الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشكر والشاكرون
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان إمامًا للشاكرين ونموذجًا للصابرين. أيها الإخوة المسلمون ما بنا من نعمة فمن الله، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
ابن آدم أنت في مبدئك ومنتهاك وفي حال ضعفك وقوتك وصحتك وغناك، وبكل ما تتربع عليه من نعم ويدفع عنك من نقم .. أنت من فضل الله وجوده وكرمه وإحسانه .. شكرت ذلك أم كفرته أدركت هذه النعم أم غاب عنك بعضها.
أجل إن من أسماء الله الحسنى (الشكور) وهو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطى بالعمل في أيام معدودات نعيمًا في الآخرة غير محدود، ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال أنه شكر، فإذا نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا الله عز وجل لئن زيادته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة، ذلك أن نعيم الجنة لا آخر له، والله يقول:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
(1) ألقيت هذه الخطبة في 9/ 3/ 1430 هـ
يا أخا الإسلام الله يهدي للتي هي أقوم ثم يشكر المهتدي وينعم بالصحة والمال ويشكر العابد المنفق، وينعم بالعقل ويشكر المتفكر المؤمن، ويهدي لأحسن الأخلاق والأعمال، ويجزي صاحب الخلق والعمل الحسن.
يا ابن آدم أين تفر من الشكر لله، وأنعمه تحاصرك في ضعفك وإقامتك، وفي حال سرائك وضرائك نعم تترى في اليقظة والمنام، وفي الليل والنهار، سرًا وجهرًا، ظاهرًا وباطنًا .. عافية وأمان، وأموال وأولاد، ومباهج لا تحصى .. حتى إذا ضعفت وتجاوزت حدود الله سترك وأعطاك فرصة للتوبة والندم.
حتى إذا نسبت وغفلت ذكرك واعظ الله علك أن تفيق وتتذكر ..
حتى إذا مرضت وعجزت كتب الله لك من الأجور والحسنات مثل ما كنت تعمل يوم كنت سليمًا مقيمًا ..
يا عبد الله كن من الشاكرين حقًا فهم كما قال الله: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13].
ولا تحسبن الشكر مجرد كلمة تمر على اللسان مرورًا عابرًا فالشكور - كما قال العالمون - ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة (1).
الشاكر هو من يشكر على الرخاء بزيادة الثناء وعدم البطر ويشكر على البلاء بزيادة الصبر والإمساك عن الشكوى.
إخوة الإسلام ولعظيم منزلة الشكر قرنه الله بالإيمان فقال: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147].
والشاكر هو من يرى عليه أثر الشكر ثناءً على الله وقيامًا بواجبات الله،
(1)(ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 244).
وانتهاءً عن المحرمات من سيما الشاكرين البكاء تعظيمًا وخوفًا .. هم الشاكرون الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.
الشاكرون يتواضعون وإن كانوا كبارًا، ويسارعون للخيرات وإن كانوا لها سابقين ..
يحتاج الشكر إلى إعانة من الله .. والدعاء واحد من مفاتح الشكر، فاسأل ربك أن يجعلك في زمرة الشاكرين ولقد كانت وصية المحب لمن أحب بالاستعانة بالله على الشكر، فقد أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال:«يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (1).
وقد كان من دعاء الصالحين {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
…
}.
يا عبد الله ويعينك على الشكر أن تنظر إلى من فوقك في الدين فتقتدي به، وتنظر في دنياك إلى من هو دونك فتحمد الله على تفضيل الله لك عليه، وقد ورد في الأثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر إلى دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا» (2).
(1) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 280).
(2)
أخرجه الترمذي وقال حسن غريب (2512) وضعف إسناده محقق جامع الأصول (11/ 697)[نظرة النعمة 6/ 2409].
يا مسلم يا عبد الله كن شاكرًا تكن في قافلة الأنبياء والصالحين فنوح عليه السلام {إنه كان عبدًا شكورً} وإبراهيم عليه السلام وصفه ربه {شاكرًا لأنعمه اجتباه} ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ، وآل داود قيل لهم:{اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور} لقد أمر الله بالشكر {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} ونهى عن ضده {ولا تكفرون} .
وأثنى على أهله ووعد بجزائهم {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم (تفسير ابن كثير 1102). الشكر من أعلى المنازل، وهو فوق (الرضا)
وحيث سمى الله نفسه شاكرًا، وشكورًا، فقد سمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه، وحسبك بذلك محبة للشاكرين وفضلاً (1).
يا أخا الإسلام وثمة قواعد خمس بها يعرف الشاكر، قال عنها ابن القيم رحمه الله: والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثنائه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره (2).
والشكر معه المزيد أبدًا لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
وإذا اشترك مع المسلمين غيرهم في الشكر على المحاب - وإن تميز المسلمون على غيرهم بكمال الشكر في هذه الدرجة .. فثمة درجة يتقدم المسلمون على غيرهم وربما اختصوا بها ألا وهي الشكر على المكاره و «عجبًا
(1)(ابن القيم: مدارج السالكين 2/ 252/ 253).
(2)
(السابق 2/ 254).
لأمر المؤمن إن أمره له كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك لأحد إلا المؤمن».
كما يختصون بالأجر على الحمد، وقد صح الخبر «
…
ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة» (1).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
(1)(صحيح الجامع الصغير 2/ 96).