الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عالمية الإسلام وواقع المسلمين ومستقبلهم
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
إخوة الإسلام: الإسلام الذي تدينون الله به وتتشرفون بالانتساب إليه، دين عالمي، رضيه الله للناس كافة، وختم به رسالات السماء، ولا يقبل الله من أحد دينًا سواه {رضيت لكم الإسلام دينًا} {ومن يبتغي غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} .
ابتدأت عالمية الإسلام مبكرة في زمن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنزل الله عليه قوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [سبأ: 28] وهو محاصر مطارد في شعاب مكة، لم يستطع حينها من إقناع قومه (القرشيين) بالإسلام فضلًا أن يطلب من غيرهم الإيمان والإسلام.
لكنها رسالة الإسلام هكذا ينبغي أن تكون، وكذلك ينبغي أن يستشعرها ويحملها المسلمون، فإن قصروا أو ضعفوا عن البلاغ والمجاهدة في وقت فلا ينبغي أن ينسوا طبيعة هذا الدين، وضرورة إبلاغه للعالمين، أينما مكنتهم الظروف.
أجل لقد فهم محمد رسول الله والذين آمنوا معه طبيعة هذا النداء الرباني العالمي وشعروا بواجبهم تجاه العالم الآخر ولئن كابروا وتجاهل قومهم قيمة هذا الدين وحاربوا المؤمنين وآذوهم، فينبغي أن يحمل الدين إلى أرض أخرى وإلى قوم آخرين قد يكونون أكثر عدلًا وأحسن استجابة لنداء الفطرة الإلهية،
(1) ألقيت هذه الخطبة في 28/ 7/ 1426 هـ.
وكانت الهجرة للحبشة- في زمن النبوة- نموذجًا للعالمية في دين الإسلام. وإلا ففرق بين الوطن الحبيب مكة، وأرض النعضاء البعداء- الحبشة- كما تصفها إحدى المهاجرات.
وفرقة بين العرب والأحباش ثم كانت الهجرة للمدينة وكان الأوس والخزرج- وهم من أصول يمانية- أقرب للمسلمين المهاجرين من إخوانهم وعشيرتهم القرشيين وتشكل في المدينة رباط إيماني تجاوز العشيرة والقبيلة والأرض والوطن إلى أجواء العقيدة الحقة وقضاء الإخوة الإسلامية والأرض والوطن إلى أجواء العقيدة الحقة وفضاء الإخوة الإسلامية، وجاء الثناء عليه من فوق سبع سماوات {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} (1){وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حدثًا جديدًا لم يشهد له التاريخ مثيلًا في زمن الحروب الطاحنة والنعرات القبيلة والخصومات الجاهلية السائدة، وضيق العطن في التقوقع ضمن دائرة ضيق غاوية يعبر عنها الشاعر حينها بالقول.
وهل أن إلا من غرية إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وفي المدينة تشكل مجتمع جديد تقوم علاقاته وتتوطد أواصره على الإيمان بالله وتنحصر محددات الكرامة فيه على (التقوى){إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
(1) أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ.
مع بقاء «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» .
واختلط العربي بالفارسي والرومي بالحبشي وتعايش الأسود مع الأبيض واختلط الغني بالفقير، وقدموا للإنسانية جمعاء نموذجًا تعجز كبرى الحضارات السالفة واللاحقة عن تحقيقه، وتقف أكبر القوى البوليسية والنازية والقمعية عن تطويق؟
وصنعه الإسلام العظيم، وأشاد به القرآن الكريم وإنما المؤمنون أخوة، والمتتبع لأحداث السيرة النبوية يرى هذه العالمية في نقل رسالة الإسلام هدفًا للنبي المختار عليه الصلاة والسلام، وهاجًا لأتباعه المؤمنين من بعده ..
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد حرص على هداية قومه ودعوتهم حتى آخر لحظة، وكتب الله لبعضهم الهداية والرشد، ومات على الضلالة والكفر من أراد الله الشقوة والنكد، وربك أعلم وأحكم ولا يظلم أحدًا.
وحين حيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا وحلفاءها بمعاهدة (الحديبية) وأدب اليهود المناوئين في (خيبر) وكسر شوكتهم، توجه بعد ذلك بخطة راشدة وتخطيط سليم للدعوة العالمية مخاطبًا الرؤساء والملوك والأمراء، وبعث رسله، وكتب رسائله يبشر بالإسلام ويدعو للدين الحق، ويقول للسادة والكبراء (أسلموا تسلموا) ومهما كان نوع استجابة هؤلاء المدعوين، فقد حصل البلاغ، وأوحي لهؤلاء المدعوين بأن قوة في الأفق تلوح، وأن دينًا في الكون جديد يبشر بالخير، ويدعوا للحق، وأن جيلًا صالحًا ينشر العدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قد ظهر.
ولم يمت محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد دانت العرب بالإسلام واستجابت أطراف الجزيرة لنداء الإسلام، ووصلت خيل المسلمين إلى مملكة الروم ثم أتم الصحابة الأخيار ما بدأه حبيبهم وقدوتهم، فكانت حركة الفتح الإسلامي إيذانًا
بانتشار الإسلام وتحطيم دول قامت على الكفر والظلم والاستبداد.
وكانت العولمة أو العالمية (كما جاءت في المصطلح الإسلامي) هاجسًا ثم واقعًا مارسه مسلمون واثقون بدينهم، ملتزمون بقيمه حتى نجحوا في اختراق آفاق آسيا، وأفريقيا، والإمبراطورية الرومانية، والفارسية حتى يموت المجاهدون على أسوار القسطنطينية، أو يغرق في بحار الفرس، أو يستشهد في ما وراء النهر .. أو يقف على عتيات البحر ليقول: «والله لو أعلم وراء هذا البحر قومًا نبلغهم الدعوة للإسلام لامتطيت خيلي مجاهدًا إليهم.
الله أكبر كم في هذه المجاهدة الراشدة من همم تموت لها أنفس الضعفاء .. ولا تنام لعزها أعين الجبناء؟
واليوم ما زاد هي المسلمون وكيف حال العالم الإسلامي؟
تقهقر وتبعية وذل وهوان، تغري أرضهم وتستعمر بلادهم وتنهب ثرواتهم، والهدف الأكبر سحق هويتهم، واستئصال إسلامهم، إنها عولمة منكوسة، وعالمية مرفوضة تلك التي تمارسها القوى الكبرى المعاصرة، وتريد بها غزو المسلمين، وفرض القيم والمبادئ الغربية المنحرفة، فهل يصح أن يستسلم المسلمون لهذا الغزو، وأن يكونوا مائدة لهذه العولمة الظالمة؟
فهل تليق أن يتخوف المسلمون من العولمة أم يمارسونها ويحققون عالمية الإسلام من خلالها؟
إن نزعة الهروب للداخل نزعة الجهلاء والجبناء، وهل يستطيع الهروب من تحاصره رياح العولمة العاتية أينما كان؟ إن ثمن الهروب أكبر من ثمن المواجهة .. والمواجهة ليست بالضرورة أن تكون بقوة السلاح، فقوة المبادئ والثقة بالنفس، والشعور بإفلاس الحضارات المادية في القيم والمبادئ، والتخلص من عقدة النقص والتجاوز لداء الإحباط، والدثر بالفأل المصحوب
بالعمل والإنتاج كل ذلك سلاح مهم في المعركة المحتدمة اليوم.
على المسلمين اليوم أن ينازلوا عدوهم بما يستطيعون من عدة، وألا يستسلموا للصيحات المخزلة والمرجفة ..
فالعدو يشعر بقوة الإسلام، ويتخوف من اجتماع المسلمين بل بات الذين خططوا للعولمة وبشروا بها يتخوفون من آثارها عليهم، وبات الذين يسيرون حركة التاريخ ونهضة الشعوب يتخوفون من استثمار العولمة للمسلمين للتبشير بدينهم وترحيل ثقافتهم للآخرين .. وهؤلاء الغرب يدركون أن الثقافة الإسلامية قابلة للانتشار والقبول، وأن الحضارة الإسلامية مؤهلة للقيادة والريادة.
ومن هنا بدأت أصوات في الغرب تنادي بتخفيف الحماس للعولمة، بل وبعضها يصرح بـ (خيبات العولمة) وثمة محاولات جادة يقوم بها اليوم بعض أنصار العولمة لكبح جماحها وإغلاق الطريق على من يحاولون الاستفادة منها لقد باتوا يصرحون أن من الأسلم لنا أن نغلق الأبواب على هذا العالم ليبقى العالم الإسلامي في محيطه الضيق، بدل أن يتعمق في أرضنا ويهزم حضارتنا، ويسرق أضواء العولمة لصالحه؟ إنها أصوات لها ما يبررها، في دنيا الواقع .. فهل يقدر المسلمون حجتهم، وهل يدركون ما أدركه الآخرون من فاعلية حضارتهم وتأثير دينهم والقبول بمبادئهم.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}