الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين خالد والوليد
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ..
أيها المسلمون ثمة صراع أزلي بين الحق والباطل، وثمة مدافعة بين الناس يمنع الله بها الفساد في الأرض، ثمة محقون ومبطلون، ومسلمون وكافرون، وأصحاب الجنة وأصحاب السعير، تلك حقائق يراها الناس في القديم والحديث، وعاشها الناس فيما مضى ويعيشونها اليوم وغدًا ..
ولكن ثمة حقيقة تقول إن البقاء للأصلح، وإن العاقبة للتقوى وللمتقين، والزبد يذهب جفاءً ويبقى في الأرض ما ينفع الناس.
الباطل يهيج فترة، والمبطلون يتصدرون القيادة حقبة من الزمن، ولكن المسلم لا يغر بتقلبهم في البلاد، وهم لا يعجزون الله، ولكنه إن أمهلهم لا يهملهم، وإن متعهم فهو يستدرجهم .. والعاقبة وخيمة والأخذ أليم ..
تعالوا بنا معشر المسلمين نقرأ واحدة من قصص القرآن عن القوم المجرمين، كيف طغوا وتجبروا واستكبروا وتفاخروا، ثم كانت النتيجة المرة، وكان الذكر السيء .. وإلى جانب ذلك نذكر نموذجًا آخر خالف فخاف، وأسلم فسلم، وفرق بين ذكر وذكر .. إنها مفارقات عجيبة تحكي عاقبة الكفر، وفضل الإسلام، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وهو العليم الحكيم.
(1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 11/ 1427 هـ
بين الوليد بن المغيرة وابنه خالد تكمن العبرة، ويكون الدرس لهذا اليوم فماذا قيل عن الأب؟ وماذا قيل عن الابن؟ وأي ذكر وتاريخ حفل به الأب .. وماذا سطر للابن من مكارم؟
تعالوا بنا إلى مائدة القرآن لتشخيص الموقف ونهايته لأحد سادة قريش وأكابر مجرميها (الوليد بن المغيرة المخزومي).
قال ابن كثير: يقول تعالى متوعدًا لهذا الخنيث (الوليد بن المغيرة المخزومي) الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرًا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر، وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله {مَالاً مَّمْدُوداً} أي واسعًا كثيرًا، وجعل له {بَنِينَ شُهُوداً} أي لا يغيبون عنه ولا يسافرون في التجارات، بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم، وكانوا فيما ذكر ثلاثة عشر، أو عشرة، وقعودهم عنده أتم في النعمة، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} أي معاندًا وهو الكفر بعد العلم، ثم جاء الجزاء {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قيل المقصود
بالصعود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا، ثم يهوى به كذلك فيه أبدًا. وقيل: هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يديه ذابت، وإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. وقيل هو: صخرة عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه. وقيل: هو مشقة من العذاب، أو عذاب لا راحة فيه - وهو اختيار ابن جرير (1).
أيها المسلمون .. حين يعرف المرء الحق ثم يحيد عنه أو يلبس يمكن كشأن المجرمين قديمًا وحديثًا، تكون العقوبة قاسية والذكر سيئًا .. وكذلك كان الوليد ..
لقد جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر ولا بسحر، ولا يهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. وفي رواية: فوالله ما منكم أحد أعلم بالشعر مني، ولا بأشعار الجن، وما يشبه شيئًا من ذلك، وإن له لحلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه.
وهكذا اعترف الوليد بعظمة القرآن، وقاتل الله رفقة السوء وقرناء السوء كيف يوقعون أصحابهم، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبون قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل قال: أنا أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالًا وولدًا، فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد: أقد تحدثت بذلك عشيرتي؟ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة -يقصد النبي- وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله بشأنه الآيات السابقات (2).
(1)(تفسير ابن كثير 8/ 291، 292).
(2)
(ابن كثير 8/ 292).
أيها المسلمون تأملوا في ثنايا القصة كيف يعلو الحق ويعترف به الملأ .. وكيف يكون النكوص حفاظًا على المركز، واستسلامًا لأعراف القبيلة وطمعًا في البقاء في الرئاسة، وتأثرًا برفقة السوء، ثم تأملوا كيف يوصف الخير والأخيار، فالنبي الأمين يلقبونه بابن أبي كبشة .. والإسلام بالصباء، وكذلك يتلاعب المجرمون بالألفاظ، ويلمزون الخير والأخيار .. وإذا جرى ذكر السحر، والكهانة، والجنون ونحوها من ألفاظ المجرمين فيما مضى، فاليوم تعود السخرية لكن بألفاظ الإرهاب، والأصولية، والفاشية، ونحوها .. وتتغير الألفاظ والمعنى واحد، ويمضي التاريخ ويتقلب الوليد في النعم .. لكنها أيام الدنيا قليلة وحبالها قصيرة، وتذكره كتب السيرة ضمن المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، ويسلي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكفايته لهؤلاء المستهزئين، ويأمره بالصدع بالحق دون تردد:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94، 95]. ويهلك الله أولئك المستهزئين جميعًا - وهم خمسة كما ذكرتهم كتب السيرة والتفاسير- وأحدهم بل من أكابرهم الوليد بن المغيرة .. يهلكون بآفات قال عنها الشنقيطي في «أضواء البيان» : والآفات التي كانت سببًا في هلاكهم مشهورة في التاريخ (1).
وكذلك أسدل الستار على قصة هذا المكابر المستهزئ، وبقي ذكره لا يسر الناظرين، وخبره عبرة للمعتبرين، ولئن غاب الوليد عن مشهد الأحداث ببدنه فقد بقي من تاريخه ما يعيد الذكرى في كل حين .. إن في الأرض من يسخر ويستهزئ ويتطاول ويتكبر، ويمهل وينعم عليه .. لكنها نهاية الطغاة
(1)(أضواء البيان 3/ 182، وانظر ابن هشام 2/ 57، 58).
والمجرمين .. والنتيجة البائسة لمكر الماكرين، وصدق الله وهو أصداق القائلين:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَاّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} . إلى قوله: {الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 123، 124]. وصدق الله وهو أصدق القائلين: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَاّ نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 42، 43].