الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
{الحمد لله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحاسب على النقير والقطمير، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء} ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال وهو الصادق الأمين.
يا أخا الإيمان .. أما وقد عرفت قيمة المحاسبة وحاجتنا إليها، بل وغفلة الكثير منا عن ممارستها فقد يرد السؤال وكيف تتم محاسبة النفس وما هي الأمور المعينة على هذه المحاسبة؟
ذكر أهل العلم أن المحاسبة الصادقة تعتمد على أمور ثلاثة هي:
1 -
الاستنارة بنور الحكمة.
2 -
وسوء الظن بالنفس.
3 -
وتمييز النعمة من النقمة فكيف يتم ذلك.
فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان حظ العبد من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أتمَّ وأكمل.
أما سوء الظن بالنفس فحتى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب، ولئن تزكية النفس حاجب عن محاسبتها.
وأما تمييز النعمة من الفتنة فلأنه كم مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجُهَّال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (1).
(1)(مدارج السالكين 1/ 188).
ولله در الإمام أحمد حينما بلغه أن المسلمين في بلاد الروم كانوا- وهم في الغزو - إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء له، وكانوا يرمون المنجنيق باسمه حتى سقط رأس علج من درقته .. فلما بلغ أحمد الخبر تغيَّر وجهه وقال: ليته لا يكون استدراجًا (1).
أيها المسلمون ومما يعين على المحاسبة ما قاله ابن القيم رحمه الله: ومن أنفع المحاسبة أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها على ما خسره وربحه في يومه ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربَّه ويستدرك ما فات (2).
ألا ما أحوجنا إلى هذه الساعة من المحاسبة، وكم نغفل عنها، فهل نمارسها قبيل النوم من الليل والليل- كما يقال - أخطر للخاطر وأجمع للفكر.
يا أخا الإسلام حاسب نفسك على عمل السيئات وهل استغفرت وكفَّرت عنها، وعلى عمل الصالحات هل فرحت بها وسألت ربَّك قبولها؟ حاسب نفسك على نوع الكلام الذي صدر منك، وفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، حاسب نفسك على مطعمك ومشربك، وكل جسد نبت على سحت فالنار أولى به وحاسب نفسك على العدل والإنصاف، والظلم ظلمات يوم القيامة حاسب نفسك على استثمار الوقت، والوقت أغلى ما نملك والمغبون من فرط فيه أو استخدمه فيما يغضب الله.
(1)(السير 11/ 210).
(2)
(الروح لابن القيم/ 79).
والوقت أغلى ما عنيت بحفظه
…
وأراه أسهل ما عليك يضيع
حاسب نفسك على همومك أهي للدنيا أم للآخرة، {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض} .
ما نصيب الإسلام من جهدك، وما حض أخوانك المسلمين من اهتمامك ودعائك .. إلى غير ذلك من ألوان المحاسبة .. وإياك أن تكون من الغافلين، أو من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .. إننا بحاجة للمحاسبة فهي سبيل للاستقامة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه.
أيها الأخوة المسلمون هذه الجمعة آخر جمعة في العام والسؤال بماذا تذكرك آخر جمعة في العام؟
إنها تُذكر- فيما تذكر - بسرعة الزمان، وانفراط الآجال وقرب الارتحال فما العمر إلا جمعة وأخرى وثالثة لا تدرك لا تدرك ما فيها من أحداثٍ وحوادث ورابعة خبر من الأخبار سرت وأخرى أضحكت وأبكت إنها الدنيا متاع الغرور وهي حرية أن تفتح صفحة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} بل صفحات للمرء ماذا قدم من الجمعة إلى الجمعة، ومن أول جمعة في العام إلى آخر جمعة، بل وما رصيده من الخير أو نصيبه من الشر منذ أول جمعة عقلها إلى آخر جمعة أدركها؟
إن الجمعة تذكر ببداية الخليقة ومنتهاها، ففيه خلق آدم وبه تقوم الساعة.
يوم الجمعة يوم الخيرية والأفضلية، فما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدى الله له هذه الأمة المسلمة وأضل عنه أمم اليهود والنصارى.
يوم الجمعة يوم اجتماع المسلمين، ويوم زينتهم، وهو شعار للوحدة واجتماع الكلمة والتآلف والتقارب والسلام والبشر والذكر والدعاء والمزيد من الصلاة
والسلام على النبي المجتبى إنه يوم يتفرغ المسلم من أعماله الدنيوية ليزيد من رصيده الأخروي ومن غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر، ومسَّ شيئًا من طيب أهله، ودنا من الإمام واستمع للخطبة ولم يلغ كتب الله له بكل خطوة يخطوها للمسجد أجر سنة صيامها وقيامها.
كم يفرط المسلمون في سنن يوم الجمعة من التبكير في ساعاتها الأولى إلى إهمال الدعاء في آخر ساعة فيها وتلك الساعة لا يوافيها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه - ما لم يسأل إثمًا - وأرجى ساعات الإجابة ساعتكم هذه، وساعة ما بعد العصر، فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة وانتظارها، وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد وانتظار صلاة المغرب ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
هل أنت من المحتسبين لساعة الإجابة في الجمعة، وهل تحتسب على الله في الدعاء في وقت أنت أحوج ما تكون فيه للدعاء وبأمننا من الآلام واللؤى ما لا يرفع إلا إلى الله، فهل نسأل الله في أوقات الإجابة بكشف البلاء ودفع الضراء.
عباد الله: خمسون جمعة هي محصلة العام تقريبًا هل تذكرت أخي المسلم كم لله عليك من فضل خلالها صحة في البدن وأمن في الوطن، والناس من حولك يتخطفون ويفتنون .. كيف تشكر الله على هذه النعمة؟ إن البلايا والمحن أقدار الله .. وهو يقدرها حيث شاء ويفتن بها من شاء، فهل اتخذت من أيام الرخاء عبرة لأيام البأساء والحق يذكرنا بالفتن الحولية ويقول {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} .
بل قد تكون ممن فتن بمال أو ولد أو مرض أو نحوه وهل لك أن تخرج من البلاء بغير كاشف الضراء {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو} .
حاسب نفسك
…