الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزو الفكري
(وسائل ومظاهر ومخارج)
(1)
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، وجعل الإسلام لنا دينًا، وأشهد أن لا إله إلا هو، لا معبود بحق سواه، ومن أعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، والمبلغ عن ربه، فهدى الله به وزكى، وعلم الكتابة والحكمة، وكان فضل الله عليه عظيمًا .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ورضي الله عن الأصحاب والتابعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين.
إخوة الإسلام .. أنعم الله على العالم بتقارب أطرافه، ويسر الله الحركة والاتصال بين بلدانه وأبنائه، قرب البعيد، وتحقق شبه المستحيل، توفرت الخدمات، وخف عناء السفريات، بل أصبح اللقاء ممكنًا -عبر الشاشات- مهما تباعدت الديار.
وكان لوسائل الإعلام المختلفة وتقنيات الاتصالات الحديثة أثر في ترابط الأمم وتشابك الحضارات، {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} .
لكن ثمة ما يخيف إلى جانب ما يفرح، وثمة آثار سلبية في مقابل الإيجابيات لهذا التقارب والاختراق، فالحضارة والفكر، والثقافة والقيم كلها بحجرها وبحرها، وبخيرها وشرها، وصحيحها وفاسدها، باتت في متناول الصغار والكبار، والرجال والنساء، والمثقفين والأميين، ومن هنا يكمن الخطر؛
(1) ألقيت هذه الخطبة في 3/ 3/ 1430 هـ.
فالغالب - غالبًا - يفرض فكره ويصدر قيمه، والمغلوب يستقبل ويستبدل، وربما استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن لم تكن لديه من المناعة ما يكفي، ناله من أعراض المرض، ومن لم يكن عنده تمييز بين الغث والسمين، شرب وشرِق، وأكل وأتخم، ثم عادت الأمراض تسري في جسده، وربما وصلت إلى القلب .. فكانت المصيبة أعظم.
أيها المسلمون .. حين يكون الحديث عن الغزو الفكري، ووسائله وأثره وكيف نتقيه، فلا بد من العلم أولًا أن دين الإسلام الذي ارتضاه الله للناس، وأنعم به على البشر، قادر على التأثير والإصلاح؛ فعقيدته نقية، وفكره كامل، ونظمه شاملة للحياة، وعزته عالية، دين قادر على التحدي والصمود، وعلى المحاورة والإقناع، ومنذ نزل -وإلى يومنا هذا- وهو يتعرض للبلاء والحرب على كافة الأصعدة، ومن كافة الجهات والجبهات، ومع ذلك يتجدد، ويتمدد، وينافح عنه قوم، ويخلفهم آخرون، وستظل رايته مرفوعة، والعلامة ظاهرة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك وعد الله:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
ولا بد من العلم ثانيًا أن من أبرز علامات ضعف الأمم أخذها بكل ما يساق إليها، من غير تمييز بين الضار والنافع، والخبيث والطيب، وأن يكون ميلها إلى التافه والحقير من الشهوات والشبهات، مثل أو أعظم من توجهها إلى معالي الأمور ومحكمات الدين.
ولا بد من العلم ثالثًا أن لدى الأعداء بضاعتين: بضاعة يزجونها إلى الضعاف، وبضاعة يمنعونها عنهم، أما التي يزجون فكل ما يسلب الأخلاق، ويدمر القيم، ويذل الأمم، ويكرس العبودية والتبعية، وأما التي يمنعون فسر
التفوق، وإكسير القوة، وأسباب التقدم (1).
أيها المسلمون .. أراد الأعداء للمسلمين قديمًا - ويريدون لهم حديثًا- أن يكونوا تابعين لمللهم، منحازين إلى فكرهم:{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} . وحيث نجح المسلمون وتفوقوا على أعدائهم فيما مضى، فلماذا تأخر ركبهم فيما بعد؟
ليس مكمن الخطر أن يتفوق الأعداء في الميدان العسكري، فالأيام دول بين الناس، والضعيف يقوى، ولكن الهزيمة المنكرة هي التراجع في القيم، والخسارة في الأخلاق، والهزيمة في الفكر، والشك في المبادئ، والتذبذب في الهوية، والغزو الفكري، والهزيمة النفسية أخطر وأبلغ أثرًا من الغزو العسكري.
وإذا كان ثمة حديث عن وسائل هذا الغزو الفكري؛ فالإعلام آلته الكبيرة، ووسائله المتعددة وسيلة كبرى من وسائل التغريب والاعتداء على الهوية، وما فتئ الأعداء يستخدمون الإعلام في نشر الرذيلة، وتسويق الأفكار المنحرفة، ونقل وافد الثقافات، كما باتت الشاشات المصنوعة بعناية - والمملوءة بالبرامج الساقطة- تغزو العقول، ويستعاض بها عن الجيوش؛ ففي جهاز الغرفة تقصف الأهداف، وعبر الشاشة تدمر القيم، وتنحر الفضيلة، ومن خلال البرامج الحوارية أو المسلسلات تصدر الأفكار، وتروج الشبهات.
ومن خلا الكتب الرديئة والمقالات في الصحف والمجلات المنحرفة، تجيّر العقول، وتحدد الاتجاهات وعبر (عولمة) الاقتصاد أو بنوك الربا، يفرض الربا، ويشاع الاحتكار، ويختلط الحق بالباطل في المعاملات، وتكون الخسائر والنكبات المالية.
(1)(ابن حميد -بتصرف يسير- توجيهات وذكرى (خطيب) 1/ 65).
وفي مؤتمرات (الحوار) التي يتبناها (غير المسلمين)، ويروح لها (المنافقون)، يظلم الإسلام ويتهم المسلمون، ويصد عن سبيل الله، وتثار الشكوك والشبهات، وكم كان (التعليم) في بلاد المسلمين وسيلة لتجهيل أبناء المسلمين بدينهم وتاريخهم، أسلوبًا لاغترابهم في فكرهم وسلوكياتهم، حين تصاغ (المناهج) على غير شرع الله، ويتولى سدة التعليم مغتربون في بلاد المسلمين فيسيئون إلى التعليم والمتعلمين.
أما (المرأة) فهي جسر عبر من خلاله (الغزاة)، واستخدمت المرأة من - حديث تشعر أو لا تشعر - أداة لتغريب الأمة وفتنة أبنائها، وكان طرح (الحجاب) مع تنقصه، و (الاختلاط) مع الإشادة به، و (الفضيلة) مع وصفها بالجمود والتقليد، و (السفور) باعتباره عنوان (التحضر والرقي) .. كل ذلك وأمثاله من قضايا تغريب المرأة .. سار في قطار الغزو الفكري، حتى بت تسير في عدد من بلاد المسلمين، ولا تكاد تفرق بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية، إلا في لغتها إن تحدثت، أو باسمها إن كتبت؟ وأريد للمرأة أن تكون أهم ناقل للعدوى وأقصر بريد للفساد - ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
إن الحديث عن آليات ووسائل الغزو الفكري لا يقف عند هذه الوسائل، بل يتجاوزها مما تعلمون ومما تنكرون .. ولكن الأهم ماذا خلف، وكيف يقاوم؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .