الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى وفي الآخرة وله الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إخوة الإيمان: سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه صحابي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد أهل الطائف، فأسلم، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر يعتصم به فقال: قل ربي الله ثم استقم (2).
والحديث في صحيح مسلم عن سفيان رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال:{قل آمنت بالله فاستقم} (3).
ما أحوجنا إلى هذه الوصية الجامعة في زمن تتلاطم فيه أمواج الفتن، ويضعف الإيمان .. أو تضعف الاستقامة والثبات على الإيمان .. وإذا كانت الحاجة إلى هذه الوصية في زمن النبوة فالحاجة إليها فيما بعد أشد وآكد.
قال القاضي عياض - معلقًا على هذا الحديث - هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي وحدوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك (4).
(1) ألقيت هذه الخطبة في 2/ 4/ 1425 هـ.
(2)
(ابن حجر: الإصابة 4/ 208).
(3)
[مسلم ح (38) 1/ 65].
(4)
(تعليق عبد الباقي على صحيح مسلم 1/ 65).
قال العلماء: الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، وتشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك (1).
واختصرها ابن حجر بالقول: الاستقامة كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلاً وتركًا (2).
وقالوا كذلك في معنى الاستقامة - أنها زائدة في المرتبة على الإقرار بالتوحيد؛ لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه، والعمل بما يستدعيه (3).
إخوة الإسلام نحتاج إلى الاستقامة على دين الله في هذه الحياة؛ لأن ذلك سبيل الاستقامة حياتنا بعد الممات، ومن أراد أن يثبته الله على أهوال يوم القيامة فلا بد أن يتثبت على صراط الله في الدنيا ..
وهنا كلام جميل لابن القيم رحمه الله حيث يقول: من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم .. هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته .. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذلك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك، وما ربك بظلام للعبيد (4).
(1)(جامع العلوم والحكم لابن رجب صـ 193).
(2)
(الفتح 13/ 257 عن نضرة النعيم 2/ 304).
(3)
(نضرة النعيم 2/ 306).
(4)
(التفسير القيم/ 109 بتصرف).
يا أخا الإسلام إذًا أنت مدعو لأن تبصر طريقك وتثبت أقدامك على الحق في هذه الحياة، حتى تثبت على الصراط في الآخرة ولا شك أن دون هذا مجاهدة للنفس وصبرًا على الحق. وترويضًا على سلوك الصراط المستقيم حين تنازعك نفسك، وحين ترى من حولك وعن يمينك وشمالك أقدامًا تزل .. وقلوبًا تفتن، ومغريات تصد .. وشياطين للإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا.
ولا يغب عن بالك - يا أخا الإسلام - أن أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب .. فأصلح قلبك تصلح جوارحك وتطيب أعمالك ..
إن الاستقامة - كما يقول صاحب البصائر (1) - كلمة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والنيات، والاستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله تبارك وتعالى.
والاستقامة كما قال عمر رضي الله عنه: «أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب» (2).
هي إخلاص لله في العبادة، ومجاهدة للنفس على الطاعة وهي فضل من الله وكرامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» (3).
ألا فأبشروا يا أهل الاستقامة فسيدخلكم الله في رحمة منه وفضل ويهديكم
(1)(4/ 312)
(2)
(مدارج السالكين 2/ 109).
(3)
(المدارج 2/ 110) عن نضرة النعيم 2/ 319.
إليه صراطًا مستقيمًا ليس هذا فقط بل ومن آثار الاستقامة وفضلها ألا خوف ولا حزن، بل بشرى وولاية، ولكم ما تشتهون وما تدعون، ذلك وعد غير مكذوب {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32].
الجنة نزلكم والخلود فيها وعد خالقكم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
أو تفتح لكم بركات السماء والأرض {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .. } [الأعراف: 96] وتسقون ماءً غدقًا {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 16، 17].
ويتحقق لهم الأمن في الوقت الذي يتخطف الناس من حولهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
ألا وإن الاستقامة اتباع لنهج المرسلين وما أمروا به {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89]{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] نفعني الله وإياكم بهدي القرآن.