الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للتقوى وللمتقين ولا عدوان إلا على الظلم والظالمين.
أما بعد:
فأمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها شمسٌ لا يمكن حجب نورها .. إنها في كل بيت وعلى كل لسان، وفي كل عصر ومصر لا يكاد يخلوا منها كتاب، ولا يكاد تخطئ فضائلها عين أو تغيب مناقبها عن السمع، هي ملئ السمع والبصر، وحمقى أولئك الذين يشغبون عليها، أو يظنون أنهم يحتجبون شيئًا من أنوارها.
وبعد - إخوة الإسلام - ففي سورة النور نور وفرقان وبلاء وبهتان، صال المنافقون وأرجفوا واتهموا بيت النبوة - وراموا النيل من الإسلام وأهله - حتى إذا زلزل أهل الإيمان كشف الله الغمة، وفضح أهل النفاق والظغينة، ومع عظم البلاء نزلت البراءة من السماء فكانت بيانًا وتزكية للصديقة عائشة إلى يوم الدين {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ولقد وقف المفسرون عند آيات الإفك وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فقال ابن كثير: هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن (1).
(1)(تفسير ابن كثير عند آية النور 23، 3/ 456).
وقبله قال القرطبي عند قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (النور: 17). (فكل من سبها بما برأه الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر)(1).
كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول على شاتم الرسول- عن القاضي أبي يعلى رحمهما الله قوله: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف (صـ 571) عن ما يجب أن يعرفه المسلم عن عقيدة الروافض (2).
إخوة الإيمان لن يضير أم المؤمنين إرجاف المرجفين وقد تولى الله بنفسه الدفاع عنها وتبرئتها بل كلما زاد الإرجاف والبلبلة والتهم الباطلة زاد معه الحب لعائشة، وعلم الناس من فضائلها ومقامها ما جهلوا .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون، إنها لا تحتاج إلى دفاع أحد بعد دفاع الله عنها، ولن يضرها شماتة المرجفين وبغض الحاقدين وقد أحبها خيرة خلق الله أجمعين.
ولكن السؤال المهم: ماذا وراء الإرجاف والبلبلة في صديقة الأمة؟ ولئن استهدفت عائشة رضي الله عنها ظاهرًا فوراء الأكمة ما وراءها، والمشروع المتآمر بتجاوز عائشة إلى استهداف رموز الإسلام وحملة القرآن والسنة (والخيران) أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهم ليسوا بمعزل عن تهم من الأخلاق لهم، وإنه لمن العيب والعار أن تنسب مصنفات لأهل الإسلام جاء فيها كما يقول المجلس: «ومما عد من ضروريات دين الإمامية استحلال المتعة، وحج التمتع، والبراءة من
(1)(تفسير القرطبي 12/ 206).
(2)
أحمد الحمدان/ 82.
أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية» (1).
بل يتجاوز الطعن إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم حيث اتهم بيته ورميت بالفاحشة حبيبته، بل يتجاوز الطعن من شخصه إلى سنته حيث روت عائشة رضي الله عنها طائفة كبرى من سننه، وقد بلغ ما أسندته ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2) بل يروم المغرضون والطاعنون في أم المؤمنين التشكيك في أحكام الدين، وقد قيل إن ربع أحكام الشريعة منقول عن عائشة رضي الله عنها (3) ويرومون التشكيك في القرآن وتكذيب آياته، ويبلغ التطاول مداه حين يكون على رب العالمين حيث يعترض على تبرئته لها من فوق سبع سموات .. فماذا بقي؟ وأي إسلام هذا؟
إن القضية التي يدور رحى فتنتها هذه الأيام، ليست وليدة اليوم، وليست مجرد نزوة فردية .. بل هي عقيدة راسخة، وتراث تتجدد طبعاته وهو يفيض بالطعن والسب لا لعائشة بل لجمهور الصحابة .. وخليق بأصحاب هذا المذهب أن يعلنوا براءتهم منه أن كانوا رافضين لسب أم المؤمنين عائشة .. إننا نقبل من الشيعة أن يستنكروا الطعن في أم المؤمنين عائشة، لكنا لا نقبل أن تظل مصنفاتهم ومصنفات مشايخهم لها فحةً بالسب والتهم لخيار الصحابة، ولا أن تظل مواقعهم وقنواتهم مليئة بالسخرية والسب لخيار الأمة ولسنا أغبياء بدرجة كافية. إنها ثقافة متجددة، ودول تخدم المذهب وتسيس الدين وتصدر الثورة وتشعل الفتنة، وعلى المسلمين كافة أن يتنبهوا للخطر وحجم المنكر، ولا يجوز بحال وفي زمان اصطفاف المسلمين في مواجهة التحريف والتشويه
(1)(الاعتقادات للمجلس ص 90 - 91 عن أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية د. ناصر القفاري 2/ 729، 730).
(2)
(الذهبي: السير 2/ 139).
(3)
(الفتح 7/ 107).
والسخرية بالإسلام ونبيه، والتهديد بإحراق القرآن واتهام أهله- أن تزيد طوائف تنسب إلى الإسلام وأهله الطين بلة، وتوسع دائرة التهم والسخرية والبلبلة والفتنة، وعلى كل من سعى بالفتنة وفرق الصف من الله من يستحق، والمكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وما تعرض أحد لأهل الإسلام الكبار بسوء إلا خذله الله في قديم الزمان وحديثه أما أم المؤمنين فستظل منارة يقتبس منها أهل الإسلام، وستظل شهابًا محرقة لأهل الزيغ والزندقة والفساد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
ولم يكن الشعر والشعراء بمعزل عن مشهد عائشة والثناء عليها والدفاع عنها، ولاسيما ممن أيده الله بروح القدس، فحسان بن ثابت رضي الله عنه يقول في عائشة -كما رواه ابن إسحاق-:
رأيتك -وليغفر لك الله- حرة
…
من المحصنات غير ذات غوائل
حصان رزان ما تزن بريبة
…
وتصبح غرثي (1) من لحوم الغوافل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
…
كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها (2)
…
وطهرها الله من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتوا
…
فلا رفعت سوطي إلي أناملي
وكيف وودي ما حببت ونصرتي
…
لآل رسول الله زين المحافل
فإن الذي قد قيل ليس بلائط (3)
…
ولكنه قول امرئ متماحل (4)
(1) جائعه أي كافه عن أعراض الناس.
(2)
طبعها وأصلها.
(3)
لازق أو لائق.
(4)
(السيرة لابن هشام 3/ 324، السير للذهبي 2/ 163، والاستيعاب لابن عبد البر 13/ 90).
وحينما قيل لعائشة أن حسانًا شارك في حديث الإفك اعتذرت عنه وقالت أليس هو الذي يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي
…
لعرض محمد منكم وفاء (1)
ومما ينبغي أن يعلم أن الحملة المرجفة وتهم عائشة بالفاحشة ليست الأولى من نوعها، فقد سبقها بالتهمة طاهرون وطاهرات، فيوسف عليه السلام قيل عنه {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلَاّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومريم قال لها قومها:{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} .
قال القرطبي: قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وأن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن، فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي برأها الله بكلامه من القذف والبهتان (2).
(1)(الاستيعاب 13/ 92).
(2)
(الجامع لأحكام القرآن 12/ 212).