الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن في غوانتناموا .. تدنيس أم تكريس
؟ (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوحى إليه ربه بشأن القرآن وأنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.
أيها الإخوة المؤمنون نزل الوحي من السماء معظمًا، وكان الوحي عماد شريعة الأنبياء، كانت صحف إبراهيم وموسى، وكان التوراة والإنجيل، والزبور، ثم كان القرآن فرقانًا ومهيمنًا ومصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
واندرست الكتب السماوية وبقي القرآن الكريم محفوظًا عليًا {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
أجل إن حفظ القرآن معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن الإسلام رسالة الله الأخيرة للبشر ..
بالقرآن حفظت أخبار الأنبياء ودعوتهم وأخبارهم مع أقوامهم، وبالقرآن
(1) ألقيت هذه الخطبة في 12/ 4/ 1426 هـ.
كانت الإشارة إلى شرائع السماء بالقرآن قص أحسن القصص، وبالقرآن أحكمت الشريعة فلا نسخ ولا تبديل إلا ما أتى الله بخير منها أو مثلها وفي حياة محمد صلى الله عليه وسلم فقط وبعد موته انقطع الوحي من السماء، وتوارثت أمة الإسلام هذا القرآن تحفظه في الصدور، وتجده مكتوبًا في الألواح والمصاحف، ومهما أصاب الأمة من نكبات وخطوب، ومهما اجتاح العدو أرضها أو دمر ما دمر من حضارتها فقد بقي القرآن شاهدًا على التحدي، برهانًا على الحفظ والإعجاز .. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وكلما ضعف المسلمون عن القرآن هبت صيحات تنادي بالعودة إلى كتاب الله، فينبعث للقرآن جيل جديد، وتنبعث همم لحفظه وتدريسه والعناية به وبعلومه، وتنشأ مؤسسات ودروس ومعاهد وجامعات للقرآن.
وعلى مر العصور وللقرآن رجال ونساء يحييون الليل بالقرآن قراءة وتدبرًا وبكاء وخشوعًا.
وعلى اختلاف الدول كان للقرآن سلطان، به يساس الناس، وبأحكامه يؤخذون، وبهديه يهتدون.
وعلى اختلاف الأحوال حضرًا وسفرًا وحجة ومرضًا كان القرآن للمسلم رفيقًا ومؤنسًا يتلوه المسلم قائمًا وقاعدًا وعلى جنب وبقي القرآن خير جليس ومؤنس في حال الغربة والوحشة فالقرآن يتلى في غياهيب السجون .. ويترنم السجناء بآياته وهم في قبضة الأعداء يسامون سوء العذاب، ويعاملون بوحشية مفرطة ويعزلون عن أهليهم ومجتمعاتهم في جزر بعيدة الأعماق نائية عن الأمن والإيمان هناك في «غوانتناموا» يسمع دوي للقرآن، وينفس المكروبون عن أنفسهم بترتيل القرآن، ويناجون ربهم بالقرآن.
ولكن الظلم يتجاوز الحدود، وكرامة الإنسان تهان إلى الأذقان، بل وشرائع
السماء ووحي الله تنتهك إلى حد لا تكاد تصدقه العقول.
أجل لقد نشرت وسائل الإعلام العالمية - وفي مقدمتها وسائل إعلام الغرب - عن انتهاك الجنود الأمريكان للقرآن في سجن غوانتناموا .. مزق القرآن وأهين في المراحيض .. وذلك كأسلوب من أساليب الأذى والتعذيب للسجناء المسلمين هناك ..
ولكن الحادث أبعد مدى وأوسع انتهاكًا، فهو تحد سافر للمسلمين، وهو استفزاز أرعن لمشاعر أكثر من مليار مسلم .. وعلى أثرها احتجت دول، وتظاهرت شعوب وصدرت بيانات واستنكارات من هيئات ومجمعات ولجان ومنظمات إسلامية.
ولقد عبرت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي باسم شعوب الأمة الإسلامية وعلمائها وفقهائها عن سخطهم الشديد واستنكارهم الكبير لما نقلته وكالات الأنباء العالمية استنادًا إلى مجلة (نيوزيك) الأمريكية الصادرة في 9 مايو 2005 م من أخبار مزعجة حول قيام بعض جنود الجيش الأمريكي في قاعدة «غوانتناموا» الأمريكية بكوبا بتدنيس المصحف الشريف وإلقائه في المراحيض، قصد إيذاء السجناء المسلمين ومن وراءهم من عامة المسلمين وأهل الديانات الإلهية المعترفين بأن الكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو كمثله من الكتب المقدسة- التوراة والإنجيل- واجب احترامها وتقديسها.
وأشار البيان إلى أن هذا الانتهاك من أشد الموبقات جرمًا، ولا يمكن للمسلمين التسامح فيه (1).
(1)(جريدة الجزيرة 9/ 4/ 1426 هـ).
أيها المسلمون: ومع أهمية هذه البيانات المستنكرة فينبغي للمسلمين حكومات وشعوبًا ألا يقفوا عند حدود التنديد، بل يواصلوا استنكارهم حتى توقع العقوبة الرادعة على المجرمين ومن وراءهم، وحتى يعلم العالم أن الإسلام عزيز في نفوس أتباعه، وأن القرآن عظيم في قلوب أهله، وأن للمستضعفين من يناصرهم ويدافع عن حقوقهم وكرامتهم.
فالسجناء المسلمون هناك أوذوا وعذبوا وانتهكت حقوقهم وقد آن الأوان لنصرهم والدفاع عن حقوقهم.
وينبغي أن تعري أنظمة العرب المدعية لحرية الأديان، والزاعمة لتأمين الديمقراطية للشعوب، وها هي اليوم تمارس العنصرية والاستبداد والانتهاك بأبشع صورها، وترسم مشهدًا موحشًا للغرب وجنوده، يتجاوز الإساءة للبشر إلى الإساءة وقلة الأدب مع الله وكلامه ووحيه، ويطال ذلك شرائع السماء كلها.
اللهم إنا نبرأ إليك مما صنعه المجرمون ونسألك أن تسلط عليهم من ينتقم منهم إنك قوي شديد المحال.
وبالمناسبة نذكر المسلمين ولا سيما من أهل الكتاب أن القرآن خطعت لعظمته الأفئدة وخر للأذقان سجدًا أهل العلم من أهل الكتاب حين تلي عليهم وسجل الموقف الرهيب في القرآن وتحدى الله من أعرض عن القرآن ولم يؤمن به فقال تعالى مادحًا لأهل العلم من أهل الكتاب، وقادحًا على من كذب به وأعرض عنه من أهل الأوثان {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].
قال السعدي رحمه الله: وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب
كعبد الله بن سلام وغيره، ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك (1) والمشهد هنا يفوق الوصف ولا تكفي الألفاظ لتصوير الموقف فتنسكب الدموع معبرة عما يجيش في الصدور ..
أمن هؤلاء المدنسون للقرآن والمحرفون لما أنزل على الرسول ممن سبقهم من نصارى قال الله عنهم {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .
اللهم اجعلنا من أهل القرآن.
(1)(تفسير السعدي 4/ 322).