الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنيات الطاعة
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
إخوة الإسلام قضى ربنا ألا يعبد إلا هو {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وحكم أن الدين الحق هو الإسلام {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} .
وما من أحد إلا وهو متخذ إلهًا حقًا كان أم باطلاً، فالمسلمون يتخذون من الإله الحق معبودًا لهم يعظمونه ويطيعونه ويتوكلون عليه وينيبون إليه {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} وغير المسلمين يعظمون آلهة ما أنزل الله بها من سلطان {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير} [الحج: 71].
تتعدد الآلهة عند هؤلاء ويتعدد الشركاء .. وكلهم يشرعون ما لم يأذن به الله، والذين يتخذون أهواءهم آلهة من دون الله فأولئك ختم على قلوبهم وأسماعهم وجعل على أبصارهم غشاوة .. وإن خيل للناس أنهم يبصرون، وهم مرضى قلوب وإن كانوا أصحاء الأجساد {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
عباد الله الحديث هنا ليس حديثًا عن الكافرين وضلالهم وعاقبتهم وجزائهم، ولكنه حديث موجه للمسلمين الذين يعترفون بالعبودية لله رب العالمين، والذين
(1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 1/ 1427 هـ، وأعيدت في 8/ 10/ 1431 هـ
يدركون قيمة الحياة والهدف من الوجود، وهو باختصار مجمل في قوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وفي قوله تعالى {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} وليس الحديث كذلك عن معنى العبادة وتفصيلاتها .. ولكنه حديث عن الأمور التي تعين العبد على العبادة والطاعة فما هي الأمور المعنية للمسلم على العبادة - والحديث عن هذا يطيب في كل زمان .. ولكن الحاجة تشتد إليه كلما اشتدت الأحوال وتعاظمت الفتن، وكثر التفلت من الدين، واستسلم الناس للأهواء، وانقادوا للشهوات، وضعفت العبادة:
1 -
الاستعانة بالله .. فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله، وصلاح العبد في ركونه إلى الله، واعتماده عليه وطلب العون منه، وهلاكه وفساد حاله في الاستعانة بما سواه ومن أعانة الله فهو العبد الموفق، ومن خذله الله وأهانه فما له من ناصر أو مكرم.
ألا وإنه جدير بمن يقف بين يدي الله مصليًا أن يتذكر معنى ما يقوله في كل ركعة {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول ابن رجب رحمه الله «فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .. ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخزولاً» (1).
أخي المسلم هل تعلم أن الدين نصفه استعانة، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله:«التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة» (2).
(1)(جامع العلوم والحكم 192، 193 عن مجلة البيان، مقال فيصل البغدادي/ رمضان 1426 هـ)
(2)
(مدارج السالكين 2/ 113).
2 -
مجاهدة النفس .. فالنفس صعبة المراس، وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وهي أميل إلى العاجلة منها للآجلة .. ولذا يعين في التعبد مجاهدتها ومخالفتها ابتغاء نجاتها وطيب حياتها يقول ربنا تبارك وتعالى:{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} ويقول ابن الجوزي رحمه الله: النفس مجبولة على حب الهوى فافتقرت لذلك إلى المجاهدة، والمخالفة ومتى لم تزجر عن الهوى، هجم عليها الفكر في طلب ما شغفت به فاستأنست بالآراء الفاسدة، والأطماع الكاذبة والأماني العجيبة، خصوصًا إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون، وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب» (1) المجاهدة أمر رفيع القدر عالي المنزلة، قد تضعف أمامه صغار النفوس، ولا تعجز عنه نفوس الكبار، أرشد إلى المجاهدة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم واعتبره في طليعة الجهاد فقال:«المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» (2) واعتبر ابن عبد البر أن مجاهدة النفس أفضل من مجاهدة العدو (3).
على أن مما ينبغي أن تعلم أن مجاهدة النفس وسط بين الإفراط والتفريط، فمن أرخى العنان لنفسه أهلكته، ومن ألجمها حتى عن المباحات والطيبات أضعف سيرها وقصر في واجبها، قال العالمون أعجب الأشياء مجاهدة النفس لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقوامًا بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
3 -
ومما يعين على التعبد تنويع الطاعات والترويح بين العبادات، حتى لا تمل النفس وتكل وحتى يكون للعبد أسهم متعددة في الخير، وطرق كثيرة
(1)(ذم الهوى/ 36)
(2)
رواه أحمد (23997، وابن حبان (4624) وصحح الأرناؤوط سنده)
(3)
(الاستذكار 8/ 287).
للجنة .. بين صلاة وصيام، وذكر وتلاوة قرآن، ودعوة للخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإحسان للخلق، وصدقات وصلات، وأخلاق فاضلة وظنون حسنة، وأدب وتربية .. إلى غير ذلك من أنواع القربات .. وحبذا لو حاسب العبد نفسه كل حين يوم أو كل أسبوع أو كل شهر عن أنواع الطاعات التي مارسها وتقرب إلى خالقه بها، حتى يكتشف نفسه فإن وجد خيرًا حمد الله وزاد، وإن وجد خللاً أو تقصيرًا سدد الخلل واستغفر وأناب.
4 -
ومع تنويع الطاعات فثمة معين آخر لا يكلف النفس إلا استحضار النية ألا وهو توسيع دائرة التقرب فمهما اجتهد المرء في العبادات المحضة فإنها تبقى معدودة، وقدرته عليها محدودة .. ولذا فتح الرحمن على عباده الموفقين للخير أمورًا تمكنهم من خلالها توسيع دائرة تقربهم ومن ذلك: أ- احتساب الأجر في الأمور المباحة .. والتي قد يراها الإنسان أمورًا عادية أو واجبة عليهم، كالنفقة على الأهل فهي مع الاحتساب قربة لله وطاعة قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» (1). فهل نحتسب النفقة على أهلينا وأولادنا في عداد الصدقات .. دون أن يكون لذلك أثر على الصدقات الأخرى؟ ومثل ذلك يقال في احتساب الأجر في العمل الوظيفي والتعليمي والبيع والشراء وسائر المباحات فقد يتحول من عادة إلى عبادة ومن مجرد واجب يؤدي إلى دعوة للخير يثاب فاعلها.
ب- ومن ذلك كذلك الهم بنية الخير وإن لم يعمل المرء لعارض أو سبب .. فذلك مؤشر على طيب النفس وحب الخير، ومنهج لنشر الخير ومحاصرة الشر، وربنا يحاسب على الخردل والقطمير، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب
(1) رواه البخاري (5351)
الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشرة حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة» (1). ومن وصايا الإمام أحمد لابنه:«يا بني انو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير» ألا أنها دعوة لاستحضار نية الخير دائمًا، والتفكير في إرساء دعائم الحق ونصرة الحق، والدعوة للهدى والبعد عن الشر ومهالك الردى، ومن لم يعمل الخير فلا أقل من أن يتمنى فعله، ومن لم يكن من الأخيار فلا أقل من محبتهم. إنه تدريب للنفوس وحض لها على الخير.
جـ- ومن ذلك إرادة أكثر من قربة بالعمل الواحد، إذ من الممكن عمل أكثر من طاعة في جهد واحد - وذلك لا يحتاج إلا إلى احتساب نية الأجر المتعددة كمن ينوي بمكثه في المسجد انتظار الصلاة، والاعتكاف، وكثرة الذكر، وينوي بأكل الطعام الحلال البعد عن الحرام، والتقوي على الطاعة، وشكر المنعم، وهكذا ..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].
(1)(رواه البخاري 6491).