الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
وحين نتجه إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع قومه ومن حولهم من المشركين، يتجلى لنا خلق التسامح والعفو والبر والوفاء بكل معانيها، رغم أساليب العنف والكراهية والإيذاء التي صدرت من هؤلاء المشركين، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق - إلا أن يقولوا ربنا الله، ومع ذلك وحين ظفر النبي صلى الله عليه وسلم بسيد بني حنيفة (ثمامة بن أثال) وكان قد أصاب دمًا في المسلمين، عامله بالحسنى وصفح عنه .. حتى أسلم (ثمامة) متأثرًا بهذه الأخلاق العالية، بل بقي هذا الموقف العظيم من النبي العظيم ماثلاً بين عيني ثمامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت على إسلامه حين ارتد أهل اليمامة، وكان يردد إنعام النبي صلى الله عليه وسلم ويقول:
أهم بترك القول ثم يردني
…
إلى القول إنعام النبي محمد
شكرت له فكي من الغل بعدما
…
رأيت خيالاً من حسام مهند (1)
ولا تنتهي قصة العفو والإحسان والبر والتسامح - في قصة ثمامة - عند هذا الحد، بل إن خلق التسامح يتجدد مع قريش ذاتها، فقد هددهم ثمامة بمنع الطعام الذي كان يبعثه لهم من اليمامة قائلاً:«ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم» (2).
وحانت الفرصة لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يحاصرهم اقتصاديًا وأن يخنقهم معاشيًا وهم مستحقون لذلك وكتبت قريش إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتوسلون إليه، ويذكرونه بصلة الرحم - وإن قطعوها هم - فما كان من النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن كتب إلى ثمامة
(1)(الإصابة 2/ 27، 28).
(2)
(البخاري ح 4372).
أن يخلي بينهم وبين حمل الحنطة إليهم (1).
إنها أخلاق الأنبياء، وسماحة والإسلام، ويتكرر المشهد مع قريش مرة أخرى، فقد فتحت مكة عنوة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر، وتحطمت كبرياء قريش، وتحول العزيز إلى ذليل، والمطارد إلى محصور ينتظر ما يفعل به، ولا يزال التاريخ يحفظ تلك المشاهد والكلمات التي أطل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش وهو يقول:«ما ترون أني فاعل بكم» قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال وهو في مكان المقتدر وهو سيد الموقف:«اذهبوا فأنتم الطلقاء» (2).
كم يردد الزمان ويحفظ هذا الوفاء والصفح، وكم تعجز الحضارات - مهما علا شأنها- عن هذا البر والتسامح، إنه الإحسان يزيل البغض وينبت الحب، ولقد سار قطار الإسلام قديمًا وحديثًا يفتح مغاليق القلوب بإذن الله عبر أخلاق المسلمين وإحسانهم وعدلهم وتسامحهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم مثلهم وقائدهم، وصدق الشاعر:
يا صاحب الخلق الأسمى وهل حملت
…
روح الرسالات إلا روح مختار
أعلى السجايا التي صاغت لصاحبها
…
من الهدى والمعالي نصبت تذكار
(1)(كما في زيادة ابن هشام على رواية الصحيح، انظر الفتح 8/ 88).
(2)
(السيرة لابن هشام 4/ 46، وانظر: أدب المعاملة في السيرة النبوية/ 57).