قيل لهن {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} [الأحزاب: 32].

وإدناء الجلابيب وإرخاء الحجاب، وغضُّ البصر للرجل والمرأة كل ذلك مفردات كريمة جاءت نصوص الشريعة حافلة بها.

وفي حقوق المرأة وواجباتها كفل الإسلام لها ذلك {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} [البقرة: 228]، والنهي واضح في عضلن أو إرثهن كرهًا {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن} [النساء: 19] وفي حسن التعامل معها وتقدير مشاعرها جاءت النصوص الشرعية تقول: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)((استوصوا بالنساء خيرًا)((لا يكرمهن إلا كريم)).

أيها المسلمون إذا كانت تلك بعض نصوص الإسلام تجاه المرأة فأهل الإسلام أكثر الناس اعتدالًا وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم تعاملًا مع المرأة .. وعلى قدر التزام المرء بالإسلام وفهمه وتطبيقه لنصوص الشريعة يكون قدر المرأة عنده وتتجلى أخلاقياته في التعامل معها دون إسفاف وقهر كالذي مارسته الجاهلية الأولى ودون إفساد وفتنة كالذي تمارسه الجاهلية المعاصرة.

في عالم اليوم محاولات جادة لتنحية المرأة عن قضاياها المصيرية والهامة، وإشغال لها بقضايا استهلاكية هامشية ..

ص: 38

أين الطرح بقوة لرسالة المرأة في الإسلام، ودورها في الدفاع عن قيمها وإسلامها في زمن بات التهجم على القرآن ظاهرًا للعيان، والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام يمارس من خلال وسائل الإعلام وتدعمه دول كبرى أين موقع المرأة المسلمة في عالم تتخذ المرأة الغريبة والشرقية مكانها لتعبر عن حضارة وقيم عالمها ومجتمعها؟ وهي تتقصد المرأة المسلمة بالغزو والتذويب والاستلاب والنهب؟ أين المؤتمرات الإسلامية العالمية للمرأة على غرار مؤتمر المرأة في بكين حيث التخطيط والدعم والإعلام؟ أين الحديث عن المطلقات وأين الحديث عن العنوسة والعانسات أين الدراسات الجادة لدور المرأة في التنمية بمفهومها الشامل حيث تبدأ انطلاقتها من البيت وتربية النشء في زمن ربَّات الخادمات والاستقدام المسعور للسائقين والخدم وفي هذا الجو لا تسأل عن ضعف التربية، وترهل المرأة، والاستنزاف الاقتصادي، والفساد القيمي والانتحار الخلقي وما ينشر في الإعلام من جرائم وموبقات عظيم عظيم وما يخفى ربما كان أعظم.

أين الصيحات الصادقة والمنادية بتأمين كافة المستلزمات الصحية للمرأة من مستشفيات خاصة بالمرأة وعناية طبية فائقة، وتخفيف ساعات عملها حفاظًا على صحتها وإبقاءً لرونق أنوثتها؟

وفي التعليم والعمل من ينادي بتحسين تعليم المرأة، وصياغة مناهجها باستقلالية كاملة تخدم رسالة المرأة في بيتها، وتؤهلها للأعمال المناسبة لطبيعتها، وتثبِّت هويتها في معترك الصراع العالمي، ونصلها بالتبعية المعاصرة، ويصح على عالمها المعاصر دون عزلة أو تذويب وفي عملها ثمة مطالبات ناصحة لتخفيف عن ساعات العمل ونصابها والتدريس على المرأة مع الاحتفاظ بكامل مرتبها .. وثمة دعوات صادقة لتخفيف سنوات الخدمة حتى تحصل المرأة على التقاعد المبكر ..

ص: 39

لتتفرغ لرعاية بيتها وتربية أطفالها وتوفير جو السعادة لزوجها، مع الاحتفاظ بحقوقها المالية وحتى تتيح الفرصة لأخت لها على قائمة الانتظار الوظيفي.

أين الجمعيات والهيئات المتابعة لعضل المرأة والاعتداء على حقوقها سواء من قبل الزوج أو الأب أو غيرهم أين المحامون عنها والمطالبون بحقوقها قضايا كثيرة يمكن أن تُدرج في الاهتمام بالمرأة ولكنها في سياق العفة والكرامة، وفي محيط الصدق والعمق، والنصح والأدب والتوازن والاعتدال.

أما اختزال قضية المرأة في أمورها مشية .. فذلك نوع من التلاعب بقضايا المرأة .. بل هو يسير في اتجاه الاستفزاز، وإثارة الجدلية وهدر الأوقات والجهود، وبث روح التنازع والافتراق.

خذوا على سبيل المثال (قيادة المرأة للسيارة) هل هي بالفعل حاجة ماسة لا تستقر حياة المرأة والأسرة والمجتمع إلا بها؟

ولا تصلح دنيا الناس إلا بها؟ وهل نكرم المرأة بقيادتها للسيارة أم أن مهنة القيادة لا تحتل قيمة مرموقة حين تصنف المهن؟

إن القضية في نظر المنصفين لا تعدو أن تكون موضوعًا جانبيًا متأخرًا في الترتيب لمن يرون ترتيب الأولويات بعيدًا عن الإثارة والضجيج وحين نفكر بهدوء هل قيادتها للسيارة ستخفف أم تزيد من مشكلاتنا الاجتماعية، والاقتصادية والأمنية فضلًا عن تأثيراتها القيمية وتداعياتها الأخلاقية.

وإذا كنا نهتم بالدراسات ونعني بالتقارير، ونثمن النتائج فثمة دراسات هادئة تبرز النتائج المتوقعة لقيادة المرأة للسيارة وتشير هذه الدراسة إلى ما يلي:

1 -

قيادة المرأة للسيارة ستضيف أعباء اقتصادية على المجتمع، وسترهق كوامن كثير من الأسر التي تعاني حتى توفر سيارة واحدة .. فكيف إذا أضيف إليها للأثاث مثلها .. وما يتتبعها من نفقات السير والمرور؟ والوقود والإصلاح.

ص: 40

2 -

وقيادة المرأة للسيارة ستضيف مشكلات مرورية هائلة، وستحدث من الزحام ولاسيما في المدن الكبرى ما سيكون على حساب الوطن والمواطن.

3 -

وستضيف أعباء أمنية كثيرة ذات مظاهر خطيرة هذا فضلًا عن المظاهر الخلقية وانتهاك القيم، وخدش الحياء والخلق.

4 -

أما الزعم بحلها لمشكلة السائقين فالتجربة الموجودة في دول الخليج مثلًا تؤكد أن نسبة 80% من الأسر الخليجية لديهم سائقون مع كون قيادة المرأة للسيارة متاحة (1).

وبكل حال فخسارة الأعراض أشد من خسارة الأموال (2).

أيها الناس إن بلادنا غير محتاجة لمزيد من القلاقل والفتن، وليس فيها متسع للاستفزازات وردود الأفعال، وكفانا تجارب من سلفنا بل ويمكننا أن نأخذ الدرس من تجارب وقعت في محيطنا، وعلى سبيل المثال دخلت المرأة عالم الأسهم وهذا حلال لها، لكنها حين مارسة الاقتصاد بشكل مهم فماذا جنت وبماذا أخرجت؟ إليكم اعترافات بعضهن عبر عناوين سريعة نشرتها صحافتنا المحلية وتقول على السنة النساء وسوق الأسهم ((خرب الآلاف وأصبت بانهيار)).

وأخرى تقول: ((انتظر أن يتراجع زوجي عن الطلاق والطامة حدثت مع هبوط سوق الأسهم)) وثالثة تقول: ((الطمع أعمى بصيرتي وأرى السخرية في عيني زوجي يوميًا)) (3).

لقد كفل الإسلام لها حق النفقة على الأزواج .. ولئن تعيش المرأة سعيدة

(1)(د. العشماوي، الجزيرة 20/ 4/ 1426 هـ).

(2)

(الشيخ الفوزان في رده على آل زلفه/ المدين - 26/ 4/ 1426 هـ).

(3)

(حمد القاضي/ الجزيرة 20/ 4/ 26 هـ).

ص: 41

آمنة مطمئنة .. وإن لم تسجل في قوائم المساهمين والتجار، خير لها من أن تملك القناطير المقنطرة .. ولكن على حساب سعادتها .. وأنوثتها .. وتكدير صفو عيشها مع زوجها وأولادها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

{الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهن على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا إن الله كان عليًا كبيرًا} [النساء: 34].

ص: 42

‌الخطبة الثانية

أيها المسلمون: قيادة المرأة للسيارة قضية محسومة في بلادنا بفتوى شرعية وبقرار سياسي، ونحن في بلد تحتكم إلى الشرع، ونطيع وليَّ الأمر أما الفتوى فقد صدرت من أعلى هيئة شرعية (هيئة كبار العلماء) مدعومة بالدليل، مدللة بفقه الواقع، معتبرة للمآلات مقدرة للنتائج، أليست هذه الهيئة محل ثقتنا .. أليست فتواها معتبرة لرجالنا ونسائنا؟

وإذا كانت فتواهم غير مقنعة عند فئة قليلة في المجتمع فهي بحمد الله محل للثقة والاعتبار عند غالبية المجتمع.

وهل يراد من هذه الإثارات لقيادة المرأة للسيارة بين الفينة والأخرى هز الثقة بهذه المرجعيات الشرعية في بلادنا؟ هل يسوغ أن نسمع للهيئة الشرعية العليا في بلادنا، فيما نشاء ونحب ونتجاهل رأيها حين لا نشاء ولا نحب؟ إنها انتقائية يرفضها العقل المنصف ويردها الشرع المطهر، فالحكم الشرعي إذا صدر من أهل الفتيا والعلم فليس لمسلم أن يكون له الخيرة {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا} .

أليس الله يقول لنا {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} .

ولقد سُئل أهل الذكر فأجابوا، وأُحيل موضوع قيادة المرأة للسيارة لهيئة كبار العلماء فأفتوا .. فماذا بعد؟

أنرغب أن تكون أمور حياتنا فوضى، كل يتدخل فيما يعنين وما لا يعنين، وكل يهرف بما يعرف وما لا يعرف، وكل يجعل من نفسه حكمًا ومفتيًا هذا يحلل وذلك يحرم، وهذا يخطئ وذاك ينتقد، وخامس يجرم وسادس يتهم .. وهكذا

ص: 43

تتحول أمورنا إلى فوضى عارمة، وفتن عمياء تفرق جمعنا وتذهب ريحنا، ويفرح العدو حين تكون المعركة محتدمة بيننا ألسنا نعطي القوس باريها في أمور السياسة والاقتصاد وننتقد حين يتدخل المهندس في عمل الطبيب أو يستشار الطبيب في عمل هندسي وهكذا في أمورنا الأخرى فلماذا نحيد ونتجاوز في مسألة حُكْم قيادة المرأة للسيارة عن الهيئة الشرعية التي اختارها الحاكم وزكاها .. وأحال إليها الأمر ورضي فتواها؟

ولقد أحسن نائب رئيس مجلس الشورى صنعًا وكان حصيفًا ومقنعًا ومنطقيًا ومنصفًا حين قال المسألة شرعية ولهيئة كبار العلماء الكلمة وقال المهندس محمود طيبة طيّب الله وجهه ((إن المسألة يجب أن تناقش من قبل أعلى هيئة شرعية في البلاد، وهي هيئة كبار العلماء لأنها سبق وأن أفتت في الأمر (1).

على أن قضية قيادة المرأة للسيارة في بلادنا سبق وإن صدر فيه قرار سياسي، حين كانت شرارتها الأولى في أيام أزمة الخليج الأولى في التسعينيات وحينها صدر قرار الدولة بمنع قيادة المرأة للسيارة، بل وأكثر من هذا عوقبت اللاتي خرجن من النساء بالفصل من أعمالهن واستنكار تصرفاتهن فهل يريد المثيرون لهذه القضية من جديد إعادة الأمر جذعة ومراغمة الحكم الشرعي والقرار السياسي؟ إن ذاكرتنا تحتفظ بهذه المواقف ولن تنسى هذه الأحكام المنهية للفقه.

أيها المؤمنون إن قيادة المرأة للسيارة عند أولي النهى لا يتعلق بقضية واحدة ولا بحكم فقهي محدد بل يستتبعها ويلحق بها أمور أخرى، لا بد أن نعيها ويتفطن لها حين تثار هذه القضية ومن التسطيح أن نقارن بين ركوب المرأة

(1)(جريدة المدنية، ملحق الرسالة 26/ 4/ 1426 هـ).

ص: 44

للحمل وقيادتها للسيارة في زمن السعار الجنسي، والاختناق المروري، وغزو الفضائيات فهي أولًا جزء من مشروع كبير طالما دندن حوله المغموسون في ثقافة المرأة، والمنبهرون بوضع المرأة الغربية أنه جزء من تغريب المرأة وإن شئت فقل تغريب المجتمع والقضية كذلك رهان تسابق عليه فئة قليلة، وتتطلع من خلاله إلى التمرد على السلطة الشرعية .. وعلى القيم والأعراف وتريد أن تفرض إرادته الفئة القليلة على الأغلبية الساحقة.

ومن هنا كان وزير الداخلية واعيًا ومدركًا لطبيعة مجتمعنا حين قال مؤخرًا إن القضية تتعلق بالمجتمع، وحين لا نحتاج إلى الاستفتاء في مسألة صدر الحكم فيها .. فلن نكون الاستفتاء النزيه لو وقع في مصلحة المطالبين بقيادة المرأة للسيارة.

وقيادة المرأة للسيارة لا ينبغي أن تفصل عن مشاكلنا الاقتصادية وإن دلّس فيها المدلسون، ولا عن اختناقاتنا المرورية وإن تجاهلها المتعجلون، ولا عن قيمنا وأعراضنا وإن تسامح فيها المتسامحون.

قيادة المرأة للسيارة ستنتقل المرأة من امرأة مخدومة إلى امرأة خادمة وستنقلها من ظلال المنزل إلى وهج الشمس ومن أمين القرار ونعومة المظهر إلى خطر الإطارات المتفجرة وذبول الزهرة بالتعب والمعاناة.

من يكرم المرأة أهو الذي يستجيب لطلباتها ويوفر حاجياتها أم الذي يسوقها لتذهب بنفسها في حمأة الظهيرة، ويضطرها للخروج بنفسها أو بمن تعول في ساعات متأخرة من الليل في الحالات الطارئة؟

كم تتعرض النساء للمضايقات من قبل السفهاء وهن مترجلات وفي خطوات محدودة .. فكيف سيكون الحال إذا قادت السيارة بعيدًا عن وليها وبيتها؟

إن التحرش الجنسي ظاهرة لا تُنكر .. وإذا مورست مع المرأة وهي في بيتها

ص: 45

أو في السوق لقضاء حوائجها وهي في محيط الناس فكيف سيكون حال ضعفاء النفوس مع المرأة حين تقود السيارة في مكان تقل فيه الرقابة ويغيب الشهود؟

إننا - بقيادة المرأة للسيارة - نعرضها لمخاطر وأدواء هي في غنى عنها وطرقنا وشوارعنا لا نتحمل أعباد سيارتها ولا تنتعش صحيًا بعادم كربون مركبتها.

إننا نثق بالمرأة لكننا نكرمها حين نقود السيارة بها .. ونثق بالمرأة ولكننا نحافظ على أنوثتها وجمالها حين نتحمل أعباء القيادة عنها.

والواقع يشهد أن المرأة لم تتضايق من وضعها، ولم تشتك إلينا أو تطالبنا بتوفير القيادة لها ولكن البعض منا يريد تحقيق قاربه على أكتاف النساء وإن كان أولئك صادقون في المطالبة لها فليطالبوا بحاجيات أساسية للمرأة سبقت الإشارة إليها، وليرفعوا الظلم عنها من فئات تمارس الظلم بحقها.

إن المرأة بخير في بلادنا .. والزاعمون لتحرير المرأة إن كانوا صادقين فليسهموا في رفع الظلم الواقع على المرأة حين تحتل بلادها ويصغي العاملون لها لقد عانت المرأة وما زالت في فلسطين من ظلم الصهاينة فماذا صنع أدعياء تحرير المرأة لها واليوم تعاني المرأة في العراق ألوان الظلم والاستبداد والحرب والاستعمارية والتصفية الطائفية فماذا صنع الرافعون لعقيدة تحرير المرأة؟

ص: 46

‌الحج والحملات

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره

أخوة الإسلام الحج ركن من أركان الإسلام، وفريضة على كل مسلم ومسلمة استطاع إليه سبيلاً، إنه شعائر ومشاعر وأحكام ومناسك، سنة الأنبياء، ونهج المرسلين، أذَّن به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهبط موسى عليه السلام ملبيًا حتى أتى ثنية هَرْشَ، ولبى يونس بن متى على ناقة حمراء جَعْدَة، وقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ليهلَّن ابن مريم بفجِّ الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليَثْنِيَّنهما (أي يقرن بين الحج والعمرة)(2).

وفجُّ الروحاء: مكان بين مكة والمدينة كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحجة الوداع وهذا يكون بعد نزول عيسى عليه السلام من السماء في آخر الزمان (3).

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًا وقد صححه بعض العلماء وضعفه آخرون. صححه ابن حجر وضعفه الألباني (4).

أيها المسلمون وكما أن الحج اتباع للمرسلين، واقتداءً بمحمد عليه الصلاة والسلام، فهو من جانب آخر مخالفة للمشركين، وإظهار للبراءة منهم ومن أديانهم وعوائدهم يتجلى ذلك في كثير من مشاعر الحج، وفيما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم

(1) هذه الخطبة ألقيت في 24/ 11/ 1427 هـ

(2)

رواه مسلم 1252.

(3)

(محمد فؤاد عبد الباقي مسلم 2/ 915).

(4)

(البعداني: أحوال النبي في الحج/ 27).

ص: 47

على الملأ من تقصد مخالفة المشركين، وتظهر المخالفة في ابتداء التلبية فهي خالصة لله عند المسلمين (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك).

أما المشركون فشركهم يبدأ من التلبية حيث يقولون (إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك).

والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يقفون بعرفات، على حين ينتهي المشركون خاصة الخمس بالوقوف عند المزدلفة ويقولون: نحن أهل الحرم (لا نفيض إلا من الحرم) والرسول والمسلمون يفيضون من عرفة بعد مغيب الشمس، ومن مزدلفة قبل طلوعها، أما المشركون فكانوا يفيضون من عرفة قبل المغيب، ومن مزدلفة بعد الشروق، وكذلك خالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول:(هدينا مخالف لهديهم)(1).

إلى غير ذلك من أمور خالف فيها الرسول والمسلمون المشركين حتى قال ابن القيم رحمه الله: (استقرت الشريعة ولاسيما في المناسك على قصد مخالفة المشركين)(2).

إنها البراءة من الشرك والمشركين ومخالفة نهجهم، والتأسي بالأنبياء وهديهم، وكذلك يؤسس الحج لقضية الولاء والبراء، والإتباع والانقياد لهدي المرسلين عليهم السلام.

عباد الله وكما يذكر الحج بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين فهو يذكر بالتقوى .. والمتأمل في عدد من آيات الحج يجدها تختم بالتقوى ففي قوله تعالى:

(1) السنن الكبرى للبيهقي 5/ 125 والمستدرك 2/ 304 وصححه ووافقه الذهبي.

(2)

شرح ابن القيم لسنن ابن داود (5/ 146).

ص: 48

{وأتموا الحج والعمرة لله} ختمت الآية بقوله: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} .

وفي قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} ختمت بقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} .

ومثل ذلك في قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} ، وفي قوله تعالى {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينال التقوى منكم} .

إنها آيات تذكر المسلم عمومًا، والحاج خصوصًا بتقوى الله ومراقبته وهذه الرقابة في أيام معدودات يراد لها أن تتحول إلى منهج وسلوك مستديم في الأيام التاليات فيبقى المسلم متقيًا لله في كل حين.

أيها المسلمون عظموا شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .. فليس الحج رحلة تتحرك فيها الحافلات والأجساد من موقع إلى آخر دون وعي بل الحج رحلة قدسية يجتمع فيها شرف الزمان وشرف المكان، وشرف العمل أما الزمان فأيام عشر ذي الحجة تلك التي أقسم الله بها في كتابه {وليال عشر} وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفضل أيام الدنيا أيام العشر» - يعني عشر ذي الحجة - قيل ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه في التراب) (1).

أما فضل المكان فهو بيت الله الحرام، والمشاعر العظام (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا).

أما فضل العمل فهو لأفضلية العمل الصالح في عشر ذي الحجة (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله .. الحديث

(1) رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني.

ص: 49

أيها الحاج إذا عرفت شيئًا من مقاصد الحج وقيمته وعظم مشاعره فخليق بك أن تعلم الحج المشروع بأركانه وواجباته وسننه حتى تعبد الله على بصيرة .. وكم هو مؤلم أن يذهب عدد من الحجاج للحج وهم يصنعون كما صنع الناس، ولو أخطأ من حولهم لأخطأوا معهم، وهنا أنبه إلى أمرين مهمين:

الأول أن يقرأ الحاج عن الحج ما يعينه على فهم المناسك كما أمر الله وكما سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «خذوا عني مناسككم» والكتب والمطويات والأشرطة عن الحج متوفرة بحمد الله وبعدد من اللغات.

ثانيًا: أنبه إلى أهمية اختيار الرفقة في الحج، فرفقة الحج تختلف عن رفقة الرحلات الأخرى فلابد أن يختار الحاج رفقته بعناية ويحرص على من يعينه على أداء نسكه، يذكره إذا نسي، ويعلمه إذا جهل، ويعينه على تعظيم شعائر الله أيها الأولياء حري بكم أن تبرؤوا ذممكم بالحج بمن فرض عليه الحج من أهليكم وأولادكم ذكورًا أم إناثًا وهو مستطيع ولم يحج بعد ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد حج بنسائه كليهن معه (1).

كما خرج بضعفة أهله معه (2).

بل حرَّض على الحج حتى من كان مريضًا منهم فقد دخل صلى الله عليه وسلم على ابنة عمه ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها وهي عليلة فقال لها: ما يمنعك يا عمتاه من الحج؟ فقالت: أنا امرأة سقيمة، وأنا أخاف الحبس، فقال فأحرمي واشترطي أن محلك حيث حبست (3).

(1)(ابن القيم: زاد المعاد 2/ 106).

(2)

(البخاري 1678، 1680، مسلم 1293).

(3)

البخاري 5089، صحيح سنن ابن ماجه 2375.

ص: 50

وفي رواية أنه قال لهما: أما تريدين الحج هذا العام؟ (1).

فهل نتفقد أهلينا وذوينا لأداء ما افترض الله عليهم، لاسيما وقد جاء الأمر صريحًا في التعجل للحج حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم (تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)(2).

عباد الله .. وإذا خرجتم للحج فاعلموا أن الحج مدرسة يربى من خلالها .. كيف لا والحج شعار للوحدة بين المسلمين، لباسهم واحد، وإهلالهم واحد، ومناسكهم واحدة .. يستوي في الحج الضعفاء والأقوياء، والمأمورون والأمراء، والأغنياء والفقراء.

كم تسيل بهم مناسك الحج زرافات وجموعًا يختلط فيها العربي بالأعجمي وأهل المشرق بأهل المغرب، والصغير والكبير والذكر والأنثى؛ فلا إله إلا الذي خلقهم، ولا رب إلا الذي وحدهم على هذا النسك العظيم في الحج فرض ومواطن تُذرف فيها الدموع بكاء وخشية لله، وفي الحج مناسك يبلغ الزحام والتدافع حدَّ الموت .. وحق للحاج في مواطن البكاء أن يبكي وفي مواطن التدافع أن يترفق بإخوانه المسلمين وفي الحج أنظمة ومنظمون ورجالات تعمل، ومؤسسات تبذل ومن حق هؤلاء على الحجاج أن يقدروا جهدهم، وأن يسمعوا لتوجيهاتهم، وأن يشكروا للباذلين بذلهم، وللميسرين للحج جهودهم وفي الحج فرض للعلماء وطلبة العلم والدعاة أن يعلموا وأن يفتوا وأن يدعوا إلى الله بالحسنى فهي مناسبة إسلامية عالمية.

وفرص للمحسنين أن يحسنوا وكم هو مبهج للنفس أن ترى وجودًا للمحسنين

(1) صحيح سنن ابن ماجه 2376.

(2)

رواه أحمد في المسند 2868 وهو حسن لغيره. (أحوال النبي في الحج/ البعداني/ 142).

ص: 51

في كل مكان .. هذا يوزع طعامًا وآخر يوزع ماءً أو عصيرًا أو لبنًا، وثالث يوزع كتبًا أو أشرطة نافعة للحجاج ولا يعذر أحد على تقديم الخير والإحسان .. فمن أسعف مريضًا، أو ساعد عاجزًا، أو أرشد مسترشد .. فهو محسن وأجره على الله، ومن لم يحتج إليه في هذا ولا ذاك فليقل كلمة طيبة وليدع لإخوانه المسلمين، وليتحسس حوائج المحتاجين، إلا أن في الحج منافع ومقاصد وصدق الله {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} .

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقول ما تسمعون وأستغفر الله.

ص: 52

‌الخطبة الثانية

معاشر المسلمين تذكرون جميعًا بالموسم القادم، فرصة العام، وسيدة الأيام، إنها عشر ذي الحجة، ليس بينكم وبينها سوى أيام معدودة، وكم ستخترم المنا أناسي قبل بلوغها، إلا وأن من حسن طالع المرء أن يتشوق لبلوغها فإذا بلغه الله إياها أن يجتهد في عمل الصالحات فيها، سواء كان حاجًا أم مقيمًا .. إنها فرصة لأن تعمر بالذكر، وتلاوة القرآن والصيام، والصدقات والإحسان، والدعوة للخير .. وكفى بقسم الله فيها داعيًا لأهميتها، وكفى بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاديًا لاستثمارها .. إلا وأن من علائم الخير أن يفكر المسلم قبل حلولها في أنواع الطاعات التي سيعملها فيها، وأن تكون هذه العشر محطة للمسلم يتزود منها لعامه فيها، بل ويودع عامة بحسن العمل فيها يا من قصرتم في الجهاد - وكلنا كذلك - وهو ذروة سنام الإسلام عوضوا بهذه العشر فقد قال حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم:«ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» .

ومرة أخرى اسأل نفسك ماذا أعددت لهذه العشر؟ ثم حاسب نفسك بعد دخولها على العمل.

أيها المسلمون وألتفت إلى الحجاج وإلى حملات الحج لأقول: فإن كره بعض الناس هذه الحملات إما لعدم قدرته المادية على تكاليفها أو لرغبة البعض في أخذ راحتهم بوسائلهم الخاصة وأماكنهم المفضلة إلا أن في الحملات فرصة للتنظيم والفائدة، وتقليل المراكب والدعوة للتعارف والتآلف بين الحجاج وهذا من منافع الحج وشكرًا لأصحاب الحملات حين يتنافسون في تقديم خدمات

ص: 53

مخفضة للمحتاجين حتى لا يكون الهدف ماديًا فحسب، على أن المهم أن تتنافس الحملات في تقديم الخدمات لحجاجها، وألا تكون الدعاية والإعلان أكبر من حجم التطبيق الواقعي، فذاك الذي يُفقد الحملة مصداقيتها ويجعل الناس ينفرون ويُنفرون غيرهم مستقبلاً من المشاركة فيها.

أما خدمات التوعية فقد أصبحت جزءً من مظهر الحملات وأسلوبًا لتسويقها - وهذا شيء جميل - لكن من المهم في توعية الحملات ألا تكون متخمة للحجاج بحيث لا يجدون فرصة للخلوة بربهم، أو لقراءة القرآن بمفردهم أو لمزيد من ممارسة العبادة الفردية في تلك الأيام الفاضلة ومن المهم كذلك أن تكون التوعية شاملة فلا يُتخمون بالحديث عن الحج طوال الرحلة مع حاجتهم لقضايا تربوية وآداب وتنبيهات أخرى قد يكون استعدادهم لها في هذه الظروف أكثر من غيرها.

ومن المهم - في هذه الحملات - أن تنال المرأة عناية إن لم تفق العناية بالرجال فلا تقل عنها، لأن فرص توعية المرأة أقل من فرص الرجال، وفوق ذلك العناية بمكانها ونوع خدماتها الأخرى.

الحملات فرصة لاكتشاف الطاقات وتوظيفها، فقد تكون ضمن إفراد الحملات طاقات من المهم تقديرها واستثمارها وحسن التعامل معها - والحج فرصة للتعارف والتآلف - والحج فرصة عالمية ومن المهم مساهمة الحملة في إيجابيات هذه العالمية - بحيث يرشد الضال، ويطعم المسكين، ويترحم الغير العربي، وتقضى حاجات كثيرة من خلال مجموع أفراد الحملة.

كل ذلك يتم باستشعار هذا المعنى والدعوة لتفعيله وبشكل لا يؤثر على نظام الحملة وانتظامها - يقال للحجاج في الجملة وأصحاب الحملات خاصة أن الحج بعمومه فرصة لاكتشاف الأخلاق، والحملة ميدان لاكتشاف تطبيقات

ص: 54

الأخلاق فثمة منافع عامة يشترك فيها أصحاب الحملة وقد يحتاجون إلى الإيثار أو إلى الصبر، والتحمل .. وهنا تسفر الأخلاق عن وجهها ويتبين المؤثر من الأناني، والصبور من الجزع وهكذا .. فلتمتحن أخلاقنا ولنُصبِّر أنفسنا على آثار ومخرجات الخلطة في أيام معدودة.

ويقال لأصحاب الحملات إياكم والوعود الهلامية لأنواع الخدمات المقدمة ثم يتفاجأ المشاركون في الحملة بخلاف ذلك .. إنه الكذب والتلاعب بمشاعر الناس .. ولا كثر الله أصحاب هذه الحملات .. كما أن الإسراف ممنوع فالتقتير مرفوض .. وإذا قيل هذا لأصحاب الحملات قيل للمشاركين في الحملة ولا يكن الأكل والشرب همَّكم فإذا تأخر الطعام عن موعده قليلاً - لعذر ما - قامت الدنيا ولم تقعد .. إنه التعاون والتفاهم والصدق والتحمل ينبغي أن تسود أجواء الحملات حتى تؤدى المشاعر بعيدًا عن الخصومة والجدال المنهي عنها في كل حين ولاسيما في الحج {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}

حقًا يا أخي الحاج تكرم بقراءة كتاب أو سماع شريط نافع عن الحج قبل أن تؤدي المناسك، واجتهد باختيار رفقة الحج تربت يداك.

وختامًا أيضًا -أيها المسلمون عامة- عظموا شعائر الله واستثمروا فرص الطاعات، {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض} .. ألا أنها فرض للمقصرين أن يعوضوا، وفرض للمسرفين في المعاصي أن يتوبوا .. وفرص للمجتهدين في عمل الصالحات أن يزيدوا.

اللهم بلغنا عشر ذي الحجة، وأعنا فيها على عمل الصالحات اللهم يسر للحجاج حجهم واحفظهم في مناسكهم، وارجعهم إلى أهليهم وبلادهم سالمين غانمين.

ص: 55

الاعتصام بالوحيين وأسباب الخلاف (1)

الحمد لله رب العالمين جعل الدين الحقَّ دينًا واحدًا فقال {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [آل عمران: 19] وحكم ببطلان ما سواه فقال جلَّ من قائل عليمًا {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85] وجعل من سمات هذه الأمة الوحدة مع تباعد الزمان واختلاف المكان وكثرة المرسلين واختلاف الشرائع فقال {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أوصى عباده بالاعتصام بالكتاب والسنة ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال:{واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان من أواخر ما أوصى به أصحابه كما نقل العرباض بن سارية رضي الله عنه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ بدعة ضلالة» (2).

اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله المؤمنين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اتقوا الله معاشر المسلمين واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، {ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} .

(1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 5/ 1429 هـ.

(2)

حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي. (شرح السنة للبغوي 1/ 205).

ص: 56

عباد الله وحين يغيب الاعتصام بالكتاب والسنة يتفرق الناس شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وتسود الفرقة والتناحر بدل الوحدة والألفة تستبدُّ بالناس الأهواء، ويعود المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا.

ويتهاون الناس بالواجبات المتحتمات ويتشبثون بالبدع والخرافات فهذا يقيم مولدًا، وذاك يستغيث بميت أو يطوف حول قبر، وفئة تعظم (رجبًا) وربما كان عندهم أفضل من شهر الصيام، وأخرى تعتقد أفضلية خاصة (ليلة النصف من شعبان) وتعتقد في أحيائها فضلًا خاصًا بها، ومائة ثالثة تعني بأوراد وأذكار جماعية وفرقة تعظم مزارات مبتدعة أعظم من تعظيم الكعبة.

أيها المسلمون إن ما تلحظون في عالمنا الإسلامي من الاختلاف والفرقة، ومشو البدع وقلة المستمسكين بالسنة إنما هو ثمرة طبيعية للبعد عن هدي الكتاب والسنة والجهل بهما أو التجاهل لنصوصهما، والله تعالى يقول {ومن يَعْش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين} [الزخرف: 36].

قيل: معناه: من يُعرض عن ذكر القرآن وما فيه من الحِكم إلى أقاويل المضلِّين وأباطيلهم، نعاقبه بشيطان نقيضه له حتى يضلَّه ويلازمه قرينًا له».

وذكر ابن كثير نظيرها قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى نوله ما تولى} (1).

أجل لقد اقتضت حكمة الله أن يتباين الناس في آرائهم وأن تختلف اجتهاداتهم.

لماذا الكتاب والسنة؟

{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربِّك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 118، 119]،

(1)(شرح السنة 1/ 190).

ص: 57

ولكن الله جعل للمسلمين ضمانة الاتفاق إن هم احتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا} [النساء: 59].

إنها قطع الاختيار، وإنهاء النزاع، والتسليم لأوامر الشرع المطهر كذلك يكون الإيمان وبذا يوصف المؤمنون {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا} [الأحزاب: 36].

وبمثل ذلك تُضرب الأمثال، أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا .. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا: أوِّلوها له يفْقهْها، قال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرَّق بين الناس» (1).

هكذا فرق محمد صلى الله عليه وسلم بين المطيع والعاصي فمن اتبع السنة ولزم الحقَّ وإن خالف هواه فذلك المطيع، ومن هجر السنة واتخذ إلهه هواه فذلك العاصي.

أمة الإسلام لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من شرِّ الفرقة والاختلاف، ويرى أن إلباس الناس شيعًا وإذاقة بعضهم بأس بعض أعظم من رجم السماء أو خسف

(1)(صحيح البخاري مع الفتح 13/ 249).

ص: 58

الأرض، وفي ذلك روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} [الأنعام: 65]، قال: أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال أعوذ بوجهك، فلما نزلت:{أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهونُ أو أيسر (1).

ولاشك أن المتبعين لهدي محمد صلى الله عليه وسلم يجمعون الكلمة ولا يفرقونها ويؤلفون بين المسلمين ولا يفرقون جمعهم، وينصحون صادقين لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ولا يطلبون أجرًا على نصحهم وماذا تستفيد الأمة من التفرق وفيها من الأدواء ما لا يحتمل المزيد وفيها من الجراح ما يكفي لشغل أوقات الفارغين إن لم تكن لهم همة سوى تضميد الجراح، أما أن تُستنزف دماء أخرى وتوسِعَ دائرة الجراح فذلك لا يُسلِّم به العقلاء فضلًا عمن يدعي الصلاح والتقى ألا وإن من أسباب الفرقة والخلاف بين المسلمين تتبع العورات وتصيد الزلات، والتزيد في الاتهامات، وإساءة الظنون واتهام النوايا، وتفسير المقاصد، والتهويش والتحريش بين المسلمين وإثارة المعارك الكلامية، وكل ذلك لا يخدم مصلحة المسلمين، وإنما هو سهم من سهام الشياطين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» (2).

وهل غاب عن المسلمين عمومًا وأولئك المشتغلين بأعراض الصالحين

(1)(الصحيح مع الفتح 13/ 296).

(2)

رواه مسلم وغيره (انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 478 ح 1804، صحيح الجامع الصغير 2/ 72).

ص: 59

خصوصًا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذب الحديث ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (1).

وكان السلف رضوان الله عليهم يعيبون هذا المنهج المتخوّض في أعراض المسلمين ويخوفون أصحابه، وفي صحيح مسلم باب لا يدخل الجنة قتَّات، عن همام بن الحارث قال: كنا جلوسًا مع حذيفة رضي الله عنه في المسجد، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فقيل لحذيفة: إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء، فقال حذيفة: إرادة أن يُسْمِعَه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنَّة قتَّات» (2)، ألا إنها ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا {ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا} [الفرقان: 71].

(1)(رواه مسلم، مختصر المنذري/ 477).

(2)

(مختصر المنذري لصحيح مسلم ص 478، ح 1808).

ص: 60

‌نابتة القرآنية

‌الخطبة الأولى

أيها المسلمون ونبتت نابتة أخرى في بلاد المسلمين ترى التشكيك في كتب السنة، وربما أنكر أو شكك بعضهم بأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما بلغت الجرأة ببعضهم أن يقول: نحن بشر ومحمد بشر فما وجدنا في كتاب الله قبلناه، وما وجدنا في السنة قبلنا ما تحتمله العقول وأنكرنا ما عداه؟ وأيَّ عقل نرتضيه، ومن ذا الذي يُقدم بين يدي الله ورسوله؟

وهؤلاء مصدر خطر على وحدة الأمة واعتصامها بالكتاب والسنة، وهم سبب في فرقة الأمة وانشطارها، ومكمن خطر في حاضر الأيام ومستقبلها وأنى لهذه الأفكار أن تروج عند المسلمين الذين يعتقدون بأن السنة رديفة القرآن، وهي إحدى الوحيين، وصاحبها عليه الصلاة والسلام هو القائل:«ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (1). والحق تبارك وتعالى يقول: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80].

ويقول: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وفي آية ثالثة:{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63].

والمعنى كما قيل: لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعاكم لأمر أو نهي كدعاء بعضكم بعضًا تجيبون إذا شئتم وتمتنعون إذا شئتم (2).

والسنة شارحة للقرآن ومبيِّنة لمجمله والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وأنزلنا إليك

(1) رواه الترمذي وحسنه (شرح السنة 1/ 201).

(2)

(شرح السنة 1/ 191).

ص: 61

الذكر لتبين للناس ما نزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44].

وعن هذا الضَّرب من الناس بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وحذَّر فقال: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» (1).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنة، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله» (2).

ويقول الزهري رحمه الله: «لا تُناظرْ بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: لا تجعل شيئًا نظيرًا لهما فتدعهما لقول قائل» (3).

ألا فاحذورا عباد الله هذه الدعوات المضلّلة، وتنبهوا لهذا التحرر الفكري الخطير، وإن لُبِّس بلبوس التجديد والمعاصرة والانعتاق من التقليد؟

أعوذ الله من الشيطان الرجيم {فإن لم يستجيبوا لك فإنما يتبعون أهواءهم ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص: 50].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابهن ورزقني وإياكم والمسلمين الاقتداء بالسنة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم.

(1) حديث حسن أخرجه الشافعي في الرسالة، وأحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه وغيرهم. (شرح السنة 1/ 200، 201).

(2)

(شرح السنة/ 202).

(3)

(شرح السنة للبغوي 1/ 202).

ص: 62

‌الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أوحى إلى عبده فيما أوحى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159]، أولئك هم أهل الأهواء والبدع وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وهو القائل «إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (1).

اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

أما بعد عباد الله فإن من أعظم أسباب الفرقة والحيدة عن الكتاب والسنة إتباع الهوى، فقد يكون صاحبه يعلم الحقَّ لكنه يُغمض عنه ويستجيب لهواه، قال الله تعالى:{ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]، وقال عز وجل:{وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [البقرة: 213].

أي على علم أن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوه بغيًا (2).

وإتباع الهوى يبلغ بصاحبه الابتداع في الدين وعبادة الله بما لم يأذن به الله، ومن عبد الله بمستحسنات العقول فقد قدح في كمال هذا الدين، واتهم محمدًا صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ، قال الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله يقول:{اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا» (3).

(1)(رواه مسلم ح 867 في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، شرح السنة 1/ 211).

(2)

(شرح السنة 1/ 210).

(3)

(الاعتصام للشاطبي 2/ 53).

ص: 63

وقد يكون الهوى رغبة في مطمع دنيوي، أو تطلعًا إلى منصب إداري أو حُلُمًا في مكانة اجتماعية، أو ليثبت نفسه أمام الناس بالمخالفة ليس إلا.

والهوى - عباد الله - أيًا كانت دوافعه مرتع وخيم، وآفة مهلكة وحجاب يمنع صاحبه النور، ويفصله ويعزله عن جماعة المسلمين {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} .

ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء وأثره فيهم وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة في الجنة وهي الجماعة، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مَفْصِلٌ إلا دخله» (1).

قال صاحب النهاية: «الكلب» بالتحريك: داء يَعْرِضُ للإنسان من عضِّ الكلب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فلا يعضُّ أحدًا إلا كلب، وتعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشًا» (2).

وحذّر السلف من الأهواء فقال الربيع عن الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء» (3).

وجماع الأمر أيها المسلمون والمخرج من هذا كما قال يحيى بن سعيد، سمعت أبا عبيد يقول: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ» وجميع أمر الدنيا في كلمة «إنما الأعمال بالنيات» يدخلان في كل باب» (4).

(1) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح (شرح السنة للبغوي 1/ 213).

(2)

(4/ 195).

(3)

(شرح السنة 1/ 217).

(4)

(شرح السنة 1/ 218).

ص: 64

فاحرصوا على هذين الأمرين الإتباع والإخلاص تهتدوا وتسلموا.

أيها المسلمون وأحيانًا تكون الحيدة عن هدي الكتاب والسنة بسبب الرغبة في زيادة الخير والغلو في الدين، والإسلام يمنع الزيادة التي لم يأذن بها الله، ولم يهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعًا لمداخل الشيطان وحفاظًا على وحدة الأمة من الفرقة والشتات وحذرًا من الفتنة في الدين، وفي قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها، وأرادوا المزيد عليها - عبرة وعظة - فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (1).

وروي أن رجلًا قال لمالك بن أنس رحمه الله: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة، قال وأيُّ فتنة في ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63] وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يُخصَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

عباد الله ومن أسباب الزيغ والاختلاف المبالغة في الأسئلة والتكلف فيما لا يعني، والجدل العقيم واتخاذ المراء ديدندًا وطريقة، قال عليه الصلاة والسلام

(1)(الحديث متفق على صحته: البخاري في النكاح 9/ 89، 90، ومسلم في النكاح ح 1401).

(2)

[المجموعة الثانية من خطب ابن حميد/ 14].

ص: 65

محذرًا: «دعونكم ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (1).

قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلًا عما لا يحتاج إليه في الحال (2).

فحري بالمسلم الصادق أن يعمل بما يعلم، ثم يسأل عما يحتاج إليه مما لا يعلمه أما إضاعة الأوقات في الخصومة والمراء، والمفاخرة والتطاول في الجدل فتلك وربي من علائم الضلال، وليست من الهدى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (3).

ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين وكونوا عباد الله إخوانًا، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وعليكم بالثبات على هدي الكتاب والسنة وإياكم والتلون وإتباع الأهواء، وإليكم هذا الحوار المعبر، والنصح الصادق بين صحابي وآخر، فقد دخل ابن مسعود على حذيفة رضي الله عنهما فقال: اعهد إليَّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربي، قال: فاعلم أن الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلوَّن فإن دين الله واحد» (4).

اللهم ارزقنا البصيرة في ديننا والثبات على كتاب ربنا وسنة نبينا واعصمنا من الأهواء المضللة والفتن المهلكة.

هذا وصلوا على النبي المصطفى.

(1) رواه البخاري (الصحيح مع الفتح 13/ 251).

(2)

(الفتح 13/ 263).

(3)

(حديث حسن رواه الترمذي وأحمد وغيرهما (صحيح الجامع الصغير 5/ 146).

(4)

(شرح السنة للبغوي 1/ 216).

ص: 66

‌الشباب إيجابيات وسلبيات نماذج وتوصيات

‌الخطبة الأولى

(1)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا.

فئة من المجتمع تستحق الرعاية والاهتمام، نسبتها في الإحصاءات عالية، والاهتمام الدولي والمحلي بها ظاهرة، تستحوذ على اهتمام المخططين للمستقبل، بها يقاس قوة المجتمع أو ضعفه طاقتها كبيرة، والمخططات لإصلاحها أو إفسادها كثيرة هذه الفئة لها إيجابيات تستحق الإشادة والمتابعة ولها سلبيات تستوجب النظر والعلاج.

إنهم الشباب (الفتيان والفتيات) لفت القرآن الإشارة إليهما {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} وأصحاب الكهف {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} .

وجاء في السنة النبوية العناية بهما «وشاب نشأ في طاعة الله» «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» وفي السيرة النبوية اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على الشباب في الدعوة والهجرة، والجهاد، وتعلم العلم وتعليمه وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا أحداثًا .. ومصعب بن عمير ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس وابن عمر، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل نماذج لهؤلاء الشباب وفي مجالات متعددة.

(1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 3/ 1429 هـ

ص: 67

أخوة الإسلام العناية بالشباب عناية بالمجتمع فهم يمثلون (نسبة كبيرة) منه، وفاعلة فيه والالتفات للشباب عناية بالمستقبل، فهؤلاء هم رجالاته وصانعوا تاريخه.

إن المتأمل في وضع الشباب، يرصد إيجابيات تسرُّ وتفرح ومنها الحرص على الصلاة والإقبال على المساجد، والانخراط في حِلَقْ تحفيظ القرآن، والبحث عن السنة ومحاولة الالتزام بها والمشاركة في الدعوة، وطلب العلم، ومحبة العلماء، ومحاولة تقديم النموذج الأمثل للشباب، والبر والصلة، والإحسان والحسبة.

وأيًا ما كان إجادة الشباب أو الشابات في هذه الأمور أو غيرها، أو تقصيرهم .. فالرغبة موجودة والدافع وإن ضعف يقوى، والملاحظات وإن وردت تُعالج، والجميل أن لدى الشباب استعدادًا للتوجيه، وقدرة على تطوير الذات وهذه وتلك تفرح وتسر.

لكن ثمة ما يحزن ويؤلم ويحتاج إلى وعي بالداء ومعرفة بوضع الدواء، وصبر على المتابعة والتربية.

إنها أخطاء يقع فيها الشباب .. ممارسات سلوكية مشينة وفراغ قاتل، وتسكع في الشوارع واعتداء على الآخرين وغيبة في الاستراحات - ولا تسأل عن موائدها - وخروج عن البيت وغيبة عن الأهل لساعات طوال لا يدري الأبوان فضلًا عن الأخوان والأخوات أين يكون هذا الشاب؟

نهم في العكوف على الفضائيات وأي فضائيات - إنها سارقة الدين والخلق، مثيرة الغرائز والفتن.

وانشغال ولساعات طوال في الشبكات العنكبوتية، ولا سيما في مواقع مشبوهة، ومحادثات ودردشات هابطة وإدمان على مشاهدة برامج معينة في ما

ص: 68

يسمى (بالسني) أو ما يسمى بـ (بلي ستيشن) وما فيها من غزو للأفكار والمعتقدات.

ضعف في الدراسة وعقوق للوالدين وانطواء وعزلة عن الأسرة والمجتمع، تهور في القيادة وتسبب في قتل أنفس بريئة .. تهافت على الوجبات السريعة وزهد في طعام الأهل وموائد الأسرة ويسوءك في هذه النوعية من الشباب سهر مفرط - وعلى غير فائدة - بل ربما كان على أمور مشبوهة.

ونوم ولساعات طوال في النهار يفوِّت الصلوات المكتوبة ويكون على حساب العمل أو الدراسة، ويشكل خطرًا يهدد الصحة ويدعو للانطواء والسلبية فماذا ترجوا من شباب يطيل السهر أن يقدم خدمات لأهله وأسرته.

وربما نفعهم البعيد والقريب يغط في نوم عميق؟

والأخطر من ذلك حين يساق الشاب إلى مجتمعات وشلل من الشباب قلَّ دينها، أو يغرر به في الدخول إلى نفق المخدرات والمسكرات إنها خسارة للفرد والمجتمع وخطر وقلق على الأهل ومن سواهم.

وحين يكون الحديث عن الشباب والجوال فالحديث يطول، ومكالمات تحصد الدرهم والدينار وتحصد قبل ذلك المُثُل والأخلاق، ورسائل تُبعث عبر بريد الرسائل يندى لها الجبين، وصور فاخمة يتبادلها الشباب وربما الشابات عبر تقنية البلوتوث أو غيرها وتلك تثير الغرائز وربما كانت سببًا في الوقيعة في المحظور.

ومواعيد تربط عبر الجوال عبر أحداث وربما وقعت في فخهم فتيات أغرار فكانت الفتنة ومن يراقب الجوال؟ وإن شئت أن تقع على الداء فاذهب إلى محلات بيعها لترى معظم نوعية زبائنها؟

يا أيها الشباب وحين تهدى إليكم نصائح فاقبلوها، أو على الأقل تأملوا في جدواها.

ص: 69

إنكم مَعْقِدْ أمل للأهل والمجتمع والدولة والأمة فأين تضعون أنفسكم؟

إن سكرة الشباب قد تلهيكم ولكن النظرة بعمق لمستقبلكم توقظ مشاعركم.

يا أيها الشباب طاقتكم أمانة فارعوها، وصحتكم نعمة فلا تغبنوا فيها وأوقاتكم غالية فإياكم أن تقتلوها، ومعدنكم ومعتقدكم من الأصالة والطيب فإياكم أن تذبحوها على قارعة الطرقات والقنوات.

يا معشر الشباب لن تزول أقدامكم يوم القيامة حتى تُسألوا عن شبابكم وأعماركم فيما أفنيتموها، فأعدوا للسؤال جوابًا يا معشر الشباب أيسركم أن يكون شباب الأمم الأخرى غارقين في الدراسة والبحث، مشاركين في بناء الحضارة، ووضع لبنات المستقبل، وأنتم في لهوكم غافلون وعن تطلعات بلدكم وأمتكم سادرون.

{من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].

إن العناية بالشباب (فتيان كانوا أم فتيات) ينبغي أن يستحوذ على اهتمام المربين (تعقد له الاجتماعات وتناقش السلبيات والإيجابيات ونخلص إلى توصيات تُتَابع لا تُحفظ.

وعلى رعاية ووقاية الآباء والأمهات فهم أغلى كنز، وأحق من توجه له التربية، زينة في الدنيا، ورصيد بعد الممات، وذكر ومفخرة للأحياء والأموات وعلى الجهات الدعوية والاحتسابية أن تخصهم ببرامج توعية متميزة، وتوضع لهم الدورات والمسابقات، وتدعم بالجوائز والمحفزات .. وليس خسارة ما ينفق على هؤلاء وأولئك وعلى الجهات الأمنية أن تراقب وتتابع، وتشخص المشكلات وتقترح العلاج، وأن تغطي الجوانب التربوية والتوعوية في هذه القطاعات ما عسى الله أن يفتح به على قلوب من بُلي بقضايا أمته تخل بالشرف

ص: 70

والعرض وتخرم المروءة وتهدد المجتمع وعلى القطاعات المعنية بالشباب وسواء كانت رسمية (كرعاية الشباب) أو خيرية كالندوة العالمية للشباب أن تطور في خدماتها، وتوسع دائرة مناشطها، وتسهم بفاعلية في حل مشكلات الشباب واستثمار طاقاتهم بما يفيدهم ويفيد مجتمعهم.

وعلى وسائل الإعلام أن تخصص برامج للشباب وتكون من القوة والجاذبية بحيث تشكل بديلًا نافعًا عن عدد من وسائل الإعلام التي فتنت الشباب أن للكلمة وقعها .. وللحوارات، والمنتديات والقصة والشعر، وغير ذلك من مفردات الإعلام أثر لا يستهان به.

والمهم أن نستشعر جميعًا موقع هؤلاء الشباب ومسئوليتنا تجاههم، ومع ذلك وقبله أن يستشعر الشباب موقعهم ويضعوا أنفسهم في الموقع المناسب لهم.

ص: 71

‌الخطبة الثانية

الحمد لله يستحق الحمد والثناء، {وما بكم من نعمة فمن الله} ، وإذا مسكم الضر ضل من تدعون إلا إياه.

يا معشر الفتيان والفتيات ويكفي أن نذكركم بنموذجين صالحين للشباب يمثل الذكور (أبو جندل) عبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما ويمثل الإناث (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط) رضي الله عنها وكلاهما كان أبواهما من قادة قريش منهم من هلك قبل (عقبة) ومنهم من هو سيد المفاوضات في صلح الحديبية وخبرهما جاء في صحيح البخاري.

أما أبو جندل فقصته وعصاميته وولاءه للإسلام وأهله تبدأ قبل صلح الحديبية حيث كان من السابقين إلى الإسلام، وممن عُذب على إسلامه فثبت، وحين خرج أهله لبدر، خرج معهم لكنه انحاز إلى المسلمين، ثم أُسر بعد ذلك وعُذِب ليرجع عن دينه فثبت فلما كان صلح الحديبية جاء يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال أبوه (سهيل) هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردَّه إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد .. فأبى سهيل فلما أجيز للمشركين قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في الله (1).

ثم استطاع أبا جندل أن يفرَّ مع أبي بصير إلى الساحل وهناك شكلوا خطرًا يهدد تجارة قريش .. حتى طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يردهم إليه في المدينة.

(1)(صحيح البخاري .. الفتح 5/ 331).

ص: 72

وحين فتحت مكة كان الشاب (أبو جندل) هو الذي استأمن لأبيه (سهيل بن عمرو) وطلب الجوار حتى أسلم (سهيل) وأخيرًا شهد (أبو جندل) اليمامة لقتال مسيلمة فكان آخر شهدائها رضي الله عنه وأرضاه (سنة 11)(1).

وتلك صفحات ناصعة لهذا الشباب في الثبات والجهاد وعلو الهمة، ومقاومة الكفر وأهله.

أما النموذج الأخير فهي (أم كلثوم) بنت أحد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم البارزين، قتل أبوها في بدر وبقي إخوانها وأخواتها على الكفر أما هي ورغم حداثة سنها فقد رغبت في الإسلام وتحدت أهلها وخرجت مراغمة لهم حين أتيحت لها الفرصة.

وفي البخاري في قصة صلح الحديبية وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ -وهي عاتق- يعني شابة لم تتزوج، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حين نزل {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (2).

أم كلثوم هذه هي التي قال عنها ابن سعد: ولا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلى الله ورسوله إلا أم كلثوم (3).

إنما نموذج آخر لصدق المرأة وثباتها رغم البلاء والمحن، والصدود والإعراض، والإغراء والفتن تجاوزت به أم كلثوم ضعف النساء لتسجل في قائمة الثابتين على الحق والمهاجرين في سبيل الله. فنعمت الهجرة إلى الله ورسوله ونعمت المرأة أم كلثوم؟

(1)(الإصابة 11/ 64، 65).

(2)

البخاري كتاب الشروط والفتح 5/ 312.

(3)

(الطبقات 8/ 230).

ص: 73

يا معشر الفتيان والفتيات أين أنتم من هذه النماذج أليس مصيركم كمصيرهم؟ ماذا بقي لهؤلاء السابقين إلا الذكر الحسن .. والذكر للمرء عمر ثان.

يا معشر الشباب لابد للشمس من غروب، ولابد للشباب من المشيب هذا إن عمروا .. ويا ليتكم تتأملون قول الشاعر:

يعمر واحد فيغرُّ قومًا

ويُنسى من يموت من الشباب

قال ابن الجوزي رحمه الله: يجب على كل من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا ولا يغتر بالشباب والصحة فإن أقل من يموت من الأشياخ وأكثر من يموت من الشباب، ولهذا يندر من يكبر ويبلغ الشيخوخة (1).

يا معشر الشباب أيكم صاحب القلبين: قلب يتألم به وآخر به يتأمل؟

ألا تقدرون أن تكونوا كالنخلة تراها عن الأحقاد مرتفعة وبالطوب تُرمى فتُلقي أطيب الثمر.

وكونوا كالنحلة أين وقعت فالعسل لا يفارقها وما يخرج من بطونها شفاء للناس والتعاون والجدية والعمل ديدنها.

وهل يكون مثلكم عثمان رضي الله عنه فقد خطب على المنبر وقال: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، وما تركت ذلك تأثمًا ولكن تركته تكرمًا (2).

يا أيها الشباب كيف تفكر في مستقبلك؟ وما هي طموحاتك، وبرامجك ما وزن الدنيا والآخرة في نظرك؟ وكيف تضبط جنوحك وتستثمر طاقتك فكر ساعة، واعمل مثلها، واصبر في الساعة الثالثة تذل لك الصعاب وترتق مراق العز والشرف، ليكن قدوتك الشباب الجادين، وإياك ومصاحبة البطالين، كن

(1)(متعة الحديث/ 53).

(2)

(متعة الحديث/ 156).

ص: 74

لأبويك كالظل، ولإخوانك كالنحل، ولمجتمعك كالنخلة لا تكن كلًّا على المجتمع، ولا شغلًا لرجالات الأمن، ولا مشكلة لرجالات التعليم، أمامك مشوار طويل للحياة وفي طريقك تحديات، وأمامك فرص للنجاح والفشل، فخذ من شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا قامت القيامة وبيدك فسيلة فاغرسها كان الله في عونك وسدد على طريق الخير خطاك، وحفظك ووقاك وجعلك قرة عين لوالديك وللمسلمين.

ص: 75

‌في البيوع والغلاء والتكسب والتجارة الرابحة

(1)

‌الخطبة الأولى

الحمد لله جعل في الحلال غنية عن الحرام، أحل البيع وحرم الربا، وبين الحلال والحرام أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس.

إخوة الإسلام الناس في حياتهم ومعاشهم يحتاجون للبيع والشراء كما يحتاجون للطعام والشراب والكساء، وقد جاءت شريعة الإسلام موضحة للأحكام المتعلقة بفقه المعاملات كما هي موضحة لفقه العبادات، فأحل الله البيع وحرم الربا، وأباح السلم والدين لمن به حاجة إليه، وحرم الغرر والقمار والميسر والاحتكار ونحوها من المعاملات المحرمة.

أيها المسلمون وكما يتعبد المرء ربه بالتعبد لربه في الصلاة أو الصيام أو نحوها .. يتعبد ربه كذلك في تعاملاته مع الناس وتيسيره لهم في البيع والشراء، وسماحته معهم في القضاء والاقتضاء.

إن من المهم - عند المسلم - أن يكون مطعمه حلالاً، ومشربه حلالاً وملبسه حلالاً، وكل جسد نبت على الحرام فالنار أولى به.

ومن الخطأ أن يجتهد المسلم في عبادته وعلاقته بربه فقط ثم هو يفرط ولا يبالي بعلاقته بعباد الله .. فيظلم، ويغش، ويكذب ويسرق ويحتكر .. وهكذا من صنوف المعاملات المحرمة شرعًا وعقلاً.

وهناك أخطاء وتجاهلات عند عدد من الباعة والتجار في أحكام البيع والشراء أوقعت المجتمع في جملة من الإشكالات والتعسفات، وحري بمن

(1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 8/ 1428 هـ

ص: 76

نصب نفسه لهذه المهنة أن يعلم حكم الله فيها، وألا تجره الدنيا إلى جمع المال كيفما أنفق فيوقع نفسه ويوقع الآخرين، قال أحد السلف من لم يتفقه في البيع والشراء فلا يبع في سوقنا هذا.

إن الكذب في البيع والشراء آفة ومعصية يظن البائع الكاذب يكسب وهو خسران، وكيف يسوغ لك أيها المسلم أن يثق بقولك مسلم آخر بقولك اشتريت السلعة بكذا وأنت كاذب، أو طلبها مني شخص بمبلغ كذا -يعني تسلم بكذا- وأنت كاذب إنك ربما ربحت دريهمات معدودة لكنك خسرت أشياء أخرى.

والغش في السلعة وعدم بيان عيوبها للمشتري آفة أخرى ومن غش فليس منا.

والنجش: وهو المزايدة في السلعة لمجرد رفع قيمتها وخداع الناس بنجشه حرام في شريعتنا.

والتدليس ومدح السلعة المباعة بما ليس فيها خداع وتغرير بالمشترين وبيع الغرر والمجهول، ومزاولة الميسر والقمار، كل ذلك مما جاءت الشريعة بالنهي عنه .. وكل بيوع تجاوزت حدود الله في البيع والشراء فهي خسارة وإن ظن صاحبها أنه يربح .. {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} .

إن من كمال الشريعة الإسلامية أنها لم تحرم شيئًا إلا وأحلت بديلاً خيرًا منه.

ومن سمات المؤمن أنه سمح إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى واقتضى، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والدعاء يستجاب لمن أطعم مطعمه .. ويرد الدعاء حين يغذي المسلم نفسه بالحرام، فمن كان مطعمه حرامًا ومشربه حرامًا وغذي بالحرام فأنى يستجاب له.

أيها المسلمون واحتكار ما يحتاجه المسلمون من طعام أو شراب أو كساء أو نحوه مما نهت عنه الشريعة، وحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم .. والاحتكار عرف بأنه شراء الطعام محتكرًا له للتجارة مع حاجة الناس إليه فيضيق عليهم، أو عرف

ص: 77

كذلك بأنه شراء الأقوات وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق حينئذ (1).

وهل تعلمون أن بعض المفسرين كابن كثير فسر قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .. بالاحتكار والمحتكر في مكه (2).

ومما يؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه» لكن ضعفه بعض العلماء (3).

وإذا تجاوزنا تفسير الآية وجدنا نصوصًا أخرى تنهى عن الاحتكار ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» (4).

واستمعوا إلى هذا الهدي النبوي والتحذير من الاحتكار وعاقبة المحتكرين يقول صلى الله عليه وسلم: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس» والجذام داءً يعترض في الرأس ويتشوه منه الوجه (5).

وكان عثمان رضي الله عنه ينهى عن الحكرة.

وأحرق علي رضي الله عنه بيادز بالسواد لقيس بن أبي صعصعه، يقول قيس ولو لم يحرقها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة (6).

عباد الله الاحتكار إذًا ظلم، والله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده

(1)(الربح في الفقه الإسلامي/ شمسية إسماعيل/ 128).

(2)

(تفسير ابن كثير 3/ 215).

(3)

(السابق، 133).

(4)

أخرجه مسلم (1605)، وفي لفظ آخر «من احتكر فهو خاطئ» رواه مسلم (1605) والخاطئ هو المذنب.

(5)

الحديث أخرجه ابن ماجه، وحسن إسناده ابن حجر (الفتح 4/ 440).

(6)

(السابق/ الربح في الفقه صـ 134).

ص: 78

محرمًا .. وهو جشع واستغلال لما بالناس حاجة إليه والمؤمنون إخوة ..

أيها المسلمون أما تحديد الأسعار .. فالأصل أن الله هو المسعر والحرية مكفولة للبائع في سعر سلعته .. وقد جاء عن أنس قوله غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال: «إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال .. » (1).

لكن لولي الأمر أن يتدخل في التسعير في حالة الاحتكار .. لأن ذلك على حساب المصلحة العامة .. يقول ابن القيم: وجماع الأمران مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجاتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل (2).

ولولي الأمر أيضًا أن يتدخل في التسعير في حالتي الحصر والتواطئ، أما الحصر فهي أن يكون الناس قد التزموا إلا بيع الطعام أو غيره إلا أناس يعرفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم هم يبيعونها، فلو باع غيرهم ذلك منع، فها هنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء - كما يقول ابن تيمية رحمه الله (3).

أما التواطؤ - فهي حالة مزدوجة تتمثل في تواطئ البائعين وتآمرهم على المشترين بالبيع طمعًا في الربح الفاحش، أو على العكس بأن يتواطؤ المشترون

(1) أخرجه الترمذي في البيوع وقال حديث حسن صحيح، والدارمي في النهي عن أن يسعر في المسلمين (1318)(2545).

(2)

انظر (مجموعة الفتاوى لابن تيمية 28/ 105 الطرق الحكمية/ 205).

(3)

(الحسن/ 23/ 24/ الفتاوى 28/ 77، 78).

ص: 79

على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا حق البائعين .. فهنا كذلك يتدخل ولي الأمر في التسعير .. حتى لا يحصل ضرر على البائع والمشتري (1).

أيها المسلمون اجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واعلموا أن الخير والبركة والنماء إنما هي فيما أحل الله .. وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين.

أعوذ بالله الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)} [النساء: 29، 30].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ..

(1)(الربح في الفقه الإسلامي د. شمسية إسماعيل 184/ 185).

ص: 80

‌الخطبة الثانية

الحمد لله يستحق الحمد وأهل الثناء .. أحمده تعالى وأشكره وأسأله المزيد من فضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

أيها المسلمون تفقهوا في دين الله عمومًا - وتفقهوا في مسائل البيع والشراء واقرأوا في كتب البيوع حتى لا تقعوا في الحرام وأنتم لا تشعرون.

ثم اعلموا معاشر الإخوة أن المسلم مأمور بفعل الأسباب والتكسب والإتجار حتى يغني نفسه ومن يعول، ويتصدق من فضل الله على الفقراء والمحتاجين وإذا التزمتم بطرق الحلال في بيعكم وشرائكم، فأدوا ما أوجب الله ولا يشغلكم الصفق بالأسواق أو في أسواق البورصات .. وصالات الأسهم عن الصلوات المكتوبة قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ولا يؤخر لكم ذلك عن التبكير لصلاة الجمعة والجماعة فذلك خير لكم لشهادته العليم الخبير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

ولقد أثنى الله على الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار ..

عباد الله، ثمة من يريد الدنيا فقط. وأولئك ليس في الآخرة من خلاق، وآخرون يتطلعون للآخرة ولا ينقص من حرث الدنيا شيئًا، قال تعالى:{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].

ص: 81

يا مسلم يا عبد الله وإذا وفقك الله لتكسب الحلال .. وحافظت على فرائض الله .. فاشكر الله على ما وهبك من مال واعلم أنك ممتحن فيه جمعًا وإنفاقًا .. فلا تجمعه من كسب حرام - أيًا كان نوع هذا التكسب - وسواء كان ذلك مباشرة أو بالإعانة .. فالله تعالى أمرنا أن نتعاون على البر والتقوى ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان.

وكما تجاهد نفسك على عدم بيع المأكول المحرم أو المشروب المحرم، أو اللباس المحرم فجاهد نفسك كذلك ألا تعين من بيع المحرمات أو يتعامل في التعاملات المحرمة كالربا ونحوها - مما حرم الله-.

واحرص على إنفاق المال فيما أمر الله. وابدأ بالفرائض والواجبات كالزكاة .. ثم احرص على الصدقات - فهذه وتلك حرز لمالك وسبب لنمائه في الدنيا وهي خير وثواب عظيم تجده يوم تلقى الله.

ويشهد الناس في واقعهم مصداق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهم اعط كل منفق خلفًا وكل ممسك تلفًا» ..

والله تعالى كما يمحق الربا، يربي الصدقات .. وكما يعاقب الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بالعذاب الأليم .. هو سبحانه يعد الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..

وجماع الأمر .. أن يتصور المسلم أنه في عبادة لربه في حال صلاته وصومه .. وهو في عبادة لربه في حال بيعه وشرائه وإنفاقه ..

ومن الخطأ والجهل أن يكون للمسلم حال وهو في المسجد .. وحال أخرى تناقضها وهو في السوق والمتجر .. إنها عبودية لله في كل حال وفي كل ميدان

ص: 82

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} .

وكما يثاب العبد وهو يطيل الركوع والسجود ويتلوا القرآن ويصوم النهار فهو يثاب كذلك في تعامله بالحسنى في البيع والشراء - وإنظار المعسر والسعي لتوفير غذاء المسلمين والمساهمة في بيعه بسعر المثل، ويشكر التجار الذين يبادرون حال غلاء الأسعار بتخفيضها وبيعها بسعر التكلفة ..

إنها طرق ومجالات للخير، ونفع للمسلمين .. والمهم أن تقدم معها النية الطيبة واحتساب الأجر، والرفق بالمسلمين وربك لا يضيع أجر من أحسن عملاً (1).

إن من إحقاق الحق أن نؤكد أنه كما يوجد من يتعامل بالمعاملات المحرمة ويغش ويخادع في البيع والشراء .. يوجد كذلك نماذج عالية وواعية، تخشى الله وتراعي حقوق خلق الله .. وأولئك جديرون بتقديرنا وثنائنا، وأهم من ذلك هم جديرون برضى الله عنهم ومجازاتهم بالحسنى .. وغيرهم جديرون بدعائنا وتحذيرنا لهم في الدنيا قبل الآخرة .. وعلى هؤلاء أن ينفقوا مليًا عند قوله تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} الآيات.

اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر ووفقنا للحسنى وجنبنا العسرى، اللهم اكفنا بحلالك عن حرمك واغننا بفضلك عمن سواك.

ص: 83

{قل آمنت بالله فاستقم}

(1)

‌الخطبة الأولى

الحمد لله يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى وفي الآخرة وله الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

إخوة الإيمان: سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه صحابي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد أهل الطائف، فأسلم، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر يعتصم به فقال: قل ربي الله ثم استقم (2).

والحديث في صحيح مسلم عن سفيان رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال:{قل آمنت بالله فاستقم} (3).

ما أحوجنا إلى هذه الوصية الجامعة في زمن تتلاطم فيه أمواج الفتن، ويضعف الإيمان .. أو تضعف الاستقامة والثبات على الإيمان .. وإذا كانت الحاجة إلى هذه الوصية في زمن النبوة فالحاجة إليها فيما بعد أشد وآكد.

قال القاضي عياض - معلقًا على هذا الحديث - هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي وحدوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك (4).

(1) ألقيت هذه الخطبة في 2/ 4/ 1425 هـ.

(2)

(ابن حجر: الإصابة 4/ 208).

(3)

[مسلم ح (38) 1/ 65].

(4)

(تعليق عبد الباقي على صحيح مسلم 1/ 65).

ص: 84

قال العلماء: الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، وتشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك (1).

واختصرها ابن حجر بالقول: الاستقامة كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلاً وتركًا (2).

وقالوا كذلك في معنى الاستقامة - أنها زائدة في المرتبة على الإقرار بالتوحيد؛ لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه، والعمل بما يستدعيه (3).

إخوة الإسلام نحتاج إلى الاستقامة على دين الله في هذه الحياة؛ لأن ذلك سبيل الاستقامة حياتنا بعد الممات، ومن أراد أن يثبته الله على أهوال يوم القيامة فلا بد أن يتثبت على صراط الله في الدنيا ..

وهنا كلام جميل لابن القيم رحمه الله حيث يقول: من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم .. هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته .. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذلك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك، وما ربك بظلام للعبيد (4).

(1)(جامع العلوم والحكم لابن رجب صـ 193).

(2)

(الفتح 13/ 257 عن نضرة النعيم 2/ 304).

(3)

(نضرة النعيم 2/ 306).

(4)

(التفسير القيم/ 109 بتصرف).

ص: 85

يا أخا الإسلام إذًا أنت مدعو لأن تبصر طريقك وتثبت أقدامك على الحق في هذه الحياة، حتى تثبت على الصراط في الآخرة ولا شك أن دون هذا مجاهدة للنفس وصبرًا على الحق. وترويضًا على سلوك الصراط المستقيم حين تنازعك نفسك، وحين ترى من حولك وعن يمينك وشمالك أقدامًا تزل .. وقلوبًا تفتن، ومغريات تصد .. وشياطين للإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.

ولا يغب عن بالك - يا أخا الإسلام - أن أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب .. فأصلح قلبك تصلح جوارحك وتطيب أعمالك ..

إن الاستقامة - كما يقول صاحب البصائر (1) - كلمة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والنيات، والاستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله تبارك وتعالى.

والاستقامة كما قال عمر رضي الله عنه: «أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب» (2).

هي إخلاص لله في العبادة، ومجاهدة للنفس على الطاعة وهي فضل من الله وكرامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» (3).

ألا فأبشروا يا أهل الاستقامة فسيدخلكم الله في رحمة منه وفضل ويهديكم

(1)(4/ 312)

(2)

(مدارج السالكين 2/ 109).

(3)

(المدارج 2/ 110) عن نضرة النعيم 2/ 319.

ص: 86

إليه صراطًا مستقيمًا ليس هذا فقط بل ومن آثار الاستقامة وفضلها ألا خوف ولا حزن، بل بشرى وولاية، ولكم ما تشتهون وما تدعون، ذلك وعد غير مكذوب {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].

الجنة نزلكم والخلود فيها وعد خالقكم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .

أو تفتح لكم بركات السماء والأرض {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .. } [الأعراف: 96] وتسقون ماءً غدقًا {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 16، 17].

ويتحقق لهم الأمن في الوقت الذي يتخطف الناس من حولهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)} .

ألا وإن الاستقامة اتباع لنهج المرسلين وما أمروا به {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89]{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] نفعني الله وإياكم بهدي القرآن.

ص: 87

‌الخطبة الثانية

إخوة الإيمان ورغم الشدائد والأهوال، والبلايا وضعف الإيمان .. وكثرة الانحراف عن صراط الله المستقيم إلا أن ثمة مبشرات ومسليات .. فالوعد بنصرة الحق حكم إلهي {وكان حق علينا نصر المؤمنين} .

وهو بشارة نبوية «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» وفي صحيح البخاري ومسلم خبر عن الذي لا ينطق عن الهوى في بقاء هذه الأمة على الاستقامة .. وعنه قال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله» (1).

عباد الله ولعلكم بعد إذ عرفتم معنى الاستقامة وفضلها وآثارها، تتطلعون إلى معرفة الأمور المعينة على الثبات والاستقامة.

1) ألا وإن من أول هذه العوامل الإيمان الحق {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .. } .

2) والعمل بالعلم وفعل ما يوعظ به المرء مثبت آخر قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: 66 - 68].

أجل إن الإيمان يربط بالعمل الصالح كثيرًا في كتاب الله فالإيمان يقين القلب وعمل الصالحات مصداق لهذا الإيمان.

3) والصبر على طاعة الله وعن محارم الله وعلى أقدار الله كلها مثبت على

(1) البخاري (7312) ومسلم (1037).

ص: 88

الصراط المستقيم. «ألا وإنكم ستلقون بعدي أثره» . قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «اصبروا حتى تلقوني» . {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]{وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120].

4) الاعتبار بقصص السابقين المؤمنين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، ومعرفة ما جرى لهم وكيف صبروا وثبتوا وتجاوزوا المحن كذلك عامل من عوامل الثبات، ألم يقل الله لنبيه وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم:{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وقيل للمؤمنين كافة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111].

5) والقرآن - بشكل عام - وبقصصه وأخباره ووعده ووعيده مثبت وهدى وفرقان وموعظة للمتقين {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] كم نحتاج لدواء القرآن وهو شفاء .. وحاجتنا إليه في زمن الشدائد أشد .. وكم نهجر القرآن تلاوة أو عملاً أو علمًا أو تحاكمًا والقرآن يهدي للتي هي أقوم ..

6) واللجأ إلى الله وصدق الدعاء والتضرع عامل مهم من عوامل الثبات، فالله فارج الكربات ومجيب الدعوات، وكان من دعاء المؤمنين {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} ومهما بلغ الإنسان فهو محتاج إلى تثبيت الله وتسديده.

ص: 89

أجل ألم يقل الله لنبيه وخيرته من خلقه: {وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} .

ألا فلنلح على الله بتوفيقنا للصراط المستقيم، ولنلح على الله بالثبات على هذا الصراط حتى نلقاه، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.

7) والرفقة الأخيار والجلساء الصالحون خير معين على الاستقامة والثبات على الحق بإذن الله فهم يشجعونك حين تحسن أو ينصحونك حين تضعف، تأنس بهم وتتقوى وتتعاون وإياهم على البر والتقوى، وإياك ورفقة السوء.

8) أيها المسلمون وهنا وفي نهاية الحديث أقف عند عامل مهم من عوامل الثبات على دين الله ألا وهو السعي في حوائج المسلمين وتنفيس كرباتهم فمن مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له ثبت الله قدميه على الصراط، تدعو الحاجة إليه في زمن بات المسلمون هدفًا سهلاً للأعداء يقتلون ويشردون وتمارس بحقهم أبشع أنواع التعذيب وأي وجدان لا يتأثر لمشاهد الفلسطينيين وبيوتهم تهدم ومخيماتهم تحاصر وتقصف وقتلاهم بالعشرات يتساقطون، ومزارعهم تدمر، والآخرون مهددون ينتظرون الموت صباح مساء .. وعلى مرأى ومسمع من العالم كله ..

وفي العراق احتلال وانتهاك وقتل واغتصاب، وممارسات بشعة يندى لها جبين الإنسانية، فضلاً عن تأثر المسلمين ورفض أصحاب القيم والمبادئ وفي سجن أبي غريب نموذج للفضائح، ظن الملأ المفسدون أنه يرضي العالم العربي والإسلامي أن يعتذروا لما حصل، وانكشف للمجتمع الغربي أن جنودهم الذين ذهبوا لإنقاذ العراقيين من الظلم والاستبداد .. باتوا يمارسون بأنفسهم أبشع الجرائم وأقسى الظلم، ويعيدون لذاكرة التاريخ محاكم التفتيش، وممارسات النازية ..

ص: 90

وإذا كان الذئب لا يلام في عدوانه: أن يكون راعيًا للغنم؟ ! فأين المسلمون عن نصرة إخوانهم والمشي في حوائجهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له ثبت الله قدميه على الصراط» .

ومن نفس كربة عن أخيه المسلم نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.

وفي الهدي النبوي كذلك: «صنائع المعروف تقي مصارع السواء» .

إن من حق هؤلاء المسلمين الذين يتعرضون للقتل والسلب ويراد لهم التخلي عن عقيدتهم وقيمهم .. أن من حقهم علينا النصرة والدعاء، فهم في محنة يحتاجون إلى تثبيت والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا .. فالتنفيس عن مكروب .. ولنصر مظلوما.

ص: 91

(2) أسباب الخلاف وآثاره وطرق العلاج

(1)

‌الخطبة الأولى

الحمد لله أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن الفحش والبغضاء، والتعاون على الإثم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب المحسنين ويجزي المتصدقين ويبغض الفاحش البذيء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.

إخوة الإسلام وإذا كان الخلاف أمرًا واقعًا فما هي أبرز أسبابه، وأسوأ آثاره؟ وأهم الطرق والوسائل لعلاجه؟

1 -

من أسباب الخلاف والافتراق تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول والفهوم، فسبحان من فاوت بين الناس في الحفظ أو في الاستنباط، والموفق من لم يزك نفسه بل اتهمها حتى يقلل مساحة الخلاف ويضيع الفرصة على الشيطان.

2 -

الإعجاب بالرأي الذي يحمل صاحبه على الغرور وتسفيه آراء الآخرين، وإيثار الهوى على الهدى الذي يمنع من قبول الحق وإن كان واضحًا، وقد جاء النهي صريحًا عن العجب والهوى ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام» (2).

3 -

ومن أسباب الفرقة البغي والحسد، فقد يرى بعض الناس ما عنده أولى

(1) ألقيت هذه الخطبة في 13/ 6/ 1425 هـ

(2)

رواه أبو داود والترمذي (وهو صحيح لغيره 3085، 4341).

ص: 92

وأصوب من غيره، ويبلغ به الغرور بما عنده حدًا يزدري به ما عند غيره .. إما بنوع بغي أو حسد، ثم تقوده هذه المشاعر إلى احتقار الآخرين ولمزهم والتشكيك فيما عند غيره ولو كان حقًا فإن عملية التأمل فيه بعين العدل والإنصاف وإذا انتشر داء البغي والحسد ثارت رياح الفرقة، وسادت البغضاء، وحصل النفور والافتراق.

4 -

شهوة الزعامة وحب الصدارة بحيث يسعى صاحب هذا المرض إلى أن يكون متبوعًا لا تابعًا، وآمرًا لا مأمورًا، ويدعوه ذلك إلى رفض ما عند الآخرين وعدم تقبل وجهات نظرهم وإن كانت صائبة .. بل قد يخيل لهذا المريض أنه وحده حامي حمى الإسلام وأنه الأجدر بالقيادة والريادة دون سواه.

5 -

سوء الظن بالآخرين وتغليب التشاؤم على التفاؤل فهو في الغالب يسيء الظن بالآخرين، إلى حد لا يثق بأحد .. ولا يصوب عملاً، ويطغى عليه جانب التشاؤم بحيث يرى أن كل عمل لم يعمله أو يشرف عليه مصيره الفشل ونهايته الخسران، وهذا الداء يخفى وراءه أمراضًا وأدواء أخرى كالآثرة وحب الذات، واتهام الآخرين، والرغبة في الوقيعة بأعراض المسلمين ..

بينما عكس ذلك من حسن الظن وحسن الفأل يعبر عن قلب سليم ونفس كريمة تحب للآخرين كما تحب لنفسها وتحاول تعليل الأخطاء وإيجاد المعاذير قبل إصدار الأحكام، ورحم الله عمر وهو القائل:«لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملاً» (1).

6 -

الخلط بين الثوابت والمتغيرات وبين الأصول والفروع فهناك ثوابت لا يجوز لأحد أن يتهاون فيها أو يفرط في الحفاظ عليها، وهناك أمور وقضايا

(1)(تفسير ابن كثير 4/ 212، الصوبان/ منهج المحدثين وأثره في وحدة الصف/ 10).

ص: 93

فرعية يسع الخلاف فيها، ولا ينبغي أن تكون أساسًا للمفاصلة أو سببًا للفرقة .. وحين تختلط الأمور ولا يميز بين هذه وتلك يقع الخلاف لأدنى سبب ويظن هذا المختلف أنه يحكم الشرع ويحمي حمى العقيدة وينسى أن ما أحدثه من شرخ الفرقة والخلاف أعظم بل نسي أن من مقاصد الشرع الاجتماع لا الافتراق والاتفاق لا الاختلاف، وبالتالي فلا ينبغي أن توالي أو تعادي على أمر من الدين فيه متسع للحوار والنقاش وفي المقابل لا ينبغي أن تضيع حرمات الدين وأصوله في سبيل جمع الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف على حساب الأصول والثوابت.

عباد الله ولا تقف أسباب الفرقة والاختلاف عند هذه الأسباب فثمة أسباب أخر .. ولكن الجامع لها ضعف الإيمان والتقى وتغليب الهوى على الهدى، وحب الذات في مقابل سحق الآخرين، والجهل بأحكام الشريعة ومقاصد الإسلام والعصبية الممقوتة للمذهب أو للطائفة أو للبلد أو الجنس، وإيثار الدنيا على الآخرة، وعدم الوعي بآثار الخلاف وسلبياته.

إن للخلاف والفرقة آثارًا سيئة لا بد أن يعيها المسلمون ويقدروها حتى لا يقعوا في الفرقة والشتات.

1 -

ومن آثار الخلاف تصدع صف المسلمين وفشلهم وذهاب ريحهم، وما زال ربهم يحذرهم ويقول تعالى:{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46].

2 -

وينتج عن ذلك أثر سلبي آخر وهو تسلط الأعداء عليهم، إذ لا يتمكن الأعداء من استباحة دماء المسلمين وأعراضهم واستحلال ديارهم وأموالهم إلا إذا وهنوا عن مقاومته وضعفوا عن مواجهته، ومن أعظم الوهن والضعف: الفرقة والشتات الناتج عن الاختلاف والافتراق .. ومن يبصر واقع المسلمين

ص: 94

اليوم يرى كم طمع فيهم الأعداء حين تفرقوا واختلفوا وسهل على العدو اختراقهم والعبث بمقدراتهم.

3 -

والهلاك أثر ثالث من آثار التنازع والافتراق حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا بمصير الأمم قبلنا فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة

» (1)، وحين جاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برجل قرأ آية من القرآن بغير ما سمعها هو من النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:«كلاكم محسن، فاقرآ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم» (2).

4 -

ومن آثار الفرقة والشتات تبدد الطاقات وضياع جهود الأمة والمجتمع، وتناحر الأفراد على توافه الأمور، في وقت يتجمع فيه الآخرون بل ويتخذون من فرقة المسلمين مصدرًا لقوتهم، ومستندًا لغزوهم.

إن المسلمين مهما اختلفوا فثمة أمور أكثر وأعظم يجتمعون عليها وحري بهم أن يحيوا فقه الائتلاف بدل الاختلاف، وإن يعظموا ما اتفقوا عليه ويجعلوه الأساس، بدل أن ينطلقوا من الخلافات متناسين أهمية الوحدة وجمع الكلمة.

5 -

ومن آثار الخلاف فقدان الثقة بين العامة والعلماء والأمراء مما يهيء لظهور المتزيدين بقضايا الأمة ومن يرقصون على الجراح ويستغلون الأزمات، من أهل الأهواء وأصحاب النفاق، الذي لا تسعفهم ظروف وحدة الأمة على الظهور .. ولكنهم يرفعون رءوسهم في ظروف الفرق والتناحر.

أيها المسلمون ..

6 -

ومن آثار الافتراق انتزاع البركة من الفرد والأمة بأسرها تصديقًا

(1) رواه أحمد 1/ 178.

(2)

رواه البخاري 6/ 16، وأحمد 2/ 419 عن عوامل الافتراق/ عبد الوهاب الديلمي.

ص: 95

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار» متفق عليه.

7 -

والفرقة والاختلاف تؤثر سلبًا على النفوس فتصيبها بالإحباط والانكفاء على الذات، فتحرم الأمة من طاقاتها، وتتحطم نفسياتها .. وهذه وتلك مكاسب لأعدائها .. فلنحذر الفرقة وأدواءها المهلكة ولنحرص على جمع الكلمة وردم الفجوات، ولنستشعر جميعًا أننا أمة الوحدة، وأن دواعي الاتفاق والاجتماع في ديننا وشريعتنا أكثر وأعمق مما عند غيرنا .. وهنا لا بد أن نتساءل لماذا اجتمعوا وتفرقنا .. ولماذا تضامنوا وتنازعنا؟ لماذا نفترق وكيف نتفق ما دور الأشخاص والهيئات .. والمجتمع والدولة في تحقيق وحدة الأمة؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} .

ص: 96

‌الخطبة الثانية

أيها الإخوة المؤمنون وحين تعرفون شيئًا من أسباب الفرقة والاختلاف .. وآثارها المهلكة .. فحري بكم أن تجتنبوها، بل وتبحثوا عن أسباب العلاج وعوامل وحدة الصف .. فما هي الوسائل المؤدية إلى الاتفاق ووحدة الصف؟

لا بد من العلم أولاً أن الدعوة إلى الاتفاق ووحدة الصف لا تأتي تلبية للحاجة الملحة وللظروف المحيطة بالأمة المسلمة فقط وإنما هي استجابة لأمر إلهي وتحقيق لمطلب شرعي، كما قال ربنا تبارك وتعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].

إن الوحدة في الصف المسلم لازم من لوازم عقيدة التوحيد ومن علائم خيرية هذه الأمة اجتماعها على الحق، ودعوة الناس إليه، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} الآية.

1) ولهذا فإن الالتزام بالعقيدة الحقة أول الأسس في وحدة الصف، فالعقيدة توحد بين القريب والبعيد، والعربي والأعجمي، والغني والفقير، والأحمر والأسود .. وتعجز آية رابطة أخرى أن توحد صف المسلمين وتؤلف بين قلوبهم.

إن هذه العقيدة ضرورة للفرد ليسعد ويطمئن، وتزكو نفسه وضرورة للمجتمع ليستقر ويتآخى ويتعاون ويتماسك ويتناصر.

2 -

التخلق بكريم الأخلاق التي أمر بها الشرع عامل مهم في الوحدة كالمحبة والإيثار والعفو والصفح وخفض الجناح وسلامة الصدر والعدل والإنصاف ونحوها من أخلاق تجمع ولا تفرق، وتهذب النفوس .. وإذا كنا نتفق على

ص: 97

أهمية هذه الأخلاق في أحاديثنا فالأهم أن نمارسها في واقعنا وأن ننصف بها إخواننا.

إن ممارسة الأخلاق المرذولة سهل، ولكن الترفع عن الهنات وستر العورات والتعامل بلطف مع الزلات، وممارسة أعالي الأخلاق هو الذي يحتاج إلى صبر ومجاهدة للنفس، انظروا إلى إمام من أئمة الجرح والتعديل وهو يمارس الخلق الرفيع ويقول:«ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه فإن قبل وإلا تركته» (1).

إنه نموذج رفيع للتعامل مع الأخطاء والزلات، فهل نمارسه؟

3 -

والعلم والورع سبب للتأليف ووسيلة عظمى لجمع كلمة المسلمين، وكلما كان المرء ذا علم واسع وورع كلما اجتمعت عليه القلوب، وكلما اتسع أفق الإنسان كان أقدر على تقدير الآخرين واتسع صدره للمخالفين.

أما الجهل أو التعالم فهو سبب للفرقة وضيق الأفق، وكم جنى أولئك المتعالمون على الأمة وكم أصبحت أعراض العلماء والدعاة كلأً مباحًا لمبتدئين في العلم، ظنوا أنهم إذا اطلعوا على بعض الكتب أو نالوا شيئًا من الشهادة قد بلغوا في العلم مبلغًا يؤهلهم لنقد هذا وتقويم ذاك، وتلك ظاهرة قديمة تتجدد، وهذا الإمام أحمد بن علي بن الآبار يقول - في زمنه - رأيت بالأهواز رجلاً حف شارته، وأظنه قد اشترى كتبًا، وتعبأ للفتيا، فذكروا أصحاب الحديث فقال: ليسوا بشيء، وليسوا يسوون شيئًا، فقلت له: أنت لا تحسن تصلي، قال أنا؟

(1)(سير أعلام النبلاء 11/ 83).

ص: 98

قلت: نعم، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك؟ فسكت، فقلت: وإيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت، قلت: مالك لا تتكلم؟ ألم أقل لك إنك لا تحسن تصلي؟ إنما قيل لك تصلي الغداة ركعتين والظهر أربعًا، فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث، فلست بشيء ولا تحسن شيئًا» (1).

ومن العجب - كما يقول ابن القيم رحمه الله إن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك.

ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه (2).

فهل نحفظ ألسنتنا؟ وهل نكون سببًا للتأليف بجميل العبارة، وحسن الظن وتقدير الآخرين.

4 -

التثبت مما يروى والتحري فيما يقال، ذلك منهج رباني نُدب إليه المؤمنون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ .. } وإذا كانت الشائعات مفسدة للمجتمعات مفرقة للجماعات فإن دواءها بالتثبت والتحري وعدم الاستعجال في اتخاذ المواقف، وتلك المواقف المتأنية تسهم في جمع الكلمة، كما تسهم العجلة في الفرقة والشتات ألا فتثبتوا ولا تستعجلوا يا عباد الله، ولا يستخفكم الذين لا يوقنون.

5 -

ومع التثبت إقالة ذوي الهيئات عثراتهم، فإذا كان شخص لا يعرف عنه إلا الخير، ثم كبا كبوة لا ينبغي أن يسارع لتجريمه ويعان الشيطان عليه، بل تقال

(1) (الكفاية في علم الرواية ص 19، 20، عن أحمد الصوان/ منهج المحدثين.

(2)

(الجواب الكافي/ 54).

ص: 99

عثرته ما لم تكن حدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» (1).

وفي الحديث الآخر الصحيح: «من أقال عثرة أقاله الله يوم القيامة» (2).

قال ابن القيم وإقالة ذوي الهيئات: باب من أبواب محاسن الشريعة الكاملة وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد (3).

إننا في سبيل جمع الكلمة ووحدة الصف لا ينبغي أن نفرح بالعثرة يعثرها أحد إخواننا المسلمين، بل نتألم لذلك ونسارع بنصحه وإقالة عثرته.

6 -

ولا بد في سبيل جمع الكلمة من ضبط النفس عند حدوث الخلاف فالشيطان حريص على الوقيعة والفرقة بين المسلمين، والشديد ليس بالصرعة إنما الذي يملك نفسه عند الغضب، ولتضيق هوة الخلاف ندب الإسلام المتهاجرين إلى الإسراع بالسلام وخيرهما الذي يبدأ صاحبته بالسلام .. إلا فعظموا ما عظم الله وكونوا عباد الله إخوانًا .. ليسأل كل منا نفسه هل هو عنصر بناء ووسيلة لجمع الكلمة أم هو بضد ذلك، ولا ينبغي أن ننعى حال الأمة ونحن المقصورون نتلمس الداء.

(1) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح (25474)، (4/ 133).

(2)

رواه أحمد وأبو داود (3/ 274) وابن ماجه (2/ 741).

(3)

(بدائع الفوائد 3/ 139).

ص: 100

‌بين خالد والوليد

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ..

أيها المسلمون ثمة صراع أزلي بين الحق والباطل، وثمة مدافعة بين الناس يمنع الله بها الفساد في الأرض، ثمة محقون ومبطلون، ومسلمون وكافرون، وأصحاب الجنة وأصحاب السعير، تلك حقائق يراها الناس في القديم والحديث، وعاشها الناس فيما مضى ويعيشونها اليوم وغدًا ..

ولكن ثمة حقيقة تقول إن البقاء للأصلح، وإن العاقبة للتقوى وللمتقين، والزبد يذهب جفاءً ويبقى في الأرض ما ينفع الناس.

الباطل يهيج فترة، والمبطلون يتصدرون القيادة حقبة من الزمن، ولكن المسلم لا يغر بتقلبهم في البلاد، وهم لا يعجزون الله، ولكنه إن أمهلهم لا يهملهم، وإن متعهم فهو يستدرجهم .. والعاقبة وخيمة والأخذ أليم ..

تعالوا بنا معشر المسلمين نقرأ واحدة من قصص القرآن عن القوم المجرمين، كيف طغوا وتجبروا واستكبروا وتفاخروا، ثم كانت النتيجة المرة، وكان الذكر السيء .. وإلى جانب ذلك نذكر نموذجًا آخر خالف فخاف، وأسلم فسلم، وفرق بين ذكر وذكر .. إنها مفارقات عجيبة تحكي عاقبة الكفر، وفضل الإسلام، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وهو العليم الحكيم.

(1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 11/ 1427 هـ

ص: 101

بين الوليد بن المغيرة وابنه خالد تكمن العبرة، ويكون الدرس لهذا اليوم فماذا قيل عن الأب؟ وماذا قيل عن الابن؟ وأي ذكر وتاريخ حفل به الأب .. وماذا سطر للابن من مكارم؟

تعالوا بنا إلى مائدة القرآن لتشخيص الموقف ونهايته لأحد سادة قريش وأكابر مجرميها (الوليد بن المغيرة المخزومي).

يقول تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} .

قال ابن كثير: يقول تعالى متوعدًا لهذا الخنيث (الوليد بن المغيرة المخزومي) الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرًا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر، وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله {مَالاً مَّمْدُوداً} أي واسعًا كثيرًا، وجعل له {بَنِينَ شُهُوداً} أي لا يغيبون عنه ولا يسافرون في التجارات، بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم، وكانوا فيما ذكر ثلاثة عشر، أو عشرة، وقعودهم عنده أتم في النعمة، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} أي معاندًا وهو الكفر بعد العلم، ثم جاء الجزاء {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قيل المقصود

ص: 102

بالصعود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا، ثم يهوى به كذلك فيه أبدًا. وقيل: هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يديه ذابت، وإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. وقيل هو: صخرة عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه. وقيل: هو مشقة من العذاب، أو عذاب لا راحة فيه - وهو اختيار ابن جرير (1).

أيها المسلمون .. حين يعرف المرء الحق ثم يحيد عنه أو يلبس يمكن كشأن المجرمين قديمًا وحديثًا، تكون العقوبة قاسية والذكر سيئًا .. وكذلك كان الوليد ..

لقد جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر ولا بسحر، ولا يهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. وفي رواية: فوالله ما منكم أحد أعلم بالشعر مني، ولا بأشعار الجن، وما يشبه شيئًا من ذلك، وإن له لحلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه.

وهكذا اعترف الوليد بعظمة القرآن، وقاتل الله رفقة السوء وقرناء السوء كيف يوقعون أصحابهم، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبون قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل قال: أنا أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالًا وولدًا، فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد: أقد تحدثت بذلك عشيرتي؟ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة -يقصد النبي- وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله بشأنه الآيات السابقات (2).

(1)(تفسير ابن كثير 8/ 291، 292).

(2)

(ابن كثير 8/ 292).

ص: 103

أيها المسلمون تأملوا في ثنايا القصة كيف يعلو الحق ويعترف به الملأ .. وكيف يكون النكوص حفاظًا على المركز، واستسلامًا لأعراف القبيلة وطمعًا في البقاء في الرئاسة، وتأثرًا برفقة السوء، ثم تأملوا كيف يوصف الخير والأخيار، فالنبي الأمين يلقبونه بابن أبي كبشة .. والإسلام بالصباء، وكذلك يتلاعب المجرمون بالألفاظ، ويلمزون الخير والأخيار .. وإذا جرى ذكر السحر، والكهانة، والجنون ونحوها من ألفاظ المجرمين فيما مضى، فاليوم تعود السخرية لكن بألفاظ الإرهاب، والأصولية، والفاشية، ونحوها .. وتتغير الألفاظ والمعنى واحد، ويمضي التاريخ ويتقلب الوليد في النعم .. لكنها أيام الدنيا قليلة وحبالها قصيرة، وتذكره كتب السيرة ضمن المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، ويسلي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكفايته لهؤلاء المستهزئين، ويأمره بالصدع بالحق دون تردد:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94، 95]. ويهلك الله أولئك المستهزئين جميعًا - وهم خمسة كما ذكرتهم كتب السيرة والتفاسير- وأحدهم بل من أكابرهم الوليد بن المغيرة .. يهلكون بآفات قال عنها الشنقيطي في «أضواء البيان» : والآفات التي كانت سببًا في هلاكهم مشهورة في التاريخ (1).

وكذلك أسدل الستار على قصة هذا المكابر المستهزئ، وبقي ذكره لا يسر الناظرين، وخبره عبرة للمعتبرين، ولئن غاب الوليد عن مشهد الأحداث ببدنه فقد بقي من تاريخه ما يعيد الذكرى في كل حين .. إن في الأرض من يسخر ويستهزئ ويتطاول ويتكبر، ويمهل وينعم عليه .. لكنها نهاية الطغاة

(1)(أضواء البيان 3/ 182، وانظر ابن هشام 2/ 57، 58).

ص: 104

‌الخطبة الثانية

إخوة الإيمان .. بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين أبيه الوليد مفارقة كبيرة، وفرق شاسع .. كما بين الثرى والثريا ..

أجل لقد عاش خالد فترة من عمره في مراهقة الجاهلية، وفي طاعة القبيلة، وكان شجاعًا لكن دون هدف، وقائدًا لكن دون إيمان .. ألحق بالمسلمين هزيمة أحد حين انطلق بخيله ومن كان معه إلى من بقي من رماة المسلمين، فأحصاهم قتلًا، واستدار على المسلمين من خلف الجبل، فكان مصاب أحد على المسلمين عظيمًا وبقي خالد جنديًّا مطيعًا لقريش وصاحب خيلها .. وكانت الأحزاب والحديبية .. وخالد لم يسلم بعد، لكنه يكابد القلق، ويعيش التناقضات، ويقول بكل صراحة: «لقد شهدت المواطن كلها على محمد، فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني مُوضع في غير شيء، وأن محمدًا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكان فيه خيرة - فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر، صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعًا، وقلت في نفسي: الرجل ممنوع فاعتزلنا، وعدل عن سير خيلنا وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشًا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح، قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين أذهب؟ إلى النجاشي فقد اتبع محمدًا، وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية؟ فأقيم في عجم؟ فأقيم في داري بمن بقي؟ فأنا في ذلك إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية، فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان

ص: 106

أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتابًا فإذا فيه:«بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، وقال: «أين خالد؟ » .

فقلت: يأتي به الله، فقال:«مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين كان خيرًا له، ولقدمناه على غيره» . فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة. قال خالد: فلما جاءني الكتاب نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في المنام كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة. وكذلك وقع الإسلام في نفس خالد وانتهى به المطاف إلى الإسلام ومبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، واحتفى النبي بخالد منذ إسلامه، وحاول خالد أن يكفر عن سابقته، فخرج مع المسلمين (لمؤتة) لمجابهة الروم، وكان البلاء هناك واستشهد أمراء المسلمين الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، واستلم الراية بعدهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليه .. وأخبر النبي أصحابه عن المعركة وشهداء المسلمين، وعيناه تذرفان حتى قال:«حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه» (1).

أيها المؤمنون .. لم يكن بين إسلام خالد وبين خروجه مع المسلمين وما فتح الله عليه في مؤتة إلا ما يقرب من أربعة أشهر؛ فإسلامه في صفر سنة ثمان، ومؤتة في جمادى الأولى من السنة نفسها (2).

ومنذ ذلك الحين واسم خالد يتردد في الملأ، ويحمل تاج (سيف الله

(1) أخرجه البخاري ح 4262 (الفتح 7/ 512).

(2)

(ابن كثير 4/ 267، 268).

ص: 107

المسلول) وقد كان لهذا المسمى ثمنًا أعطى خالد من نفسه للإسلام، ومارسه في حركة الفتح الإسلامي .. وأرض العراق وما وراءها، وأرض الشام وما جاورها، تشهد لخالد بالبلاء والفتح المبين، وصفحات التاريخ تعطر بذكر هذا البطل الصنديد ولئن علم الناس من شجاعة خالد ما عرفوا .. فثمة جهد لخالد قد ينغمر في حياته العظيمة، ألا وهو الدعوة للإسلام، فغير المسلمين كان يعجب بخالد وشجاعته ثم يكون الحوار وينتهي إلى الإسلام .. وإليكم نموذجًا لذلك:

حوار خالد مع جرجة: (1)

قالوا: وخرج جرجه أحد الأمراء الكبار من الصف واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه الله فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي: أنت سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين. ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

فقال جرجة: يا خالد إلى مَ تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده

(1)(انظر البداية والنهاية لابن كثير 7/ 14، 15) أحداث سنة 13 هـ.

ص: 108

ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل.

قال: فمن لم يجيبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم.

قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله.

قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا.

قال جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل.

قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.

فقال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ بالله لقد صدقتك (1)، وإن الله ولي ما سألت عنه.

فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين.

وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل والحرث بن هشام، وركب خالد وجرجة معه والروم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا وتراجعت الروم إلى مواقفهم وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم

(1) زيادة في الطبري: وما بي إليك ولا إلى أحد منكم حاجة.

ص: 109

خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماء، وأصيب جرجة رحمه الله ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما.

وضعضعت الروم عند ذلك، ثم نهد خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الروم، فعند ذلك هربت خيالتهم، واشتدت بهم في تلك الصحراء، وأفرج المسلمون بخيولهم حتى ذهبوا، وأخر الناس صلاتي العشاءين حتى استقر الفتح، وعمد خالد إلى رحل الروم وهم الرجالة ففضوهم عن آخرهم حتى صاروا كأنهم حائط قد هدم، ثم تبعوا من فر من الخيالة واقتحم خالد عليهم خندقهم، وجاء الروم في ظلام الليل إلى الواقوصة، فجعل الذين تسلسلوا وقيدوا بعضهم ببعض إذا سقط واحد منهم سقط الذين معه.

قال ابن جرير وغيره: فسقط فيها وقتل عندها مائة ألف وعشرون ألفا سوى من قتل في

المعركة.

ألا ما أبعد البون بين ذكر خالد رضي الله عنه وذكر أبيه، وذلكم الفرق بين الإسلام والكفر، ألا وإن التاريخ سجل حافظ، وكما تعطر صفحاته بجهاد المجاهدين وفتح الفاتحين، وإذا كان هذا في الدنيا، فالذكر أعظم والفضيحة أسوأ في الآخرة حين تكون على رءوس الأشهاد، ألا فليجاهد المسلمون بأموالهم وألسنتهم وأيديهم، فالزرع محفوظ، وليستكبر الملأ الظالمون، ويشيعوا في الأرض الفساد، فربك لهم بالمرصاد.

ص: 110

‌الشكر والشاكرون

(1)

‌الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان إمامًا للشاكرين ونموذجًا للصابرين. أيها الإخوة المسلمون ما بنا من نعمة فمن الله، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} .

ابن آدم أنت في مبدئك ومنتهاك وفي حال ضعفك وقوتك وصحتك وغناك، وبكل ما تتربع عليه من نعم ويدفع عنك من نقم .. أنت من فضل الله وجوده وكرمه وإحسانه .. شكرت ذلك أم كفرته أدركت هذه النعم أم غاب عنك بعضها.

أجل إن من أسماء الله الحسنى (الشكور) وهو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطى بالعمل في أيام معدودات نعيمًا في الآخرة غير محدود، ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال أنه شكر، فإذا نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا الله عز وجل لئن زيادته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة، ذلك أن نعيم الجنة لا آخر له، والله يقول:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].

(1) ألقيت هذه الخطبة في 9/ 3/ 1430 هـ

ص: 111

يا أخا الإسلام الله يهدي للتي هي أقوم ثم يشكر المهتدي وينعم بالصحة والمال ويشكر العابد المنفق، وينعم بالعقل ويشكر المتفكر المؤمن، ويهدي لأحسن الأخلاق والأعمال، ويجزي صاحب الخلق والعمل الحسن.

يا ابن آدم أين تفر من الشكر لله، وأنعمه تحاصرك في ضعفك وإقامتك، وفي حال سرائك وضرائك نعم تترى في اليقظة والمنام، وفي الليل والنهار، سرًا وجهرًا، ظاهرًا وباطنًا .. عافية وأمان، وأموال وأولاد، ومباهج لا تحصى .. حتى إذا ضعفت وتجاوزت حدود الله سترك وأعطاك فرصة للتوبة والندم.

حتى إذا نسبت وغفلت ذكرك واعظ الله علك أن تفيق وتتذكر ..

حتى إذا مرضت وعجزت كتب الله لك من الأجور والحسنات مثل ما كنت تعمل يوم كنت سليمًا مقيمًا ..

يا عبد الله كن من الشاكرين حقًا فهم كما قال الله: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13].

ولا تحسبن الشكر مجرد كلمة تمر على اللسان مرورًا عابرًا فالشكور - كما قال العالمون - ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة (1).

الشاكر هو من يشكر على الرخاء بزيادة الثناء وعدم البطر ويشكر على البلاء بزيادة الصبر والإمساك عن الشكوى.

إخوة الإسلام ولعظيم منزلة الشكر قرنه الله بالإيمان فقال: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147].

والشاكر هو من يرى عليه أثر الشكر ثناءً على الله وقيامًا بواجبات الله،

(1)(ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 244).

ص: 112

وانتهاءً عن المحرمات من سيما الشاكرين البكاء تعظيمًا وخوفًا .. هم الشاكرون الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.

الشاكرون يتواضعون وإن كانوا كبارًا، ويسارعون للخيرات وإن كانوا لها سابقين ..

يحتاج الشكر إلى إعانة من الله .. والدعاء واحد من مفاتح الشكر، فاسأل ربك أن يجعلك في زمرة الشاكرين ولقد كانت وصية المحب لمن أحب بالاستعانة بالله على الشكر، فقد أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال:«يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (1).

وقد كان من دعاء الصالحين {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ

}.

يا عبد الله ويعينك على الشكر أن تنظر إلى من فوقك في الدين فتقتدي به، وتنظر في دنياك إلى من هو دونك فتحمد الله على تفضيل الله لك عليه، وقد ورد في الأثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر إلى دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا» (2).

(1) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 280).

(2)

أخرجه الترمذي وقال حسن غريب (2512) وضعف إسناده محقق جامع الأصول (11/ 697)[نظرة النعمة 6/ 2409].

ص: 113

يا مسلم يا عبد الله كن شاكرًا تكن في قافلة الأنبياء والصالحين فنوح عليه السلام {إنه كان عبدًا شكورً} وإبراهيم عليه السلام وصفه ربه {شاكرًا لأنعمه اجتباه} ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ، وآل داود قيل لهم:{اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور} لقد أمر الله بالشكر {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} ونهى عن ضده {ولا تكفرون} .

وأثنى على أهله ووعد بجزائهم {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم (تفسير ابن كثير 1102). الشكر من أعلى المنازل، وهو فوق (الرضا)

وحيث سمى الله نفسه شاكرًا، وشكورًا، فقد سمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه، وحسبك بذلك محبة للشاكرين وفضلاً (1).

يا أخا الإسلام وثمة قواعد خمس بها يعرف الشاكر، قال عنها ابن القيم رحمه الله: والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثنائه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره (2).

والشكر معه المزيد أبدًا لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر.

وإذا اشترك مع المسلمين غيرهم في الشكر على المحاب - وإن تميز المسلمون على غيرهم بكمال الشكر في هذه الدرجة .. فثمة درجة يتقدم المسلمون على غيرهم وربما اختصوا بها ألا وهي الشكر على المكاره و «عجبًا

(1)(ابن القيم: مدارج السالكين 2/ 252/ 253).

(2)

(السابق 2/ 254).

ص: 114

لأمر المؤمن إن أمره له كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك لأحد إلا المؤمن».

كما يختصون بالأجر على الحمد، وقد صح الخبر «

ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة» (1).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

(1)(صحيح الجامع الصغير 2/ 96).

ص: 115

‌الخطبة الثانية

الحمد لله ملء السموات والأرض وما بينهما .. وهو أهل الثناء والمجد أحمده تعالى وأشكره، وقد وعد الشاكرين يثيب (الحمد) في الجنة اللهم لا تحرمنا فضله، واجعلنا له شاكرين ذاكرين.

أيها المسلم اعزم على شكر ربك ولا تتردد فيه أو تتشكك ودونك هذا الحوار وفوائده في العزيمة على الشكر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى رجلاً فيقول: «يا فلان كيف أنت؟ » فيقول: بخير أحمد الله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم:«جعلك الله بخير» ، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يقوم فقال:«كيف أنت يا فلان؟ فقال: بخير إن شكرت، قال: فسكت عنه، فقال: يا نبي الله إنك كنت تسألني فتقول: «جعلك الله بخير» ، وإنك اليوم سكت عني؟ فقال له:«إني كنت أسألك تقول: بخير أحمد الله، فأقول: جعلك الله بخير، وإنك اليوم قلت إن شكرت، فشككت فسكت عنك» (1).

يا أيها الشاكر وفضل الله عليك عظيم بالشكر، وأنت تبلغ درجة الصائم الصابر، وفي الحديث: إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما للصائم الصابر» (2).

يا مسلم يا عبد الله اجعل من وردك اليومي كلما نيرات في الشكر، فمن قال حين يصبح: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن

(1) البخاري (70) ومسلم (59).

(2)

أخرجه الترمذي، وابن ماجه والدارمي وأحمد وصحح إسناده شاكر 14/ 212، نضرة النعيم 6/ 2409).

ص: 116

قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته» (1)

يا عبد الله وهل تعلم أن شكر الناس طريق لشكر الله وقد صح الخبر: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)(2).

والحديث ورد برفع اسم الجلالة ومظنة (لا يشكر لله) ومن معانيه: إن الله لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم، وقيل: إن من كان من عادته عدم شكر الناس كان من عادته كذلك كفران نعمة الله (3).

ابن آدم سيسألك ربك عن الشكر على كل نعمة أنعم بها عليك وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل يوم القيامة: «يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء، وجعلتك تربع وترأس، فأين شكر ذلك؟ » (4).

اشكروا الله وامدحوه، فلا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه (5).

ومن صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء (6).

وكيف لا يمدح وهو أهل الفضل والثناء والحمد وصدق الشاعر:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

علي له في مثلها يجب الشكر

(1). (أخرجه أبو داود والنسائي، وذكره النووي في الأذكار، وقال: مخرجه إسناده حسن (152) وحسن الحافظ في شرح الأذكار (124) وانظر: نضرة النعيم (6/ 2411).

(2)

رواه أحمد وغيره [صحيح الجامع 6/ 237].

(3)

(النهاية في غريب الحديث 2/ 493، 494).

(4)

رواه مسلم (2968) وأحمد (2/ 492).

(5)

(رواه مسلم 2760).

(6)

(رواه الترمذي، وقال محقق جامع الأصول إسناده قوي 2/ 558).

ص: 117

فكيف وقوع الشكر إلا بفضله

وإن طالت الأيام واتصل العمر

إذا مس بالسراء عم سرورها

وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وما منهما إلا له فيه منة

تضيق بها الأوهام والبر والبحر

قال العالمون: من أعطى أربعًا لم يمنع أربعًا، من أعطي الشكر، لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب (1).

وقال بعض الحكماء: من قصرت يداه عن المكافأة فليطل لسانه بالشكر (2).

وأخيرًا اجعل هذا الدعاء النبوي نصب عينيك: رب اجعلني لك شكارًا، لك ذكارًا، لك رهابًا، لك مطيعًا، لك مخبتًا، إليك أواهًا منيبًا (3).

اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين .. اللهم إنا نسألك المزيد من فضلك، والشكر على نعمائك.

(1)(إحياء علوم الدين 1/ 160).

(2)

(نضرة النعيم 6/ 2419).

(3)

رواه أبو داود وصححه الألباني (1/ 282).

ص: 118

‌حين يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..

إخوة الإسلام ولا تزال تتأجج مشاعر المسلمين هذه الأيام في مغرب العالم ومشرقه مدافعة عن حياض النبي صلى الله عليه وسلم .. حيث الإهانة والسخرية والسب من قبل أقوام لأخلاق لهم.

وينتفض المؤمنون رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا معبرين عن صدق محبتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وصدق الانتماء لدينه ورسالته .. ولا غرابة في ذلك .. فدون محمد صلى الله عليه وسلم ترخص الأرواح، وتبذل المهج والأوقات ..

محمد صلى الله عليه وسلم رفع الله شأنه وأعلى ذكره، وختم بالمرسلين شريعته، وبسط في الخافقين نوره ورحمته .. إنه السراج المنير، والرحمة المهداة، والقدوة والأسوة، أعطاه الله اسمين من أسمائه:{بالمؤمنين رءوف رحيم} وقدمه في إمامة الأنبياء، وجعل رسالته حية في قلوب العالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أحبه المؤمنون، وأنصفه العقلاء، وشهد على صدقه وعدله البر والفاجر، واشترك في ميراثه العرب والعجم، والأحمر والأسود، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والقاصي والداني.

من حماقات هذا العصر، ومن مأفون تصرفات السفهاء، وإذكاء لروح العدوان والصدام .. يصدر من الدانمرك ومن ورائها الاتحاد الأوربي أصوات

(1) ألقيت هذه الخطبة في 27/ 12/ 1426 هـ.

ص: 119

منكرة ورسوم كاريكاتورية ساخرة تستهدف الإسلام والمسلمين وتسخر بنبي الرحمة والملحمة.

ما دوافع الحملة ومن وراءها؟ أهي مجرد حقد دفين على الإسلام والمسلمين أم هي مع ذلك متاجرة رخيصة بحرية الرأي؟ تجرأ دولة صغرى على هذه الجريمة النكراء؟ أم ثمة ضمانات ومحالفات من دول كبرى؟

وهذه الحملة الظالمة والهجوم الخاسر ليست وليدة اليوم، وليست قصرًا على مكان دون آخر، ولا على شعب أو ديانة دون أخرى ودعونا نستدعي التاريخ فهو شاهد على حلقات هذا العداء وكاشف لنتائج المعركة .. وهي بلا شك لصالح الحق ولأهل الحق.

حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأعلن دعوته ناصبته قريش العداء، وتجهموه وآذوه وسخروا منه ومما نزل عليه، وقال قائلهم:{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وقريش في داخلها تؤمن بصدق محمد وصدق القرآن .. فمحمد الأمين والقرآن يتحدى .. ولكن قريشًا آثرت هذا الأسلوب للصد والاعتراض وحتى لا ينكشف ضعفهم وباطلهم، ولذا نقل ابن إسحاق عن قريش قولهم (معترفين) فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه غلبكم.

واليوم يتكرر الأسلوب ويتخوف الأعداء من مد الإسلام ومن أثر محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وغيرهم فلا يجدون وسيلة إلا التنفير والسخرية والسب والانتقاص.

ولكن وكما خابت قريش وخسرت بالأمس فسيخسر أمثالها اليوم .. أجل إن حملة الأمس الظالمة من قريش الكافرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سول حمق القوم أن ينشروها في اجتماعات العرب وأسواقهم ومناسباتهم - عادت بدور إيجابي على محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته .. وصدر العرب - وهم من جهات شتى - وقد

ص: 120

سمعوا عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، وعادت هذه القضية مثارًا للحديث في محالهم ومع أقوامهم، فعرف محمدًا والإسلام من لم يكن يعرفه من قبل.

وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت

أتاح لها لسان حسود

وأدركت قريش أو لم تدرك أنها صنعت للنبي والإسلام دعاية مجانية ..

واليوم يشكل حمق الأوربيين ومن وراءهم دعاية مجانية لمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فيعرف محمدًا من لم يكن يعرفه من قبل، ويتساءل مجموعات كبرى من البشر عن دين محمد ما هو؟ وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا.

وثمة معلم آخر في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم .. وتعداد وتوعية الساخرين به، فلم يكونوا أفرادًا فقط بل جماعات، ولم يقتصر الأمر على مكة بل شمل المدينة .. بل تجاوز العرب إلى العجم، ويمكن القول أن كفار مكة والمنافقين في المدينة وشياطينهم اليهود وكسرى دولة فارس .. كل هؤلاء حلقات في سلسلة العدوان والسخرية.

إنها جماعات وأفراد، وديانات ومنظمات سرية، ودول كبرى ومع ذلك يشهد التاريخ أن هؤلاء وأولئك تحطموا وفشلوا، وتمزق ملكهم والنصارى الذين أسلم أحدهم في زمن النبوة ثم عاد وتنصر وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«ما يدري محمدًا إلا ما كتبت له» .

فأماته الله وجعله عبرة للمعتدين حيث لفظه القبر مرارًا ثم ترك منبوذًا (1).

قال شيخ الإسلام معلقًا على هذه الحادثة: فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم .. قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارًا .. وأن الله منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسبه، وتظهر لدينه ولكذب الكاذب.

(1)(رواه البخاري في علامات النبوة في الإسلام، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم).

ص: 121

إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد (1).

فقريش أسلمت القياد .. ودخل من دخل منهم في الإسلام، ومن لم يكتب الله له الخير أخذه الله وأخزاه وكان عبرة للمعتبرين .. واليهود حوصروا وطردوا وقتلوا .. والمنافقون فشلوا وكشفوا وخابت مساعيهم.

إن المتأمل في عالم الأمس واليوم يرى هذه الفئات والمجاميع تتكرر في عدوانها وسخريتها، فيهود اليوم حين يسخرون بالإسلام والمسلمين لهم سلف قالوا عن المسلمين {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَاّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} .

ونصارى اليوم لهم سلفًا بالسخرية بالنصراني الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فأماته الله وفضحه على رؤوس الأشهاد حين لفظه القبر مرارًا .. ولعذاب الآخرة أشد.

ومنافقوا اليوم لهم حرب على السخرية بالإسلام ونبي الإسلام من وراء وراء، وليعرفنهم بسيماهم أو بلحن قولهم .. ومن قبل قال أسيادهم ليخرجن الأعز منها الأذل، لقد مردوا على النفاق، وضيقوا الحصار على المسلمين وقالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا

} ولئن فرق الله ملك كسرى حين سخر بالنبي صلى الله عليه وسلم ومزق رسالته .. فهو قادر على تمزيق كل مملكة تتطاول على مقام النبوة وتسخر بسيد المرسلين.

إخوة الإسلام ويعلمنا القرآن .. ويشهد التاريخ أن الله كفى نبيه كيد الكائدين

(1)(الصارم المسلول ص 233).

ص: 122

وسخرية المستهزئين .. وعصم نبيه وأظهر دينه على الدين كله .. وإذا كان واقع الحال يشهد على ذلك، فشهادة القرآن برهان صدق .. والله يقول:{إنا كفيناك المستهزئين} ويقول: {والله يعصمك من الناس} بل يتوعد الله من ينال محمدًا بسوء، ويعتدي عليه بالأذى بالعقوبة واللعن في الدنيا والآخرة ويقول:{إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا} [الأحزاب: 57].

عباد الله وفي مسلسل حلقات السب والشتم والسخرية والاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم دونكم هذه الحادثة فتأملوها، وتاريخها يعود إلى نهاية القرن السابع الهجري وتحديدًا في سنة ثلاث وتسعين وستمائة وعنها قال الحافظ ابن كثير:(واقعة عساف النصراني) وعنها قال ابن كثير كان هذا الرجل من أهل السويداء (مكان من جبل حوران في أرض الشام) قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك وأرسل ليحضره، فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس (عسافًا) حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم - يعني النصراني - فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافًا، ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب فطلب الشيخين (ابن تيمية والقارفي) فضربهما بين يديه ورسم عليهما في العذراوية وقدم النصراني فأسلم، وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز فاتفق قتله قريبًا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخته هلال وصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه

ص: 123

(الصارم المسلول على ساب الرسول)(1).

أرأيتم معاشر المسلمين كيف يحيق المكر السيء بأهله، وكيف ينتقم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكيف يحتسب المسلمون وفي مقدمتهم العلماء على أهل الزيغ والضلال والمستهزئين والساخرين .. إن في ذلك لعبرة.

وإذا انتصر شيخ الإسلام للرسول صلى الله عليه وسلم بتأليف هذا الكتاب العظيم فهل يا ترى يقرأه المسلمون ليعرفوا مقام النبوة، وعظمة الرسول، وكيف يرد عل المستهزئين والمتطاولين .. وهل تؤكد هذه الأحداث المعاصرة ضرورة معرفة حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم والالتزام بها؟

عباد الله وأمر آخر يسر ويفرح ويدعو للفأل وترقب النصر فشدة الهجمة على الإسلام مؤشر إلى قوته والتخوف منه، والتطاول على مقام النبوة والسخرية بالنبي معجل للنصر .. ويحكي شيخ الإسلام عن من سبقه من أهل الفقه والخبرة قولهم: كنا نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر، وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرض تعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيه ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه» (2).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128، 129].

(1)(13/ 318 البداية والنهاية).

(2)

(الصارم المسلول صـ 233، 234).

ص: 124

‌الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للتقوى والغلبة للمتقين، والذل والصغار على المشركين والمنافقين ..

عباد الله والمسلمون لا تزيدهم هذه الحملات الظالمة إلا تمسكًا بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وثباتًا على الحق، وهم إن دافعوا أو ردوا العدوان فهم إنما يدافعون عن أنفسهم ودينهم ويتعبدون بذلك لخالقهم، لإنهم إن تولوا استبدل الله بهم قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم.

نعم إن محمدًا صلى الله عليه وسلم في عصمة الله ويكفيه دفاع الله عنه، ودينه سيظهر على الدين كله - ذلك وعد غير مكذوب.

ولكن ما واجبنا نحن المسلمين تجاه هذه الحملات السافرة؟

حين يسب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصمت إلا أهل الريب ومن في قلوبهم مرض، وخابت أقلام تتوارى حين يكون الدفاع عن الإسلام وعن رسول الإسلام، ولا بارك الله بألسنة تتحدث عن كل شيء إلا عن الإسلام وقضايا المسلمين؟

حين تكون السخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم تشكر وتعجب، وتشكر هذه الغيرة والعاطفة الإيمانية، وتعجب إن كان أصحابها لا يلتزمون بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذواتهم وفي كل حين .. إن الانتصار لمحمد صلى الله عليه وسلم يعني أول ما يعني السير على خطاه والاقتداء بهديه في المظهر والمخبر .. ولا ينبغي أن يكون الانتصار عاطفة تفرغ وكفى .. ألا وإن كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب الاستنكار لهذه الحملة الظالمة حين يسب محمد صلى الله عليه وسلم يجدر بالآباء أن يعلموا أبناءهم وبناتهم ما جهلوا من سيرته وهديه، ويجدر بالمعلمين والمعلمات أن يدعوا الطلبة والطالبات للتعرف أكثر على سيرته والالتزام أقوى بهديه وسنته.

ص: 125

وأعمق من ذلك أن تعمق السيرة النبوية في المناهج الدراسية من المراحل الأولى وحتى الجامعية ويجدر بالخطباء وأصحاب المنابر الإعلامية أن يدافعوا عن نبيهم ويدعو إلى هداه.

حين يسب الرسول صلى الله عليه وسلم يجدر بوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية أن تعنى بهذه السيرة العطرة وأن تعرف أكثر بهذا النبي المختار، وأن تعي مسئولية الكلمة ومسئولية البلاغ.

حين يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم خليق بالهيئات والمنظمات الإسلامية والمجامع والندوات والجمعيات والمؤسسات الإسلامية أن تستنكر وتشجب وتزيد في رسم برامج مستقبلية تعرف بالإسلام ونبيه وتكشف عن زيغ الزائغين وترد على المنتحلين حين يسب الرسول حق على السفارات الإسلامية أن تسحب سفراءها من البلاد التي تجرأت على هذه الجريمة النكراء، وتحية لبلادنا (السعودية) حين سحبت سفيرها من الدانمرك ونأمل أن تحذو الدول العربية والإسلامية حذوها.

حين يسب الرسول خليق بالمسلمين أن يقاطعوا منتجات البلد الساخر ويحاصروهم في اقتصادهم، وخوفهم من انحسار الاقتصاد لم يعد يسرًا وحين يعتدى على جناب النبوة ويسخر بالنبي فخليق بالموسرين أن يطيعوا سيرته بعدة لغات لتصل إلى العالم كله .. فيعرف أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وهديه ورحمته وعظيم رسالته من لم يكن يعرفها من قبل حين يقع السب والاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم حق على أهل العلم والدعوة أن ينشروا سنته ويدعوا إلى أخلاقه وينشروا في العالم رسالته.

حين يسب الرسول ويسخر بالنبي فذلك قمة التطرف ودعوة للصدام، وانهيار للقيم وحين يصدر ذلك من دول تدعي الحرية وتتشبث بالديمقراطية فذلك متاجرة بحرية الرأي وامتهان لمسئولية الكلمة وأسلوب للإقصاء، ونموذج

ص: 126

للتعصب، وتعبير عن عدم الاعتبار للآخرين ..

إنه الإفلاس في القيم، والشعور بخطر الآخر، واستهلاك للقوة في غير مكانها .. وهكذا ..

إننا نستطيع أهل الإسلام أن نحول هذه الأزمة إلى فرصة وهذه المحنة إلى منحة .. إن نحن تعاملنا مع الحدث بوعي وإيجابية وعمق ومتابعة وإرادة فاعله وتخطيط.

إن هذه النوازل فرصة لجمع كلمة المسلمين وتوحد صفوفهم، فالعدو يحاصرهم في أعلى ما يملكون، ويشهر سلاحهم عليهم في وضح النهار!

وهذه النوازل موقظات للأمة لتستفيق من رقدتها فيعود الشاردون ويستغفر المذنبون، ويستيقظ النائمون على ضربات الأعداء المتتالية .. وماذا بعد سب الرسول وتدنيس القرآن، والسخرية بالإسلام، والاستهانة بالمسلمين؟

إن أمتنا ولود .. وديننا يأبى الذوبان، وشريعتنا رحمة للعالمين، والعالم على شفا جرف هار ولا منقذ إلا وحي السماء .. ولا يؤتمن على الحضارة إلا من يستمسكون بهدي المرسلين لقد خلف تخلف المسلمين عن الريادة .. أن عم الكون الظلم والظلمات وانتشر الباطل وكثر المبطلون وشكى الحجر والشجر .. فضلاً عن بني الإنسان فأين المسلمون؟ دماءً تنزف هنا وهناك، وجراحات تتكرر، هتك للحجب، وعدوان على الأنفس والأموال، ضحايا بريئة، وحصار ظالم، وتهم تكال وإرجاف في الأرض .. وليس بعد الظلمة إلا النور .. ولا بديل للشقاء والنكد إلا السعادة والأمن، والإسلام هو الحل وعلى المسلمين أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم، والنصر قادم .. والفرج آذف .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ص: 127

‌الخيانة بئست البطانة/ أنواع، نماذج، آثار

(1)

‌الخطبة الأولى

الحمد لله أمر بالعدل والتقوى، ونهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله يحب التوابين والمتطهرين والمقسطين وأعلى مكانة الصادقين، وذم الخونة والكاذبين فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الصادقين وإمام المتقين، وتعوذ من الخيانة فقال:«وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» (2) اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

إخوة الإسلام: خلق ذميم، وظاهرة تستشري وتتجدد بين القديم والحديث، مضعفة للقوى، محطمة للآمال تسقط العروش، وتهدم البيوت، وتسرع بزوال الدول والأمم تلكم هي الخيانة وبئست البطانة.

كم تعيش الأمم من غصص الخيانة، وكم بليت المجتمعات بهذا الداء النكد، وكم نحن بحاجة إلى فهم قبح الخيانة وآثارها على الفرد والمجتمع، وكم نحن بحاجة إلى التذكير بنماذج مرة للخيانة، وما أحوجنا إلى فضح الخونة والحذر من أساليب وأنماط الخيانة، وحاجتنا أشد إلى الأمناء المخلصين.

إننا - معاشر المسلمين - أمة قامت شريعتها على أساس من الصدق والنصح والعدل والصراحة والوضوح وسطر ساستها وقادتها نماذج عالية في حمل

(1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 7/ 1425 هـ.

(2)

(صحيح سنن أبي داود 8/ 263)

ص: 128

الأمانة، ورفض الخيانة، لا تغريهم الدنيا، ولا يبيعون أمتهم وشعوبهم بأبخس الإيمان ..

وحين وجد في الأمة المسلمة خونة مارقون وجد الأعداء فرصتهم للتسلل، فضاعت الديار، وانتهكت القيم، واستبيحت الأعراض، وكان حال الأمة من التشرزم والضياع بحال لا تحسد عليه.

إن الخيانة أنماط وأنواع كثيرة، ولكنها جميعًا مرة الثمرة، وخيمة العاقبة، بالغة الأثر.

هناك خيانة لله، وخيانة للرسول، وخيانة للأمانات، وثمة خيانة زوجية، وخيانة للصديق والحميم، هناك خيانة في العمل، وخيانة في التعامل، وهناك خائنة الأعين، وخائنة الضمائر، وثمة خيانات في السياسة والاقتصاد، والإعلام والتعليم ونحوها.

إنها مسئوليات جسيمة، ومواقع، ومحطات مهمة، والخيانة في أي منها، خيانة للفرد والمجتمع والدولة والأمة.

الخيانة شبح مخيف، وداء عضال، ومرض يسري، إنها غياب في الوازع الديني، واغتيال بشع للمروءة والأخلاق، أنانية ممقوتة، ومؤشر للحقد، ودليل على اللؤم، لا يقدم عليها أكابر الرجال، ولا يرتضيها، أصحاب الشهامة والكرامة.

وهاكم نموذجين في القديم والحديث ضاعت بسبب الخيانة فيهما بلاد المسلمين وتسلط الأعداء عليهم واستباحوا حماهم، وتطاولوا على قيمهم وإسلامهم.

والنموذجان كلاهما في بلاد الرافدين، وفي بغداد على وجه التحديد، سقطت الخلافة العباسية نتيجة مؤامرة لئيمة وخيانة الوزير الرافضي ابن العلقمي وذلك حينما كاتب التتر وطمعهم في دخول بلاد المسلمين، وأضعف جيش الخلافة، وغرر بالخليفة - حين رضيه مستشارًا ووزيرًا، فكانت الكارثة، وكانت

ص: 129

خيانة ابن العلقمي ركنًا أساسيًا فيها حتى قال الصفدي عنه: «سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد» (1).

وابن العلقمي الرافضي هو الذي حفر للأمة قليبًا فأوقع فيه قريبًا - كما قال الذهبي (2).

ألا ما أعظم خطب الأمة حين يستوزر المنافقون، ويستنصح الخونة ويستشار المفسدون، وفي التاريخ دروس لمن عقل يقول الذهبي: استوزر (الخليفة) المستعصم ابن العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل، وحسن له جمع الأموال وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم (3).

وقال ابن كثير عنه: «إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرض الطريقة» (4).

وقال أيضًا: «إنه كان وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين» (5).

إخوة الإسلام ويعيد التاريخ نفسه، وتتكرر مشاهد الخيانة عبر القرون - حين يتصدر القيادة الخونة، وينحى أهل العدالة والأمانة.

وفي بغداد (المعاصرة) يتكرر مشهد الخيانة، وتسقط بغداد فجأة بأيدي الغزاة الأمريكان، وكان يوم التاسع من إبريل عام 2003 م يوم صمت وحيرة وتساءل كيف سقطت بغداد بأيدي الاحتلال بهذه السرعة المذهلة ودون مقاومة؟

ثم جاءت تصريحات القادة الأمريكان لغزو العراق لنحل هذا اللغز المحير، وتجيب على هذا السؤال الملح .. كيف سقطت ولماذا استسلمت بغداد؟

(1)(الوافي بالوفيات 1/ 184).

(2)

(سير أعلام النبلاء 23/ 362).

(3)

(السير 23/ 175).

(4)

(البداية والنهاية 13/ 157).

(5)

(السابق 13/ 201).

ص: 130

وحملت الإجابة خيانة بعض القادة العسكريين في العراق، وصرح قائد الحملة العسكرية على العراق (تومي فرانكس) لوكالات الأنباء ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/ 5/ 2003 م قوله: إن عددًا من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا (رشاوى) من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب (1).

وجاء في صحفية (الاند بند نت) البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية: إن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ (كروز) .. وقال: إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء، وقال: إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية (2).

معاشر المسلمين كم يعاني شعب العراق اليوم من آثار هذه النكبة المروعة، بل وكم تعاني الأمة من ويلات الاحتلال في العراق .. والذي كان من أبرز أسبابه الخيانة.

أرأيتم كيف تخذل الأمة من أبنائها .. كم بليت أمتنا بمثل هذه النوعية التي باعت ضمائرها قبل أن تبيع بلادها وتخلت عن كرامتها قبل أن تسلم بلادها وشعوبها للمستعمرين إنها الخيانة مرض فتاك .. وإنهم الخونة نقطة مظلمة في تاريخ الأمة المشرق، مهما كانت دعواهم في (الوطنية) و (الصمود) وخابوا وخسروا حين يرشون بلعاعة من الدنيا وقد يقضى عليهم قبل الاستمتاع بها، وقد يقعون في القليب التي حفروها .. فهل من مدكر؟

(1)(انظر: مجلة البيان عدد جمادى الأول عام 1425 هـ/ فلنحذر الخيانة .. )

(2)

(مجلة البيان/ جمادى الأولى عام 1425 هـ المقال السابق).

ص: 131

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].

أيها المسلمون وكما يوجد في تاريخنا نقاط مظلمة وخونة مفسدون يوجد كذلك نقاط مضيئة ومشرقة، ورجال مخلصون أوفياء لأمتهم وبلادهم وإذا كان التاريخ المعاصر يحفظ للسلطان العثماني/ عبد الحميد رحمه الله وقفته الشجاعة في وجه الصهاينة اليهود الذين راودوه عن التنازل عن جزء من فلسطين مقابل دعم مادي مغر له شخصيًا وللدولة العثمانية عمومًا، بلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينته الخاصة، ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة عام، على أن يسمح لليهود ببعض الامتيازات في فلسطين.

وما أن أتم المفاوض اليهودي (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فاعتذر بعدم علمه، ثم التفت السلطان إلى اليهودي قائلاً:«اخرج من وجهي يا سافل» .

فالتاريخ يحفظ كذلك تكرر هذه المحاولات من اليهود، ويحفظ المواقف البطولية والكلمات الصادقة للسلطان عبد الحميد، ومن كلامه قوله: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبقع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي.

ومما قاله كذلك: إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعيًا، فقد خدمت الأمة الإسلامية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين .. وحين خلع رحمه الله قال: الحمد لله أنني لم أقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة في فلسطين (مجلة البيان/ العدد السابق) كم تحتاج أمتنا إلى مثل هؤلاء.

ص: 132

‌الخطبة الثانية

أيها المؤمنون ..

1 -

المعصية خيانة ومنه قوله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} [البقرة: 187]. أي تخونونها بالمعصية (ابن قتيبة) تأويل مشكل القرآن (478).

2 -

ونقض العهد خيانة {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].

3 -

والمخالفة في الدين خيانة {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} [التحريم: 10].

4 -

والزنا خيانة: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52](1).

5 -

والكذب في المشورة خيانة، وفي الحديث:«ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه» والخيانة نفاق وهي من علامات المنافقين «وإذا ائتمن خان» (1)، وهي من أخلاق اليهود {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَاّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} [المائدة: 13].

وهي كبيرة من الكبائر .. تعظم أو تصغر بحسب نوع الخيانة.

ألا فاحذروا الخيانة يا عباد الله .. بكل أشكالها وألوانها.

(1)(نضرة النعيم/ 10/ 4483).

(2)

رواه أحمد 2/ 321 (8286) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3105).

ص: 133

فأهل النار خمسة كما في حديث مسلم (1) وأحدهم «الخائن الذي لا يخفى له طمع (أي لا يظهر) وإن دق إلا خانه

».

وظهور الخيانة وتولية الخونة من أمارات الساعة قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين .. » (2).

لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (3).

يا أيها البائع احذر الخيانة في البيع والشراء بتحسين القبيح أو بالكذب والنجش ففي الحديث قال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: الناجش آكل ربًا خائن (4).

وآكل الربا وموكله محارب لله ولرسوله، وخائن لنفسه ولمجتمعه.

يا أيها العامل في أي مهنة إياك والخيانة في عملك، وكم هو ظلم ولؤم أن تخون من ائتمنك، ومهما غاب عنك الرقيب فاعلم أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، إن من السوء الخيانة في الهندسة والمعمار، وأسوأ منه الخيانة في الطب.

يا أيها الموظف احذر الخيانة في وظيفتك سواء كان ذلك بنقص ساعات العمل أو عدم قضاء حوائج الناس، أو تعاطي الرشوة وذاك أعظم.

يا أيها المعلم أنت مؤتمن على التربية والتعليم فإياك إياك أن تخون الأمانة أو تقصر في عطائك فتتخرج على يديك أجيال ضعيفة في العلم، قاصرة في التربية ..

(1)(2865).

(2)

(رواه أحمد (2/ 162، 163)، وصححه شاكر والحاكم وصححه ووافقه الذهبي/ المستدرك 4/ 512).

(3)

(رواه أحمد وصححه شاكر (6698).

(4)

(البخاري - الفتح 5/ 2675).

ص: 134

يا أيها المدير والمسئول اتق الله فيما ائتمنت عليه، وإياك أن تجعل من الإدارة والمسئولية سلمًا لتحقيق أهدافك الشخصية وطموحاتك الخاصة .. كن نموذجًا في الأمانة والعدل والصدق .. وسوف تسأل عن هذه المسئولية.

أيها الآباء والأمهات أولادكم أمانة في أعناقكم فالله الله في هذه الأمانة تربية وإعدادًا ومتابعة.

أيها المسلمون جميعًا والسمع والبصر والفؤاد أمانات عندكم فاحفظوها في حدود ما أحل الله وإياكم والخيانة بالنظر أو الاستماع للحرام أو أن تنطوي القلوب على الغل والحسد .. فذلك خيانة فاحذروها ..

عباد الله فتشوا عن أحوالكم وانظروا في الأمانات التي أودعتموها وساءلوا أنفسكم هل حفظتم الأمانة؟ وهل وقعتم في شيء من الخيانة؟ فالخيانة أسوأ ما يبطن الإنسان.

إن انتشار الخيانة في المجتمع من علامات اضمحلاله، ونكده، وتفرق كلمة أبنائه .. والخيانة جسر يعبر عليه أعداء الأمة ليذهبوا ريحها لنحارب - جميعًا - الغش والخيانة والكذب والنفاق، والغل والحسد .. حتى يعود لمجتمعنا صفاؤه، ولأمتنا مجدها وعزها ولنضيق الخناق على الغادرين والماكرين والخائنين، فأولئك لا مقام لهم في المجتمع النظيف .. والمواطنة الصالحة ..

يا مسلم يا عبد الله أيًا كان موقعك ومهما كانت مسئوليتك أنت على ثغر من ثغور الإسلام فالله الله في حفظه وإياك والخيانة في أداء الواجب، واعلم أن الحيل والمبررات لا تخرج الخيانة عن حقيقتها، ولا تلبسها المشروعية تسميتها بغير اسمها.

أمتنا اليوم تستشعر غزو الأعداء لها، وتدرك ما يخطط لها وهي أحوج ما تكون إلى رجال أوفياء صادقين مؤتمنين، لا يفكرون في مصالحهم الشخصية،

ص: 135

بل يضعون نصب أعينهم المستقبل المشرق ويضعون لبناته الأولى ..

كفانا من ذل الهزيمة ما دهانا .. وكفانا من نماذج الخيانة ما أضعف قوانا، لقد شمت بنا أعداؤنا، وسلطوا بعضنا على بعض إن الخيانة طريق موصل إلى العار في الدنيا والنار في الآخرة .. وإن الأمانة والصدق عز وكرامة في الدنيا، وسعادة ونعيم في الآخرة.

اللهم إنا نعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة، ونسألك الصدق في أقوالنا وأفعالنا .. اللهم جنب أمتنا الشرور والفتن واحفظها من الخونة والمفسدين ..

ص: 136

‌معنيات الطاعة

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..

إخوة الإسلام قضى ربنا ألا يعبد إلا هو {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وحكم أن الدين الحق هو الإسلام {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .

وما من أحد إلا وهو متخذ إلهًا حقًا كان أم باطلاً، فالمسلمون يتخذون من الإله الحق معبودًا لهم يعظمونه ويطيعونه ويتوكلون عليه وينيبون إليه {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} وغير المسلمين يعظمون آلهة ما أنزل الله بها من سلطان {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير} [الحج: 71].

تتعدد الآلهة عند هؤلاء ويتعدد الشركاء .. وكلهم يشرعون ما لم يأذن به الله، والذين يتخذون أهواءهم آلهة من دون الله فأولئك ختم على قلوبهم وأسماعهم وجعل على أبصارهم غشاوة .. وإن خيل للناس أنهم يبصرون، وهم مرضى قلوب وإن كانوا أصحاء الأجساد {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].

عباد الله الحديث هنا ليس حديثًا عن الكافرين وضلالهم وعاقبتهم وجزائهم، ولكنه حديث موجه للمسلمين الذين يعترفون بالعبودية لله رب العالمين، والذين

(1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 1/ 1427 هـ، وأعيدت في 8/ 10/ 1431 هـ

ص: 137

يدركون قيمة الحياة والهدف من الوجود، وهو باختصار مجمل في قوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وفي قوله تعالى {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} وليس الحديث كذلك عن معنى العبادة وتفصيلاتها .. ولكنه حديث عن الأمور التي تعين العبد على العبادة والطاعة فما هي الأمور المعنية للمسلم على العبادة - والحديث عن هذا يطيب في كل زمان .. ولكن الحاجة تشتد إليه كلما اشتدت الأحوال وتعاظمت الفتن، وكثر التفلت من الدين، واستسلم الناس للأهواء، وانقادوا للشهوات، وضعفت العبادة:

1 -

الاستعانة بالله .. فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله، وصلاح العبد في ركونه إلى الله، واعتماده عليه وطلب العون منه، وهلاكه وفساد حاله في الاستعانة بما سواه ومن أعانة الله فهو العبد الموفق، ومن خذله الله وأهانه فما له من ناصر أو مكرم.

ألا وإنه جدير بمن يقف بين يدي الله مصليًا أن يتذكر معنى ما يقوله في كل ركعة {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول ابن رجب رحمه الله «فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .. ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخزولاً» (1).

أخي المسلم هل تعلم أن الدين نصفه استعانة، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:«التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة» (2).

(1)(جامع العلوم والحكم 192، 193 عن مجلة البيان، مقال فيصل البغدادي/ رمضان 1426 هـ)

(2)

(مدارج السالكين 2/ 113).

ص: 138

2 -

مجاهدة النفس .. فالنفس صعبة المراس، وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وهي أميل إلى العاجلة منها للآجلة .. ولذا يعين في التعبد مجاهدتها ومخالفتها ابتغاء نجاتها وطيب حياتها يقول ربنا تبارك وتعالى:{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} ويقول ابن الجوزي رحمه الله: النفس مجبولة على حب الهوى فافتقرت لذلك إلى المجاهدة، والمخالفة ومتى لم تزجر عن الهوى، هجم عليها الفكر في طلب ما شغفت به فاستأنست بالآراء الفاسدة، والأطماع الكاذبة والأماني العجيبة، خصوصًا إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون، وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب» (1) المجاهدة أمر رفيع القدر عالي المنزلة، قد تضعف أمامه صغار النفوس، ولا تعجز عنه نفوس الكبار، أرشد إلى المجاهدة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم واعتبره في طليعة الجهاد فقال:«المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» (2) واعتبر ابن عبد البر أن مجاهدة النفس أفضل من مجاهدة العدو (3).

على أن مما ينبغي أن تعلم أن مجاهدة النفس وسط بين الإفراط والتفريط، فمن أرخى العنان لنفسه أهلكته، ومن ألجمها حتى عن المباحات والطيبات أضعف سيرها وقصر في واجبها، قال العالمون أعجب الأشياء مجاهدة النفس لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقوامًا بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها ..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .

3 -

ومما يعين على التعبد تنويع الطاعات والترويح بين العبادات، حتى لا تمل النفس وتكل وحتى يكون للعبد أسهم متعددة في الخير، وطرق كثيرة

(1)(ذم الهوى/ 36)

(2)

رواه أحمد (23997، وابن حبان (4624) وصحح الأرناؤوط سنده)

(3)

(الاستذكار 8/ 287).

ص: 139

للجنة .. بين صلاة وصيام، وذكر وتلاوة قرآن، ودعوة للخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإحسان للخلق، وصدقات وصلات، وأخلاق فاضلة وظنون حسنة، وأدب وتربية .. إلى غير ذلك من أنواع القربات .. وحبذا لو حاسب العبد نفسه كل حين يوم أو كل أسبوع أو كل شهر عن أنواع الطاعات التي مارسها وتقرب إلى خالقه بها، حتى يكتشف نفسه فإن وجد خيرًا حمد الله وزاد، وإن وجد خللاً أو تقصيرًا سدد الخلل واستغفر وأناب.

4 -

ومع تنويع الطاعات فثمة معين آخر لا يكلف النفس إلا استحضار النية ألا وهو توسيع دائرة التقرب فمهما اجتهد المرء في العبادات المحضة فإنها تبقى معدودة، وقدرته عليها محدودة .. ولذا فتح الرحمن على عباده الموفقين للخير أمورًا تمكنهم من خلالها توسيع دائرة تقربهم ومن ذلك: أ- احتساب الأجر في الأمور المباحة .. والتي قد يراها الإنسان أمورًا عادية أو واجبة عليهم، كالنفقة على الأهل فهي مع الاحتساب قربة لله وطاعة قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» (1). فهل نحتسب النفقة على أهلينا وأولادنا في عداد الصدقات .. دون أن يكون لذلك أثر على الصدقات الأخرى؟ ومثل ذلك يقال في احتساب الأجر في العمل الوظيفي والتعليمي والبيع والشراء وسائر المباحات فقد يتحول من عادة إلى عبادة ومن مجرد واجب يؤدي إلى دعوة للخير يثاب فاعلها.

ب- ومن ذلك كذلك الهم بنية الخير وإن لم يعمل المرء لعارض أو سبب .. فذلك مؤشر على طيب النفس وحب الخير، ومنهج لنشر الخير ومحاصرة الشر، وربنا يحاسب على الخردل والقطمير، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب

(1) رواه البخاري (5351)

ص: 140

الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشرة حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة» (1). ومن وصايا الإمام أحمد لابنه:«يا بني انو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير» ألا أنها دعوة لاستحضار نية الخير دائمًا، والتفكير في إرساء دعائم الحق ونصرة الحق، والدعوة للهدى والبعد عن الشر ومهالك الردى، ومن لم يعمل الخير فلا أقل من أن يتمنى فعله، ومن لم يكن من الأخيار فلا أقل من محبتهم. إنه تدريب للنفوس وحض لها على الخير.

جـ- ومن ذلك إرادة أكثر من قربة بالعمل الواحد، إذ من الممكن عمل أكثر من طاعة في جهد واحد - وذلك لا يحتاج إلا إلى احتساب نية الأجر المتعددة كمن ينوي بمكثه في المسجد انتظار الصلاة، والاعتكاف، وكثرة الذكر، وينوي بأكل الطعام الحلال البعد عن الحرام، والتقوي على الطاعة، وشكر المنعم، وهكذا ..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].

(1)(رواه البخاري 6491).

ص: 141

‌الخطبة الثانية

الحمد لله يمن على من يشاء بطاعته، والموفق من أعانه ربه على ذكره وشكره وحسن عبادته وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه كان نموذجًا للمسارعة في كل قربة، وقال وقدماه تتفطر من القيام:«أفلا أكون عبدًا شكورًا» وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.

أيها المسلمون ..

5 -

ويعين على التعبد الرفقة الصالحة فهم خير عون لصاحبهم على الخير إن رأوا معروفًا شجعوا وشاركوا، وإن رأوا منكرًا نهوا واعتزلوا، يشجعون صاحبهم على الطاعات وينهونه عن المحرمات .. إن الصاحب ساحب وقرين بين من يسحب للخير ومن يسحب للشر، وكل قرين بالمقارن يقتدي، ومن مشكاة النبوة فالجليس الصالح كحامل المسك، إما أن تبتاع منه أو يحذيك رائحة حسنة، والجليس السوء كنافخ الكير فإما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا منتنة .. وكم تفوح روائح المسك من رفقاء الخير، وكم يحرق الدين فضلاً عن الثياب رفيق السوء .. ألا فاختاروا رفقاءكم .. وفي الحكمة قل لي من رفيقك أقل لك من أنت .. ذلك على مستوى الشباب والكبار والرجال والنساء .. وإن كان الأثر أعظم مع الشباب وفي مجتمع النساء.

ألا وإن الرفقة المتحابين في الله على غير أرحام، بينهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء وهم ليسوا كذلك لكنهم اجتمعوا في ذات الله وتحابوا في الله، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أولئك يكسبون إذا خسر الناس ويأنسون حين يلتقون في الجنة في حين يلعن الأشرار بعضهم بعضًا، قد تنقلب

ص: 142

الصداقة إلى عداوة {الأَخِلَاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِينَ} ألا يا من كنت غارقًا في المحرمات .. ضعيفًا في أداء الواجبات بسبب رفقة سيئة مسارع بالخلاص منهم، واستعض عنهم رفقة صالحة .. فإن الصحيح تناله عدوى الأجرب.

6 -

ومن المعينات على العبادة استشعار قصير الأمل، وصوارف الزمان، والخوف من مهلكات الفتن، فالسليم في هذه الحياة يمرض، والقوي يضعف، والشباب يهرم، وأحداث الزمان المفاجئة قد تأخذ الإنسان على حين غفلة، والإنسان معرض للفتن صباح مساء، والعبادة في أوقات الفتن كهجره إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحث على الطاعة مستديم ولكن المبادرة بالأعمال الصالحة في أزمان الفتن، وصية الذي لا ينطق عن الهوى «بادروا بالأعمال فتنًا لقطع الليل المظلم» تذكروا هادم اللذات (الموت) يحفزكم على الطاعة والاستعداد للرحيل، زوروا المقابر بأجسادكم وزوروا الآخرة بقلوبكم، وتصوروا هول الموقف بعقولكم، وتفكروا فيمن رحل قديمًا أو حديثًا من أقاربكم أو أصدقائكم، ثم اعلموا أن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون.

7 -

عباد الله .. والدعاء لله والتضرع بين يديه معين على العبادة، والدعاء نفسه عبادة لله، كيف لا والله يقول:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} لقد عمد الصالحون وفي مقدمتهم الأنبياء إلى الدعاء وقالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}

ص: 143

وقالوا: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} وأوحي إليهم مما قالوا: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعني على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك» ، «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك» ألا فألح على ربك يا عبد الله بحسن العبادة والمداومة عليها وقبولها .. فمهما اجتهدت بلا توفيق من الله وتسديد وقبول فجهدك ضعيف، والقبول هو الأساس وهو علامة التقوى {إنما يتقبل الله من المتقين} .

8 -

وبالجملة فصحة الإيمان والخوف من الجليل والزهد في الدنيا، والشوق للآخرة .. كل أولئك تغذو السير، وتعين على العبادة، وتقلل الطمع في الدنيا وتضعف الانشغال بها ..

أجل إن التفرغ للعبادة لا ينقص من الرزق، وأن الشره في طلب الدنيا لا يمنع الفقر - ذلك واقع مشهود، أما الحديث القدسي فقد جاء فيه:«ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك» (1).

9 -

أيها المسلم الحريص على وقته والراغب في كثرة ثواب ربه، تنبه لفضائل الأعمال وفضائل الزمان، والمكان فليكن لك منها نصيب، وتحين حضور القلب فانكسر فيه بين يدي الله، وأعط نفسك حظها من الجد في طاعة تميل إليها، وجاهدها فيما تكره حتى تستمرئها - وإياك واليأس والقنوط والإحباط فتلك قواتل تمنع السير إلى الله، واعلم أنك تقبل على رب عظيم يفرح بالتوبة ويضاعف الحسنة، وهو الرحيم اللطيف الخبير.

(1) رواه الترمذي وحسنه (إذا صح الإيمان/ السلومي/ 30).

ص: 144

وإذا ضعفت في زمان فعوض عنه في زمان آخر، وإذا فاتك الخير في ساعة فلا يفتك في ساعة أخرى وإذا مسك الشيطان في حين ضعف فتذكر واستعذ بالله منه ولا تستسلم لإغرائه وإغوائه ذلك ذكرى للذاكرين، ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها .. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ص: 145

‌تميم الداري وخبر الدجال والمبشرات

(1)

‌الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..

أبو رقية تميم بن أوس الداري .. ماذا نعرف عنه، وما صلته بأحاديث الفتن والدجال؟ وما المبشرات التي حفظها تميم عن الرسول؟ وأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان نصرانيًا فأسلم، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع في المدينة هو وأخوه (نعيم) فأسلما وأقطعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من أرض الشام، وتحديدًا من أرض فلسطين .. وهي بلدهما، فقد ورد أن تميمًا لما أسلم قال يا رسول الله: إن الله مظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتي من (بيت لحم) قال: هي لك، وكتب له بها (2).

وفي رواية ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع تميمًا وأخاه (نعيمًا) حِبرى، وبيت عينون بالشام، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيعة بالشام وغيرها (3).

صحب تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا معه، ولم يزل بالمدينة حتى تحول إلى الشام بعد قتل عثمان رضي الله عنه (4).

كان تميم عابدًا تلاء لكتاب الله، قال أبو نعيم: كان راهب عصره وعابد أهل فلسطين (الإصابة: 2/ 305)، وكان رابع أربعة ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن ابن سيرين بسند رجاله ثقات قال: جمع القرآن على عهد

(1) ألقيت هذه الخطبة في 14/ 11/ 1426 هـ.

(2)

(سير أعلام النبلاء 2/ 443).

(3)

(الطبقات 7/ 408).

(4)

(الطبقات 7/ 409).

ص: 146

رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي، وعثمان، وزيد، وتميم الداري (1) وبالإسناد الصحيح أيضًا أن تميمًا كان يختم القرآن في سبعٍ (2). بل روي أنه يختم القرآن في ركعة (3).

وصح أنه قام ليلة حتى أصبح أو كاد يقرأ آية ويرددها ويبكي {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21](4).

كان الناس يسألون تميمًا عن عبادته .. ولاسيما عن حزبه من القرآن وقيامه في الليل، فيرشدهم إلى الاعتدال والمداومة والاستقامة على قدر الطاقة .. ويحذر من الحماس والانقطاع والانبتات .. ودونكم هذه المحاورة بينه وبين رجل آتاه فقال: كم جزؤك، قال له تميم: لعلك من الذين يقرأ أحدهم القرآن، ثم يصبح فيقول: قد قرأت القرآن في هذه الليلة، فوالذي نفسي بيده لأن أصلي ثلاث ركعات نافلة أحب إلي من أن أقرأ القرآن في ليلة، ثم أصبح فأخبر به، قال الرجل (السائل): فلما أغضبني قلت: والله إنكم معاشر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقي منكم لجدير أن تسكتوا، فلا تعلموا وأن تعنفوا من سألكم، فلما رآني قد غضبت، لان، وقال: ألا أحدثك يا ابن أخي؟ أرأيت إن كنت أنا مؤمنًا قويًا وأنت مؤمن ضعيف، فتحمل قوتي على ضعفك فلا تستطيع فتنبت، أو أرأيت إن كنت أنت مؤمنًا قويًا، وأنا مؤمن ضعيف حين أحمل قوتك على ضعفي فلا أستطيع فأنبت ولكن خذ من نفسك لدينك ومن دينك لنفسك حتى يستقيم لك الأمر على عبادة تطيقها (5).

تميم الداري رضي الله عنه معدود في علماء أهل الكتاب حتى قال قتادة: {ومن عنده

(1)(الطبقات 2/ 355، السير 2/ 445).

(2)

(السير 2/ 445).

(3)

(السابق 2/ 445).

(4)

(رجاله ثقات كما أخرجه الطبراني، انظر السير 2/ 445).

(5)

(السير 2/ 446).

ص: 147

علم الكتاب} [الرعد: 45] قال: سلمان، وابن سلام، وتميم الداري (1).

وعلق ابن كثير بقوله: والصحيح أنها اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة (12/ 521).

وتميم الداري هو الذي حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الجساسة والدجال على المنبر - وعد ذلك من مناقبه كما قال ابن حجر (2).

فما هي قصة الجساسة؟ وما علاقتها بالدجال؟ وكيف حدث بها تميم؟ وكيف حدث بها النبي صلى الله عليه وسلم؟

روى مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وهي من المهاجرات الأول، قالت.

فهر قريش وهو من البطن الذي هي منه فانتقلت إليه. فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي، منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينادي: الصلاة جامعة (3). فخرجت إلى المسجد. فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك. فقال:«ليلزم كل إنسان مصلاه» . ثم قال: «أتدرون لم جمعتكم؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إني، والله! ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة. ولكن جمعتكم؛ لأن تميمًا الداري (4)، كان رجلاً نصرانيًا، فجاء فبايع وأسلم. وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني؛ أنه ركب في سفينة بحرية، مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام. فلعب بهم الموج

(1)(ابن جرير 13/ 177).

(2)

(الإصابة 2/ 305).

(3)

(الصلاة جامعة) هو بنصب الصلاة وجامعة. الأول على الإغراء والثاني على الحال.

(4)

(لأن تميمًا الداري) هذا معدود من مناقب تميم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه هذه القصة، وفيه رواية الفاضل عن المفضول، ورواية المتبوع عن تابعه. وفيه رواية خبر الواحد.

ص: 148

شهرًا في البحر. ثم أرفؤا إلى جزيرة (1) في البحر حتى مغرب الشمس. فجلسوا في أقرب السفينة (2). فدخلوا الجزيرة. فلقيتهم دابة أهلب (3) كثير الشعر. لا يدرون ما قبله من دبره. من كثرة الشعر. فقالوا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم! انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير.

فإنه إلى خبركم بالأشواق (4). قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها (5) أن تكون شيطانة. قال فانطلقنا سراعًا. حتى دخلنا الدير. فإذا فيه أعظم إنسان (6) رأيناه قط خلقًا. وأشده وثاقًا. مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه، بالحديد (7). قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري. فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب. ركبنا في سفينة بحرية. فصادفنا البحر حين اغتلم (8). فلعب بنا الموج شهرًا. ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه. فجلسنا في أقربها. فدخلنا الجزيرة. فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر. لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قلنا: وما

(1)(ثم أرفؤا إلى جزيرة) أي التجأوا إليها، قال في اللسان: أرفأت السفينة، إذا أدنيتها إلى الجدة. والجدة وجه الأرض، أي الشط.

(2)

(فجلسوا في اقرب السفينة) الأقرب جمع قارب، على غير قياس، والقياس قوارب. وهي سفينة صغيرة تكون مع الكبيرة كالجنيبة، يتصرف فيها ركاب السفينة لقضاء حوائجهم. وقيل: أقرب السفينة أدانيها، أي ما قارب إلى الأرض منها.

(3)

(أهلب) الأهلب غليظ الشعر، كثيره.

(4)

(فإنه إلى خبركم بالأشواق) أي شديد الأشواق إليه، أي إلى خبركم.

(5)

(فرقنا منها) أي خفنا.

(6)

(أعظم إنسان) أي أكبره جثة. أو أهيب هيئة.

(7)

(بالحديد) الباء متعلق بمجموعة. (وما بين ركبتيه إلى كعبيه) بدل اشتمال من يداه.

(8)

(اغتلم) أي هاج وجاوز حده المعتاد.

ص: 149

الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير. فإنه إلى خبركم بالأشواق. فأقبلنا إليك سراعًا. وفزعنا منها. ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بيسان (1). قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ قلنا له: نعم. قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية (2). قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر (3). قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم. هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها.

قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه. وإني مخبركم عني. إني أنا المسيح. وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج. فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة. غير مكة وطيبة (4). فهما محرمتان علي. كلتاهما. كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدًا منهما، استقبلني ملك بيده السلف صلتًا (5). يصدني عنها. وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر «هذه طيبة. هذه طيبة. هذه طيبة» يعني المدينة «ألا هل كنت حدثتكم

(1)(نخل بيسان) هي قرية بالشام.

(2)

(بحيرة الطبرية) هي بحر صغير معروف بالشام.

(3)

(عين زغر) هي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام.

(4)

(طيبة) هي المدينة. ويقال لها أيضًا: طابة.

(5)

(صلتًا) بفتح الصاد وضمها. أي مسلولاً.

ص: 150

(1)(ما هو) قال القاضي: لفظة ما هو زائدة. صلة للكلام. ليست بنافية. والمراد إثبات أنه في جهة الشرق.

ص: 151

‌الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وهو أهلٌ للثناء والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

إخوة الإسلام:

تذكر كتب الطبقات والسير لتميم الداري رضي الله عنه موقفًا مع عمر رضي الله عنه، قال عنه ابن حجر: روى البغوي في الصحابة لتميم قصة مع عمر فيها كرامة واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عمر له (1).

والقصة ساقها البغوي، والذهبي، وابن حجر، عن معاوية بن حرمل الحنفي، صهر مسيلمة الكذاب، وكان معه في الردة، قال: قدمت المدينة على عمر تائبًا، فقلت: يا أمير المؤمنين تائب من قبل أن تقدر عليه، فقال: من أنت؟ فقلت: معاوية بن حرمل - ختن مسيلمة - قال اذهب فانزل على خير أهل المدينة، قال: فنزلت على تميم الداري، فبينا نحن نتحدث إذ خرجت نار بالحرَّة، فجاء عمر إلى تميم فقال يا تميم اخرج، فقال: ما أنا، ومن أنا - فصغر نفسه - ثم لم يزل به حتى قام معه، وتبعتهما، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها (النار) بيده حتى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها، حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه، ثم اقتحم في إثرها، ثم خرج فلم تضره، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثًا (2). اهـ.

وقال: وابن حرمل لا يُعرف، ولكن ابن حجر عرّف به - كما سبق، وساق

(1)(الإصابة 2/ 305).

(2)

(الذهبي: السير 2/ 447).

ص: 152

القصة في الإصابة ونسبها للبغوي (10/ 35).

توفي تميم رضي الله عنه في بلاد الشام، وقبره ببيت جبرين من بلاد فلسطين (1) سنة أربعين للهجرة (2) وكان أول من قصَّ، فقد استأذن عمر رضي الله عنه سنين في القصص فلم يأذن له - إذ لم يكن يقص في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر فلما أكثر على عمر قال: ما تقول؟ قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشر، قال عمر: ذاك الربح، ثم قال: عِظ قبل أن أخرج للجمعة، فكان يفعل ذلك، فلما كان عثمان استزاده فزاده يومًا آخر (3).

حفظ تميم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث وروى عنه عدد من الصحابة كابن عباس وأنس، والتابعين كعطاء بن يزيد، وشهر بن حوشب وغيرهم (4).

ومن الأحاديث التي رواها: «الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولأئمة المسلمين والمؤمنين وعامتهم» (5)، وعلق الذهبي على هذا الحديث بقوله اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

فتأمل هذه الكلمة وهي قوله «الدين النصيحة» .

فمن لم ينصح لله وللأئمة وللعامة كان ناقص الدين وأنت لو دعيت، يا ناقص الدين لغضبت، فقل لي متى نصحت لهؤلاء؟ كلا والله، بل ليتك تسكت ولا تنطق أو لا تحسن لإمامك الباطل، وتجرئه على الظلم وتغشه فمن أجل ذلك سقطت من عينه ومن أعين المؤمنين، فبالله قل لي: متى يفلح من كان يسره ما يضره؟ ومتى يفلح من لم يراقب مولاه؟ ومتى يفلح من دنا رحيله، وانقرض جيله،

(1)(الإصابة 2/ 305).

(2)

(السير 2/ 448).

(3)

(تهذيب ابن عساكر 3/ 360، عن السير 2/ 448).

(4)

(السير 2/ 443).

(5)

رواه مسلم رقم (55) في الإيمان.

ص: 153

وساء فعله وقيله، فما شاء الله كان، وما يرجو صلاح أهل الزمان، لكن لا ندع الدعاء، لعل الله أن يلطف وأن يصلحنا، آمين (1).

أيها المسلمون وثمة حديث آخر رواه تميم الداري فيه بشرى لعز الإسلام وانتشاره، وسعادة المسلمين وعزهم وذل الكفر وأهله، روى الإمام أحمد وغيره قال تميم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر» وكان تميم الداري يقول: «وقد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية» (2).

(1)(سير أعلام النبلاء 11/ 500).

(2)

رواه أحمد في مسنده 4/ 103 بسند صحيح والحاكم في المستدرك 4/ 430، وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي وصححه الألباني في الصحيحة (3). انظر: رياض الدعاة والمصلحين؟ ؟ عقيل وزملاه صـ 28.

ص: 154