الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملحمة الإيمان وانتصار غزة
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ..
أيها الإخوة المسلمون ولا نزال في شهر الله المحرم، وهو شهر الإيمان والصدق واليقين والتوكل، إنه شهر الملحمة والنصر، والعسر واليسر، والنجاة والهلاك محرم شهر الصبر والشكر، والمدافعة والبلاء، لقد ابتلي المؤمنون من قوم موسى عليه الصلاة والسلام حين اتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا واضطرهم المسير ليلاً إلى الانتهاء إلى ساحل البحر، وأحسوا أنهم مدركون وهالكون فالعدو الظالم من خلفهم، والبحر الهائج أمامهم .. وأين المفر؟ إلا إلى الله الغالب المقتدر .. وكانت اللحظة حاسمة، وكان يقين المؤمن المرسل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو يتصور عظمة الله وقدرته وهدايته ونصره للمؤمنين ويقول بكل ثقة وتوكل {كلا إن معي ربي سيهدين} وانفلق البحر فكان {كل فلق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لأية} .
وكما استحالت النار من قبل - بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله، فقد استحال البحر العميق المضطرب يبسًا في زمن موسى حتى لا يخاف هو والمؤمنون معه دركًا ولا يخشى.
جلت قدرة ربنا إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، ومن ينصره فلا غالب له، وكذلك يتعلق المؤمنون بمعاقد الإيمان في كل حين، ويزيد تعلقهم في أزمان
(1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 1/ 1430 هـ[أول خطبة في جامع قرطبة]ـ
الكروب والشدائد والإرجاف والتهديد.
إنها رحمة الله لا تعز على طالب يتقي ويصبر ويؤمن به ويتوكل عليه، وكما وجدها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، فقد وجدها يونس عليه السلام وهو في قاع البحر في ظلمات ثلاث، ووجدها يوسف عليه السلام وهو في قاع الجب وغياهب السجن .. وجدها فتية آمنوا بربهم واستحال كهفهم رحمة نشرها الله وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا ..
إنها أبواب السماء تفتح لأهل الإيمان حين تغلق أبواب الأرض، ومخارج للأزمات يهيؤها الله لأصحاب التقوى من حيث لم يحتسبوا، ورحمة الخالق جل وعز تعوض ما فقد من رحمة الخلق، ومهما كاد البشر ومكر الماكرون فالله من ورائهم محيط، وهو خير الماكرين.
إخوة الإسلام .. وقافلة الإيمان تسير ما بقي على الأرض مؤمن، وما حطت قوافلها أو توقف مسيرها - لاسيما في تاريخ خير أمة أخرجت للناس، فكانت لها المغازي والسرايا، وقوافل الفتح الإسلامي .. حتى إذا أصاب الأمة ما أصابها من الوهن والفرقة واستيأست من النصر على أعدائها هيأ لها من الأسباب ما تعيد به الماضي المجيد، ولا يزال الله يبعث لدينه ناصرًا ..
ومن أرض الإسراء ومن أكناف بيت المقدس كانت ملحمة غزو العزة، بعد سنوات عجاف من الحصار والأذى - وأعاد التاريخ نفسه شرذمة قليلة يتهمون ثم ينتصرون، وقتل للأطفال والنساء للضغط والإهانة، والمحاصرة ثم ينقلب السحر على الساحر ويزايد الفراعنة المعاصرون بهدم البيوت والمساجد، وضرب المدارس والمشافي، وإحراق الحرث والنسل .. يا لها من كوارث تشيب لها النواصي ويسجلها التاريخ عارًا وشنارًا على إخوان القردة والخنازير .. ويسجلها عزًا وصبرًا وثباتًا ومكرمة لأهل غزة الصامدين.
شاء الله أن يتجرد أهل غزة وحدهم في المعركة .. وأن يتحملوا وحدهم آثار الحصار من البر والبحر والسماء وعلى صدور أطفالهم وشيوخهم ونسائهم تجرب الأسلحة المسموحة والممنوعة وتشتعل الحرائق هنا وهناك أشلاء ودماء، وآهات وعبرات، ظلام دامس لا يضيؤه إلا نيران القنابل الفسفورية المضيئة ومصير مجهول لأكثر من مليون ونصف مليون يقولون ربنا الله شتاء قارس، وقلة في الأطعمة وندرة في المياة، وبين الأنقاض تسمع الأنين وعلى مرأى العالم كله نسجل الصورة ما تعجز عنه الكلمة ثم تتلاحق اللعنات على اليهود من المسلمين وغيرهم ومن عجب أن تسمع في ظروف المحنة أصوات التكبير للمقاتلين .. وترى وتسمع أصوات الشهادة للمحتضرين .. يا الله أتعود بنا الذاكرة لبدر والأحزاب .. واليرموك وحطين؟ وتذكرنا الفئة القليلة المؤمنة الصابرة المنازلة للعدو بقوله تعالى:{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} ، وبقوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} .
شاء الله وقدر أن تبقى هذه الفئة المؤمنة المستضعفة وحدها في الميدان، ليعلم الناس أن النصر من عند الله، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وأن الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورآء الناس ويصدون عن سبيل الله، الله من ورائهم وبما يعملون محيط، ووقع الوعد الحق {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
ومع فارق العدد والعدة ومع الحصار وقلة المعين لاحت بوارق النصر للمجاهدين في غزة. وكان النصر بهيجًا لأن القضية الكبرى (فلسطين) تهم المسلمين، ولأن المنهزم أشد عداوة للمؤمنين، ولهذا فلم تكن الفرحة لتضيء صدور وسماء فلسطين فحسب، بل كان بها متسع لإضاءة صدر وأرض كل مسلم
تعنيه فلسطين، ويهمه أمر المسلمين {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء} وسار الأمل في الأمة بعد طول يأس وإحباط، وثمة منح ربانية من أكوام المحن والرزايا {وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} ، نعم ثمة انتصار في زمن الهزائم، وعزة في مواسم الذل، وصدق في أسواق الكذب، وتقدم في زمن التراجع، خشوع طالما غاب فعاد حيث بكت العيون، وارتعشت الجوارح لهول المصائب في فلسطين، واستغاث المسلمون ربهم بالدعاء فاستجاب لهم.
إخوة الإسلام وتجسد على أرض الواقع جسد الأمة الواحدة، فلئن اشتكت أعضاء في غزة فقد تحركت وتداعت لها أجساد في طول الأرض وعرضها ولئن ماتت أنفس- نحسبها في عداد الشهداء - فقد أحيا الله بها ملايين الأنفس من المسلمين وربما من غير المسلمين - ولئن قتل في هذه المعركة الظالمة عدد من الأطفال الفلسطينيين فقد ولد أضعافهم في فلسطين، ووعى أطفال آخرون بقضية لم تكن في ذاكرة اهتمامهم من قبل .. إنها المقاومة تحاصر في فلسطين لتدخل كل بيت .. والبغض لليهود يتجاوز الأرض المباركة ليشمل الكرة الأرضية كلها {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} .
يا أيها المسلم من حقك أن تفرح لكن ليكن فرحك تصحيحًا للإيمان، وتوبة من الذنوب، وشكرًا للخالق، ومجاهدة للنفس، ودعوة للإسلام هنا تتسع دائرة النصر .. وتتضاعف أعداد المنتصرين، ويعود للمسلمين مجدهم الأثيل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} .
نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه ..