الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
إخوة الإسلام ليس الحديث حصرًا لخلال ابن المبارك أو تعدادًا لمناقبه، فهذا يطول كيف وقد قال أحد الشعراء المعاصرين له. إذا ذكر الأخيار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها.
وقد اجتمع جماعة - من أهل الفضل في زمانه فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب والنحو، واللغة والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو والشجاعة، والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه (1).
ومع هذه الخلال كان لابن المبارك عناية بالأصحاب والإخوان يخدمهم في سفرهم، ويتحمل النفقة عنهم، بل ويهديهم، وهنا ويصلح بيوتهم.
وهنا قصة طريفة ومعبرة ذكرها الخطيب البغدادي وعنه الذهبي في ترجمة ابن المبارك وقال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل (مرو) فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذها فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها، فيقول كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن
(1)(السير 8/ 351، 352).
تشتري لهم من متاع مكة فيقول كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصص بيوتهم وأبوابهم فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه .. وكان ابن المبارك رحمه الله يقول للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم (1).
إنها أخبار وقصص، ومجالات للعظمة وأنواع من القربات يطول شرحها ويصعب حصرها ولكن العبرة من سياقها التأسي وشحذ الهمم والتأكيد على أن وصول المعالي ليس مستحيلاً، وهذه القدوات البشرية سبيل لتطويع القدرات لمحاكاتها هذا جزء من الموقف من سير العظماء، وموقف أو عبرة أخرى تكمن في التأكيد على أن ديننا منبع لكل خير، قادر على التجدد في كل حين، والأمر الثالث المهم - من دراسة هذه السير - هو أن من عرف أن له ماضيًا عظيمًا ورجالاً عظماء فإنه يرجى له أن يعود إلى المجد والسيادة من جديد (2).
إنها نماذج تثبت العزة في النفوس، وتضرب المثل الأمثل للأجيال وتدعو إلى إحسان العمل، والعبد على طريق الكرامة والمجد، وتذلل على مكامن العظمة في هذا الدين، وهذه النماذج تطرد اليأس وتنفي الكسل، وتسلي في سلوك الطريق، إنها لا تدعوا للانبهار المؤدي إلى الإحباط والإسقاط لكنه انبهار يدعوا للعمل والاقتداء دون مبالغة وغلوا وتعظيم للبشر بما لا يحله الشرع، أو بما يخرج هؤلاء عن بشريتهم.
(1)[تاريخ بغداد 10/ 158، سير أعلام النبلاء 8/ 341، 342].
(2)
(د. محمد موسى الشريف: القدوات الكبار بين التحطيم والانهيار/ 19).
وفرق بين هذا الموقف المعتدل وموقف المتطرفين بالغلو في هذه الشخصيات دون عمل .. أو الجفاة الذين دأبوا على محاولة تحطيم هذه القدوات الكبار والشغب عليهم وتقليل جهدهم واستمرار النقد لحياتهم ومناهجهم، لا بغرض الإصلاح بل للشهرة حينًا، أو للتعالم حينًا، أو لهز ثقة الناس بهؤلاء الأعلام العظماء أو لحسد داخلي لهؤلاء، أو للنيل من أخلاق الإسلام ومثله عن طريق النيل من هؤلاء الرجال الأكابر .. أو غير ذلك من أغراض (الله يعلمها) ولكن النتيجة المرة، لهذا الجفاء والنقد المستمر لهؤلاء الأعلام اهتزاز ثقة الناس - ولاسيما الناشئة- بهؤلاء العظماء، وبالتالي هز ثقتهم بالإسلام وتعاليمه، والبحث عن قدوات آخرين قد لا يبلغون معشار هؤلاء، والتشكيك في تراث الأمة عبر القرون ..
وهنا تنبيه مهم وهم أن هذا المنهج في النقد والإسقاط لعلماء الأمة وعظمائها أو لتراثهم المجيد ديدن للعقلانيين - أو هكذا يسمون- قديمًا وحديثًا، ومن قبل قال الأستاذ محمود شاكر ناقدًا لمحمد عبده على هذا الصنيع: آه لقد مضى على الأمة الإسلامية نحو من ثلاثة عشر قرنًا لم نسمع في خلالها دعوة تحرض طلبة العلم على إسقاط كتب برمتها من حسابهم، ولذلك قلت: إن الذي جرى على لسان الشيخ محمد عبده في حركته مع شيوخ الأزهر طلبًا لإصلاح التعليم في الأزهر - كان أول صدع في تراث الأمة العربية الإسلامية (1).
أيها المسلمون وسيبقى علماء الأمة ورجالاتها محل التقدير والثناء ولو كره الكافرون أو غص بذلك المنافقون، وهؤلاء الشاغبون بغير حق على هؤلاء سيبطلون كما قال الشعر: كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ..
(1)(القدوات الكبار .. د. شريف/ 64).
وأخيرًا ليعلم أن عظيم اليوم (ابن المبارك) أحد الموالي، وهذا مؤشر إلى أن العظمة في إسلامنا لا ترتبط بالنسب ولا بالحسب ولكنها فضل من الله أساسها التقوى واليقين والصدق والإخلاص والصبر ومجاهدة النفوس {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} .
اللهم ارحم علماء الأمة ومجاهديها وألحقنا بهم وهيئ لأمتنا من يعيد لها عزها ومجدها.