الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المؤمنون وحين تعرفون شيئًا من أسباب الفرقة والاختلاف .. وآثارها المهلكة .. فحري بكم أن تجتنبوها، بل وتبحثوا عن أسباب العلاج وعوامل وحدة الصف .. فما هي الوسائل المؤدية إلى الاتفاق ووحدة الصف؟
لا بد من العلم أولاً أن الدعوة إلى الاتفاق ووحدة الصف لا تأتي تلبية للحاجة الملحة وللظروف المحيطة بالأمة المسلمة فقط وإنما هي استجابة لأمر إلهي وتحقيق لمطلب شرعي، كما قال ربنا تبارك وتعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
إن الوحدة في الصف المسلم لازم من لوازم عقيدة التوحيد ومن علائم خيرية هذه الأمة اجتماعها على الحق، ودعوة الناس إليه، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} الآية.
1) ولهذا فإن الالتزام بالعقيدة الحقة أول الأسس في وحدة الصف، فالعقيدة توحد بين القريب والبعيد، والعربي والأعجمي، والغني والفقير، والأحمر والأسود .. وتعجز آية رابطة أخرى أن توحد صف المسلمين وتؤلف بين قلوبهم.
إن هذه العقيدة ضرورة للفرد ليسعد ويطمئن، وتزكو نفسه وضرورة للمجتمع ليستقر ويتآخى ويتعاون ويتماسك ويتناصر.
2 -
التخلق بكريم الأخلاق التي أمر بها الشرع عامل مهم في الوحدة كالمحبة والإيثار والعفو والصفح وخفض الجناح وسلامة الصدر والعدل والإنصاف ونحوها من أخلاق تجمع ولا تفرق، وتهذب النفوس .. وإذا كنا نتفق على
أهمية هذه الأخلاق في أحاديثنا فالأهم أن نمارسها في واقعنا وأن ننصف بها إخواننا.
إن ممارسة الأخلاق المرذولة سهل، ولكن الترفع عن الهنات وستر العورات والتعامل بلطف مع الزلات، وممارسة أعالي الأخلاق هو الذي يحتاج إلى صبر ومجاهدة للنفس، انظروا إلى إمام من أئمة الجرح والتعديل وهو يمارس الخلق الرفيع ويقول:«ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه فإن قبل وإلا تركته» (1).
إنه نموذج رفيع للتعامل مع الأخطاء والزلات، فهل نمارسه؟
3 -
والعلم والورع سبب للتأليف ووسيلة عظمى لجمع كلمة المسلمين، وكلما كان المرء ذا علم واسع وورع كلما اجتمعت عليه القلوب، وكلما اتسع أفق الإنسان كان أقدر على تقدير الآخرين واتسع صدره للمخالفين.
أما الجهل أو التعالم فهو سبب للفرقة وضيق الأفق، وكم جنى أولئك المتعالمون على الأمة وكم أصبحت أعراض العلماء والدعاة كلأً مباحًا لمبتدئين في العلم، ظنوا أنهم إذا اطلعوا على بعض الكتب أو نالوا شيئًا من الشهادة قد بلغوا في العلم مبلغًا يؤهلهم لنقد هذا وتقويم ذاك، وتلك ظاهرة قديمة تتجدد، وهذا الإمام أحمد بن علي بن الآبار يقول - في زمنه - رأيت بالأهواز رجلاً حف شارته، وأظنه قد اشترى كتبًا، وتعبأ للفتيا، فذكروا أصحاب الحديث فقال: ليسوا بشيء، وليسوا يسوون شيئًا، فقلت له: أنت لا تحسن تصلي، قال أنا؟
(1)(سير أعلام النبلاء 11/ 83).
قلت: نعم، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك؟ فسكت، فقلت: وإيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت، قلت: مالك لا تتكلم؟ ألم أقل لك إنك لا تحسن تصلي؟ إنما قيل لك تصلي الغداة ركعتين والظهر أربعًا، فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث، فلست بشيء ولا تحسن شيئًا» (1).
ومن العجب - كما يقول ابن القيم رحمه الله إن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك.
ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه (2).
فهل نحفظ ألسنتنا؟ وهل نكون سببًا للتأليف بجميل العبارة، وحسن الظن وتقدير الآخرين.
4 -
التثبت مما يروى والتحري فيما يقال، ذلك منهج رباني نُدب إليه المؤمنون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ .. } وإذا كانت الشائعات مفسدة للمجتمعات مفرقة للجماعات فإن دواءها بالتثبت والتحري وعدم الاستعجال في اتخاذ المواقف، وتلك المواقف المتأنية تسهم في جمع الكلمة، كما تسهم العجلة في الفرقة والشتات ألا فتثبتوا ولا تستعجلوا يا عباد الله، ولا يستخفكم الذين لا يوقنون.
5 -
ومع التثبت إقالة ذوي الهيئات عثراتهم، فإذا كان شخص لا يعرف عنه إلا الخير، ثم كبا كبوة لا ينبغي أن يسارع لتجريمه ويعان الشيطان عليه، بل تقال
(1) (الكفاية في علم الرواية ص 19، 20، عن أحمد الصوان/ منهج المحدثين.
(2)
(الجواب الكافي/ 54).
عثرته ما لم تكن حدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» (1).
وفي الحديث الآخر الصحيح: «من أقال عثرة أقاله الله يوم القيامة» (2).
قال ابن القيم وإقالة ذوي الهيئات: باب من أبواب محاسن الشريعة الكاملة وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد (3).
إننا في سبيل جمع الكلمة ووحدة الصف لا ينبغي أن نفرح بالعثرة يعثرها أحد إخواننا المسلمين، بل نتألم لذلك ونسارع بنصحه وإقالة عثرته.
6 -
ولا بد في سبيل جمع الكلمة من ضبط النفس عند حدوث الخلاف فالشيطان حريص على الوقيعة والفرقة بين المسلمين، والشديد ليس بالصرعة إنما الذي يملك نفسه عند الغضب، ولتضيق هوة الخلاف ندب الإسلام المتهاجرين إلى الإسراع بالسلام وخيرهما الذي يبدأ صاحبته بالسلام .. إلا فعظموا ما عظم الله وكونوا عباد الله إخوانًا .. ليسأل كل منا نفسه هل هو عنصر بناء ووسيلة لجمع الكلمة أم هو بضد ذلك، ولا ينبغي أن ننعى حال الأمة ونحن المقصورون نتلمس الداء.
(1) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح (25474)، (4/ 133).
(2)
رواه أحمد وأبو داود (3/ 274) وابن ماجه (2/ 741).
(3)
(بدائع الفوائد 3/ 139).