الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخيانة بئست البطانة/ أنواع، نماذج، آثار
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله أمر بالعدل والتقوى، ونهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله يحب التوابين والمتطهرين والمقسطين وأعلى مكانة الصادقين، وذم الخونة والكاذبين فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الصادقين وإمام المتقين، وتعوذ من الخيانة فقال:«وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» (2) اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
إخوة الإسلام: خلق ذميم، وظاهرة تستشري وتتجدد بين القديم والحديث، مضعفة للقوى، محطمة للآمال تسقط العروش، وتهدم البيوت، وتسرع بزوال الدول والأمم تلكم هي الخيانة وبئست البطانة.
كم تعيش الأمم من غصص الخيانة، وكم بليت المجتمعات بهذا الداء النكد، وكم نحن بحاجة إلى فهم قبح الخيانة وآثارها على الفرد والمجتمع، وكم نحن بحاجة إلى التذكير بنماذج مرة للخيانة، وما أحوجنا إلى فضح الخونة والحذر من أساليب وأنماط الخيانة، وحاجتنا أشد إلى الأمناء المخلصين.
إننا - معاشر المسلمين - أمة قامت شريعتها على أساس من الصدق والنصح والعدل والصراحة والوضوح وسطر ساستها وقادتها نماذج عالية في حمل
(1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 7/ 1425 هـ.
(2)
(صحيح سنن أبي داود 8/ 263)
الأمانة، ورفض الخيانة، لا تغريهم الدنيا، ولا يبيعون أمتهم وشعوبهم بأبخس الإيمان ..
وحين وجد في الأمة المسلمة خونة مارقون وجد الأعداء فرصتهم للتسلل، فضاعت الديار، وانتهكت القيم، واستبيحت الأعراض، وكان حال الأمة من التشرزم والضياع بحال لا تحسد عليه.
إن الخيانة أنماط وأنواع كثيرة، ولكنها جميعًا مرة الثمرة، وخيمة العاقبة، بالغة الأثر.
هناك خيانة لله، وخيانة للرسول، وخيانة للأمانات، وثمة خيانة زوجية، وخيانة للصديق والحميم، هناك خيانة في العمل، وخيانة في التعامل، وهناك خائنة الأعين، وخائنة الضمائر، وثمة خيانات في السياسة والاقتصاد، والإعلام والتعليم ونحوها.
إنها مسئوليات جسيمة، ومواقع، ومحطات مهمة، والخيانة في أي منها، خيانة للفرد والمجتمع والدولة والأمة.
الخيانة شبح مخيف، وداء عضال، ومرض يسري، إنها غياب في الوازع الديني، واغتيال بشع للمروءة والأخلاق، أنانية ممقوتة، ومؤشر للحقد، ودليل على اللؤم، لا يقدم عليها أكابر الرجال، ولا يرتضيها، أصحاب الشهامة والكرامة.
وهاكم نموذجين في القديم والحديث ضاعت بسبب الخيانة فيهما بلاد المسلمين وتسلط الأعداء عليهم واستباحوا حماهم، وتطاولوا على قيمهم وإسلامهم.
والنموذجان كلاهما في بلاد الرافدين، وفي بغداد على وجه التحديد، سقطت الخلافة العباسية نتيجة مؤامرة لئيمة وخيانة الوزير الرافضي ابن العلقمي وذلك حينما كاتب التتر وطمعهم في دخول بلاد المسلمين، وأضعف جيش الخلافة، وغرر بالخليفة - حين رضيه مستشارًا ووزيرًا، فكانت الكارثة، وكانت
خيانة ابن العلقمي ركنًا أساسيًا فيها حتى قال الصفدي عنه: «سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد» (1).
وابن العلقمي الرافضي هو الذي حفر للأمة قليبًا فأوقع فيه قريبًا - كما قال الذهبي (2).
ألا ما أعظم خطب الأمة حين يستوزر المنافقون، ويستنصح الخونة ويستشار المفسدون، وفي التاريخ دروس لمن عقل يقول الذهبي: استوزر (الخليفة) المستعصم ابن العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل، وحسن له جمع الأموال وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم (3).
وقال ابن كثير عنه: «إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرض الطريقة» (4).
وقال أيضًا: «إنه كان وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين» (5).
إخوة الإسلام ويعيد التاريخ نفسه، وتتكرر مشاهد الخيانة عبر القرون - حين يتصدر القيادة الخونة، وينحى أهل العدالة والأمانة.
وفي بغداد (المعاصرة) يتكرر مشهد الخيانة، وتسقط بغداد فجأة بأيدي الغزاة الأمريكان، وكان يوم التاسع من إبريل عام 2003 م يوم صمت وحيرة وتساءل كيف سقطت بغداد بأيدي الاحتلال بهذه السرعة المذهلة ودون مقاومة؟
ثم جاءت تصريحات القادة الأمريكان لغزو العراق لنحل هذا اللغز المحير، وتجيب على هذا السؤال الملح .. كيف سقطت ولماذا استسلمت بغداد؟
(1)(الوافي بالوفيات 1/ 184).
(2)
(سير أعلام النبلاء 23/ 362).
(3)
(السير 23/ 175).
(4)
(البداية والنهاية 13/ 157).
(5)
(السابق 13/ 201).
وحملت الإجابة خيانة بعض القادة العسكريين في العراق، وصرح قائد الحملة العسكرية على العراق (تومي فرانكس) لوكالات الأنباء ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/ 5/ 2003 م قوله: إن عددًا من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا (رشاوى) من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب (1).
وجاء في صحفية (الاند بند نت) البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية: إن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ (كروز) .. وقال: إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء، وقال: إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية (2).
معاشر المسلمين كم يعاني شعب العراق اليوم من آثار هذه النكبة المروعة، بل وكم تعاني الأمة من ويلات الاحتلال في العراق .. والذي كان من أبرز أسبابه الخيانة.
أرأيتم كيف تخذل الأمة من أبنائها .. كم بليت أمتنا بمثل هذه النوعية التي باعت ضمائرها قبل أن تبيع بلادها وتخلت عن كرامتها قبل أن تسلم بلادها وشعوبها للمستعمرين إنها الخيانة مرض فتاك .. وإنهم الخونة نقطة مظلمة في تاريخ الأمة المشرق، مهما كانت دعواهم في (الوطنية) و (الصمود) وخابوا وخسروا حين يرشون بلعاعة من الدنيا وقد يقضى عليهم قبل الاستمتاع بها، وقد يقعون في القليب التي حفروها .. فهل من مدكر؟
(1)(انظر: مجلة البيان عدد جمادى الأول عام 1425 هـ/ فلنحذر الخيانة .. )
(2)
(مجلة البيان/ جمادى الأولى عام 1425 هـ المقال السابق).
{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52].
أيها المسلمون وكما يوجد في تاريخنا نقاط مظلمة وخونة مفسدون يوجد كذلك نقاط مضيئة ومشرقة، ورجال مخلصون أوفياء لأمتهم وبلادهم وإذا كان التاريخ المعاصر يحفظ للسلطان العثماني/ عبد الحميد رحمه الله وقفته الشجاعة في وجه الصهاينة اليهود الذين راودوه عن التنازل عن جزء من فلسطين مقابل دعم مادي مغر له شخصيًا وللدولة العثمانية عمومًا، بلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينته الخاصة، ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة عام، على أن يسمح لليهود ببعض الامتيازات في فلسطين.
وما أن أتم المفاوض اليهودي (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فاعتذر بعدم علمه، ثم التفت السلطان إلى اليهودي قائلاً:«اخرج من وجهي يا سافل» .
فالتاريخ يحفظ كذلك تكرر هذه المحاولات من اليهود، ويحفظ المواقف البطولية والكلمات الصادقة للسلطان عبد الحميد، ومن كلامه قوله: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبقع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي.
ومما قاله كذلك: إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعيًا، فقد خدمت الأمة الإسلامية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين .. وحين خلع رحمه الله قال: الحمد لله أنني لم أقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة في فلسطين (مجلة البيان/ العدد السابق) كم تحتاج أمتنا إلى مثل هؤلاء.