الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحوم العلماء مسمومة، ولجنة رعاية السجناء
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين رفع أهل العلم درجات {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وأشهد أن لا إله إلا هو قرن شهادة العلماء بشهادته وملائكته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سأل ربه العلم ولو كان أشرف منه لسأله {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وأوحى الله إليه فيما أوحى خشية العلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وأخبر وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أن من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة. ألا فليهنأ العلماء بهذه المنزلة العلية وليخلصوا في طلبه، ويتقوا الله في أداء حق العلم، اللهم صل وسلم ..
أيها الناس ثمة ظاهرة تسري في هذه الأيام، وهي قديمة في الزمان، هي من السوء بحيث تستحق لفت النظر والاهتمام، وهي من قلة الأدب بحيث يحتاج الكبار إلى انتصار لهم وتقدير لمكانتهم.
إنها ظاهرة التطاول على العلماء، والحط من قدرهم، والنيل من أعراضهم واتهامهم، والتطاول على العلماء الربانيين تطاول على العلم بل تجاسر على هتك أستار الشريعة، فالعلماء هم المبينون عن الله وعن رسوله طرق الحلال وهم المفتون في الحرام، وإليهم المرجع والاحتكام {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
(1) ألقيت هذه الخطبة في 22/ 8/ 1427 هـ.
العلماء الذي نعني هم «فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين اختصوا باستنباط الأحكام، وعُنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام» كما قال ابن القيم رحمه الله (1).
بل هم كما قال الطبري رحمه الله: هم الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا (2).
هؤلاء العلماء لا يخلو زمان منهم، قائمون بأمر الله، يهدون الخلق إلى الله، هم الذين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.
إنهم سرج تضيء، مصابيح الدجى، نافذون إلى القلوب بإذن الله، يبصرون عن العمى، ويهدون من الضلالة، ويمسكون بحجز الناس عن السقوط في النار، كل ذلك بصدقهم ونصحهم وتوفيق الله لهم، هم أطناب الأرض، وهم المراجع حين الفتن وزلة القدم، وحين تخلوا الأرض منهم أو يهون من شأنهم تسود الفوضى ويفتي الجهلة، ويتصدر السفهاء.
هذه النوعية من العلماء يذكرون أحياء وأمواتًا، وتبقى آثارهم وإن غابت شخوصهم كما قال علي رضي الله عنه: العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة (3).
ويأبى الله إلا أن يذكر العالم الصادق وينتشر خبره في الأنام كما قال شيخ
(1)(إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 7).
(2)
(جامع البيان 3/ 327، عن قواعد في التعامل مع العلماء، اللويحق 19).
(3)
(جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/ 68).
الإسلام ابن تيمية «ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى» (1).
هؤلاء العلماء إنما بلغوا هذه المنزلة بجدهم وجهادهم وصبرهم على تحصيل العلم وصدقهم في أداء تكاليفه.
ولا تحسبن العلم شهوة تحصل كهل متطلب، ولا ينبغي أن يتصدر للعلم والفتيا إلا من هو أهل ومؤهل لها، ولقد كان العلماء يتحوطون في ذلك ولا يقدمون على الفتيا أو حلقات العلم إلا بعد المشورة - وهذا الإمام مالك رحمه الله يحدث عن نفسه ويقول:«لا ينبغي لرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت» . ويقول: وما جلست في المسجد للتحديث حتى يشهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني أهل لذلك (2).
أيها المسلمون كم يتصدر أناس للفتيا اليوم وهم ليسوا بذاك وليس لرجل أو لرجلين أو لجماعة مسجد أو حتى حي، بل على مستوى العالم، وعبر وسائل الإعلام المختلفة؟
وكم يتربع على زوايا صحفٍ سيارة أو برامج مرئية أو مسموعة .. من يهرف بما يعرف وما لا يعرف ويجد صعوبة أن يقول عن سؤال ما .. لا أدري .. الله أعلم بل يجيب وربما أضل الناس بإجابته، وفتن المسلمين بحديثه ..
إن ذلك لا يعني بحال قصر العلم والفتيا على أناس معينين، ولا حجر لناس على رأي عالم بعينه، بل كل من كان أهلاً للعلم بشهادة من يعتد بشهادتهم وكل
(1)(الفتاوى 11/ 43).
(2)
(صفة الفتوى والمستفتي (7) عن قواعد في التعامل مع العلماء/ 27).
من كان أمينًا على الفتوى معتبرًا عند أهل الصنعة والعارفين بالحلال والحرام، فهو أهل للفتيا، والعلماء لا يحددون ولا يختارون عن طريق الانتخاب، ولا عن طريق التعيين الوظيفي، فكأي من عالم في تاريخ الأمة تصدر وعلا ذكره وأصبح إمامًا للأمة وهو لم يعرف المناصب، ولم تعرفه المناصب، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المنصب والولاية لا يجعل من ليس عالمًا مجتهدًا عالمًا مجتهدًا .. إلخ (1).
عباد الله وثمة داءان في التسرع غير المنضبط يلحقان العالم والمتعلم، أحدهما حين يتسرع العلماء في العلم، والآخر - وربما كان أسوأ - حين يسارع المتعالم في نقد العالم ..
أما المسارعة في العلم فقد يكون طريقًا للاختلاف والمنازعة والفرقة، كما قال ابن عباس وفهم حين قدم على عمر رضي الله عنه رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال (الرجل) يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت (ابن عباس) والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني عمر ثم قال: مه، فانطلقت إلى منزلي مكتئبًا حزينًا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا بمنزلة، ولا أراني إلا قد سقطت من نفسه، فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، فبينا أنا على ذلك قيل لي: أجب أمير المؤمنين، فخرجت، فإذا هو قائم على الباب ينتظرني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفًا قلت يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت قال: لتخبرني، قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يَحْتَقُّوا، ومتى ما يَحْتَقُّوا يختصموا، ومتى
(1)(كلامه في الفتاوى 27/ 296، 297).
ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، قال (عمر) لله أبوك، لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها (1).
إنها مسارعة في القراءة دون فهم أوفقه، لا تكاد تجاوز الحناجر، ولذا ظل الخوارج حين كانوا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من زمان يكثر قراؤه ويقل فقهاؤه فقال:«يأتي على الناس زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء، ويقبض العلم ويكثر الهرج» (2).
أما الداء الآخر فهو التعجل في نقد العالم الفلاني، والمسارعة في التطاول على العالم الآخر، والحط من قدر ثالث، واتهام رابع بالتغفل وهكذا .. إنها أحن وشحناء وشنشنة ورغاء أقزام تتطاول على عمالقة، وجهلة تحاور عالمين، ومغمورون يتهمون المشاهير .. إنها تطاولات مذمومة، ومحاورات آثمة .. ليس حظ القارئ منها إلا البلبلة والتشويش وليس نصيب المجتمع فيها إلا الدغل والوحشة والفرقة والخلاف والشحناء والبغضاء أما إذا انضاف إلى ذلك محاولة التسلل إلى ثوابت الدين، أو التنقض من معلوم من الدين بالضرورة، أو اللمز على قواعد الشريعة فذاك الداء العضال، وتلك الفتنة التي لا بد من التصدي لها وإيقاف أصحابها والمتسللين من خلالها.
لماذا يكتب أهل الأهواء، وكيف يحصل الاضطراب عندهم، ومن يتقصدون؟ هذا سؤال يجيب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معريًا لهذه الفئة ويقول: أكثر أصحاب المقالات صار لهم في ذلك هوى، أن ينتصر جاههم أو
(1)(رواه عبد الرزاق في مصنفه 11/ 217 ح 20368، والفسوي في تاريخه 1/ 516، والذهبي في السير 3/ 349 وقال المحقق رجاله ثقات).
(2)
(رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك 4/ 457، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي).
رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيء القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله (1).
لقد غاب ورع اللسان عند البعض، وغاب معه ورع الأيدي فيما تكتب، ومن عجب كما يقول ابن القيم رحمه الله أن يهون على المرء التحفظ والتحرز من أكل الحرام، والزنا والسرقة وشرب الخمر .. ونحوها، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه (أو ما يسطره بنانه)(2).
وغابت كذلك شروط العلماء فيمن هو أهل للحديث عن الرجال (مادحًا أو قادحًا) حيث قال الذهبي رحمه الله: الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع (3).
وأين تمام المعرفة .. بل وأين ميزان الورع في كثير مما يكتب وينشر والله المستعان؟
أيها المسلمون وحين تكون الوقيعة في العلماء فتلك الكارثة والمصاب الجلل، فلحومهم مسمومة وعادة الله في هتك متنقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .. هكذا قرر العالمون (4).
(1)(منهاج السنة 5/ 255).
(2)
(الجواب الكافي/ 54).
(3)
(ميزان الاعتدال 3/ 46).
(4)
(الرد الوافر لابن ناصر الدين 197، وسير أعلام النبلاء 10/ 94).
وإذا ابتدأ القدح في العالم الحامل لعلم الشريعة تطور الأمر إلى القدح فيما يحمله من علم شرعي، وما يمثله من سمت وهيئة .. وهنا يفتح الباب على مصرعيه وربما كسر حتى لا يبقى شيء فوق النقد - كما يقول السفهاء - حتى ولو كانت محكمات الدين وثوابت العقيدة، وهنا تحل الفتن، ويختلط الحق بالباطل، ويفتي الجهلة، وتتحدث الرويبضة في أمر العامة، فتهتز معالم الدين، وهذه غاية ما يريده المبطلون، لا حقق الله لهم بغيتهم، ألا وإن من حق العالم علينا أن ندافع عن عرضه وأن نكشف زيف من اتهمه انتصارًا للحق.