الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثقافة التسامح والتيسير
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
حين يكون الحديث عن ثقافة التسامح والعفو والتيسير هناك مفهومان وثقافتان لهذا المعنى، وثالثة (وسطى) بينهما هناك فهم لا ينتهي بالتسامح عند حد، وهناك آخر يغلقه عما فيه حل ويسر، هناك ثقافة ترى التسامح تخلصًا من تبعات الدين وتمييعًا لأحكام الإسلام، وانهزامية أمام الآخرين، وتبعية مذلة للأعداء.
وهناك ثقافة أخرى تنظر إلى التسامح والتيسير على أنه جبن وخور، وتنازل عن المسلمات، واعتداء على الحرمات، وزيادة هوان للأمة، حتى وإن كان تأليفًا للقلوب، وربما غاب عن هؤلاء فقه السياسة الشرعية، وتغليب المصالح أو درء المفاسد.
إنهما ثقافتان غالية وجافية، والثقافة المتسامحة الميسرة التي نريد هي وسط بين الإفراط والتفريط، إنها تنطلق من أصول شرعية، وممارسات إسلامية خط طريقها محمد صلى الله عليه وسلم وحسبك به معلمًا وهاديًا وأسوة، وجاءت مفرداتها في الكتاب والسنة أجل لقد أدبه ربه، وكان من أدبه له {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85]. وقاله له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون/ 96]، وأوصى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وأراد الله له ولأمته اليسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ
(1) ألقيت هذه الخطبة في 1/ 5/ 1428 هـ.
بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] إنها نصوص وتوجيهات تملأ سور القرآن، وهو كتاب أحكمت آياته وفصلت لقوم يعلمون، وهي نصوص صحيحة في السنة وممارسات عملية في السيرة، نقتبس منها قوله صلى الله عليه وسلم:«بعثت بالحنيفية السمحة» (1)(أخرجه أحمد 21788)«إن خير دينكم أيسره» (ثلاثًا) ولفظ «إنكم أمة أريد بكم اليسر» (2)، «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» (3).
(القصد القصد تبلغوا)(4).
وفي المقابل قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغلو» (5).
«هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا (6)«إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق» .
ومن السنة إلى السيرة العملية فقد دخل اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل صفاقة وحقد «السام عليك» يعني الموت، فقالت: عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة. فوجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يا عائشة ما هذا؟ إن الله يكره الفحش والتفاحش، وقد رددت عليهم ما قالوا، فقلت: وعليكم» متفق عليه. إنها أخلاق الأنبياء لا يقابلون المنكر بمثله، ولا يردون الفحش بمفرداته،
(1) قال ابن القيم رحمه الله جمع الله عز وجل في هذه الشريعة بين كونها حنيفية وكونها سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل (إغاثة اللهفان 1/ 58) والحديث أخرجه أحمد (21788).
(2)
رواه أحمد 5/ 32، وصحح إسناده الحافظ في الفتح 1/ 94.
(3)
متفق عليه (6927، 2593).
(4)
(أخرجه البخاري 6463).
(5)
(أحمد 1854، والنسائي وابن عاصم في السنن 1/ 46 وصححه).
(6)
(مسلم 2670).
(7)
(أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2/ 255).
وعائشة رضي الله عنها وإن كانت حملتها الغيرة، وردت على القوم بما يستحقون البدء به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن الموقف يكفي فيه «وعليكم» فليس فيها فحش ولا استغباء.
إخوة الإسلام تعلمنا شرائع الإسلام وتدعونا قصص القرآن أن نؤسس لثقافة المحبة والتسامح وتحذرنا من سلوكيات العدوانية والظلم والسطو والانتقام ..
وليس بخفي أن العفو والتسامح في الإسلام لا تعني بحال هتك الحرمات ولا السطو على المحرمات، لكنه تسامح الحنيفية السمحة، وأخلاق الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام، الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا وكان خلقه عليه الصلاة والسلام البر والوفاء، والحفاظ على حقوق الناس، وصيانة كرامتهم أيًا كانت هوياتهم ومواقعهم ما داموا مسالمين ملتزمين بالعهود ..
أجل إن الناظر - يعمق - في السيرة النبوية يرى كيف كان صلى الله عليه وسلم يؤلف ولا يفرق، ويدعو ولا ينفر، ويبذل المال في سبل إسلام أقوام أو تثبيت آخرين، كما يبذل من حسن المعشر وطلاقة الوجه، والبشر، ولو كان الداخل عليه بئس أخو العشيرة هو إنها المداراة المشروعة في ديننا طلاقة وجه وحسن معشر، ودعوة للخير، وتأليف للقلوب .. ولذا دخلت فئام من أهل الكتاب والمشركين في الإسلام نتيجة حسن الخلق وطيب المعاملة .. فأين نحن من هذا الهدي النبوي، وفي رسول الله لنا أسوة حسنة.
لقد قالها زيد بن سعنة .. فما بقي من علائم نبوته صلى الله عليه وسلم إلا أن أعرف أن شدة الجهل عليه لا تزيده إلا حلمًا .. وقد رأيتها .. فأسلم زيد ومثله من أهل الكتاب كثير. كما كان للمشركين نصيب من تأليفه عليه الصلاة والسلام، حتى وإن كان هذا المشرك قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجاه، وفي قصة كعب بن زهير (الشاعر
وابن الشاعر) حين قدم عليه تأئبًا مسلمًا درس وعبرة، ومعلم في العفو والصفح والتأليف والدعوة.
وقد ذكرت كتب السيرة أن كعب بن زهير قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال (كعب) يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبًا مسلمًا فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نعم» ، فقال كعب: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب عليه رجل من الأنصار، فقال يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعه عنك، فقد جاء تائبًا نازعًا عما كان عليه» وحينها قال كعب قصيدته المشهورة والتي منها قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول (1)
يا أخا الإسلام وإن تعجب من هذه المعاملة النبوية فعجبك لا ينتهي حتى تقف على هديه في تعامله مع نصارى نجران، حينما قدموا عليه المدينة، ودخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، حتى إذا حانت صلاتهم قاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دعوهم» فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
قال ابن القيم - معلقًا على هذه الحادثة- ومن فقه هذه القصة:
1 -
جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين.
2 -
تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك.
3 -
جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا
(1)(زاد المعاد 3/ 522، 524).
ظهرت مصلحة من إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليول ذلك إلى أهله، وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها .. ثم ذكر الشيخ مناظرة له مع أحد علمائهم (1).
أيها الإخوة المؤمنون .. ومن أهل الكتاب والمشركين إلى تعامله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين فهو كذلك تأليف ودعوة، وبعد عن القتل والتشهير والتنفير .. علمًا بأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وفضحهم الله في أكثر من سورة في القرآن .. ومع ذلك كله لم يؤثر أن محمدًا قتل أحدًا من زعامات هؤلاء المنافقين فضلاً عن عوامهم، بل لما عرض عليه قتل بعضهم قال قولته المشهورة: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه .. وتأتى بهم وترفق حتى صلح حال بعضهم فيما بعد.
وقد استوقف ابن القيم موقف المنافقين في غزوة تبوك .. حين قال: ومن فقه هذه الغزوة: تركه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفر الصريح .. قال: والجواب الصحيح أنه ترك قتلهم في حياته لوجود مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع كلمة الناس عليه، وكان في قتلهم تنفير، والإسلام بعد في غربة، والرسول صلى الله عليه وسلم أحرص شيء على تأليف الناس، وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته - وهذا أمر كان يختص بحال حياته صلى الله عليه وسلم (2).
وقال أيضًا: ومن فقه الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين، ويكل سريرته إلى الله، ويجري عليه حكم الظاهر، ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره (3).
(1)(زاد المعاد 3/ 638، 639).
(2)
زاد المعاد 3/ 567، 568).
(3)
(زاد المعاد 3/ 575).
وفوق ذلك فدونك موقفه صلى الله عليه وسلم مع زعيم المنافقين عبد الله بن أبي حين توفي فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه، فقال: أليس الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فصلى عليه، فنزلت:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} (1).
وفي الحديث الآخر عن جابر رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه» (2).
قال أهل العلم: ألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه استصلاحًا للقلوب المؤلفة (3) وفصل ابن حجر وغيره من أهل العلم في تعليل موفقه صلى الله عليه وسلم من (ابن أبي) عند موته. قال الحافظ: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي عمر وصلى عليه إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام واستصحابًا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة (4).
وقال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطبيب قلب ولديه عبد الله الرجل الصالح،
(1)(الصحيح مع الفتح 3/ 138 ح 1269).
(2)
(رواه البخاري ح 1270، الفتح 3/ 138).
(3)
(الفتح 3/ 138، 139)
(4)
(الفتح 8/ 336).
ولتآلف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه - قبل ورود النهي الصريح - لكان سبة على ابنه وعارًا على قومه، فاستعمل صلى الله عليه وسلم أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى.
وأخرج الطبري عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً .. } قال فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه (1).
إنه التأليف والدعوة والسياسة الشرعية وتغليب المصالح، ودرء المفاسد، فقه التأليف والتسامح أنه فقه قد يغيب ولا بد من إعادته للأذهان، وحين نؤسس لثقافة التسامح والتأليف والعفو، فنحن لا نميع الدين، ولا ننقض عرى الإسلام، نل نستن يهدي خير المرسلين، ونتلمس توجيه السماء {وقولوا للناس حسنًا} {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} {ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} {فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى} .
اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والبصيرة بسنن المرسلين، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(1)(الفتح 8/ 336).