الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في البيوع والغلاء والتكسب والتجارة الرابحة
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله جعل في الحلال غنية عن الحرام، أحل البيع وحرم الربا، وبين الحلال والحرام أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس.
إخوة الإسلام الناس في حياتهم ومعاشهم يحتاجون للبيع والشراء كما يحتاجون للطعام والشراب والكساء، وقد جاءت شريعة الإسلام موضحة للأحكام المتعلقة بفقه المعاملات كما هي موضحة لفقه العبادات، فأحل الله البيع وحرم الربا، وأباح السلم والدين لمن به حاجة إليه، وحرم الغرر والقمار والميسر والاحتكار ونحوها من المعاملات المحرمة.
أيها المسلمون وكما يتعبد المرء ربه بالتعبد لربه في الصلاة أو الصيام أو نحوها .. يتعبد ربه كذلك في تعاملاته مع الناس وتيسيره لهم في البيع والشراء، وسماحته معهم في القضاء والاقتضاء.
إن من المهم - عند المسلم - أن يكون مطعمه حلالاً، ومشربه حلالاً وملبسه حلالاً، وكل جسد نبت على الحرام فالنار أولى به.
ومن الخطأ أن يجتهد المسلم في عبادته وعلاقته بربه فقط ثم هو يفرط ولا يبالي بعلاقته بعباد الله .. فيظلم، ويغش، ويكذب ويسرق ويحتكر .. وهكذا من صنوف المعاملات المحرمة شرعًا وعقلاً.
وهناك أخطاء وتجاهلات عند عدد من الباعة والتجار في أحكام البيع والشراء أوقعت المجتمع في جملة من الإشكالات والتعسفات، وحري بمن
(1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 8/ 1428 هـ
نصب نفسه لهذه المهنة أن يعلم حكم الله فيها، وألا تجره الدنيا إلى جمع المال كيفما أنفق فيوقع نفسه ويوقع الآخرين، قال أحد السلف من لم يتفقه في البيع والشراء فلا يبع في سوقنا هذا.
إن الكذب في البيع والشراء آفة ومعصية يظن البائع الكاذب يكسب وهو خسران، وكيف يسوغ لك أيها المسلم أن يثق بقولك مسلم آخر بقولك اشتريت السلعة بكذا وأنت كاذب، أو طلبها مني شخص بمبلغ كذا -يعني تسلم بكذا- وأنت كاذب إنك ربما ربحت دريهمات معدودة لكنك خسرت أشياء أخرى.
والغش في السلعة وعدم بيان عيوبها للمشتري آفة أخرى ومن غش فليس منا.
والنجش: وهو المزايدة في السلعة لمجرد رفع قيمتها وخداع الناس بنجشه حرام في شريعتنا.
والتدليس ومدح السلعة المباعة بما ليس فيها خداع وتغرير بالمشترين وبيع الغرر والمجهول، ومزاولة الميسر والقمار، كل ذلك مما جاءت الشريعة بالنهي عنه .. وكل بيوع تجاوزت حدود الله في البيع والشراء فهي خسارة وإن ظن صاحبها أنه يربح .. {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} .
إن من كمال الشريعة الإسلامية أنها لم تحرم شيئًا إلا وأحلت بديلاً خيرًا منه.
ومن سمات المؤمن أنه سمح إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى واقتضى، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والدعاء يستجاب لمن أطعم مطعمه .. ويرد الدعاء حين يغذي المسلم نفسه بالحرام، فمن كان مطعمه حرامًا ومشربه حرامًا وغذي بالحرام فأنى يستجاب له.
أيها المسلمون واحتكار ما يحتاجه المسلمون من طعام أو شراب أو كساء أو نحوه مما نهت عنه الشريعة، وحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم .. والاحتكار عرف بأنه شراء الطعام محتكرًا له للتجارة مع حاجة الناس إليه فيضيق عليهم، أو عرف
كذلك بأنه شراء الأقوات وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق حينئذ (1).
وهل تعلمون أن بعض المفسرين كابن كثير فسر قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .. بالاحتكار والمحتكر في مكه (2).
ومما يؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه» لكن ضعفه بعض العلماء (3).
وإذا تجاوزنا تفسير الآية وجدنا نصوصًا أخرى تنهى عن الاحتكار ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» (4).
واستمعوا إلى هذا الهدي النبوي والتحذير من الاحتكار وعاقبة المحتكرين يقول صلى الله عليه وسلم: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس» والجذام داءً يعترض في الرأس ويتشوه منه الوجه (5).
وكان عثمان رضي الله عنه ينهى عن الحكرة.
وأحرق علي رضي الله عنه بيادز بالسواد لقيس بن أبي صعصعه، يقول قيس ولو لم يحرقها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة (6).
عباد الله الاحتكار إذًا ظلم، والله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده
(1)(الربح في الفقه الإسلامي/ شمسية إسماعيل/ 128).
(2)
(تفسير ابن كثير 3/ 215).
(3)
(السابق، 133).
(4)
أخرجه مسلم (1605)، وفي لفظ آخر «من احتكر فهو خاطئ» رواه مسلم (1605) والخاطئ هو المذنب.
(5)
الحديث أخرجه ابن ماجه، وحسن إسناده ابن حجر (الفتح 4/ 440).
(6)
(السابق/ الربح في الفقه صـ 134).
محرمًا .. وهو جشع واستغلال لما بالناس حاجة إليه والمؤمنون إخوة ..
أيها المسلمون أما تحديد الأسعار .. فالأصل أن الله هو المسعر والحرية مكفولة للبائع في سعر سلعته .. وقد جاء عن أنس قوله غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال: «إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال .. » (1).
لكن لولي الأمر أن يتدخل في التسعير في حالة الاحتكار .. لأن ذلك على حساب المصلحة العامة .. يقول ابن القيم: وجماع الأمران مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجاتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل (2).
ولولي الأمر أيضًا أن يتدخل في التسعير في حالتي الحصر والتواطئ، أما الحصر فهي أن يكون الناس قد التزموا إلا بيع الطعام أو غيره إلا أناس يعرفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم هم يبيعونها، فلو باع غيرهم ذلك منع، فها هنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء - كما يقول ابن تيمية رحمه الله (3).
أما التواطؤ - فهي حالة مزدوجة تتمثل في تواطئ البائعين وتآمرهم على المشترين بالبيع طمعًا في الربح الفاحش، أو على العكس بأن يتواطؤ المشترون
(1) أخرجه الترمذي في البيوع وقال حديث حسن صحيح، والدارمي في النهي عن أن يسعر في المسلمين (1318)(2545).
(2)
انظر (مجموعة الفتاوى لابن تيمية 28/ 105 الطرق الحكمية/ 205).
(3)
(الحسن/ 23/ 24/ الفتاوى 28/ 77، 78).
على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا حق البائعين .. فهنا كذلك يتدخل ولي الأمر في التسعير .. حتى لا يحصل ضرر على البائع والمشتري (1).
أيها المسلمون اجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واعلموا أن الخير والبركة والنماء إنما هي فيما أحل الله .. وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين.
أعوذ بالله الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)} [النساء: 29، 30].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ..
(1)(الربح في الفقه الإسلامي د. شمسية إسماعيل 184/ 185).