الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحج والعشر بين ذكر الله ومراغمة الشيطان
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
إخوة الإسلام وتتجدد المناسبات الإسلامية .. ويفيض الله من رحماته على المسلمين ما يستوجب الشكر والثناء على واهب النعم وقد عاد حجاج بيت الله بعد أن أدوا مناسكهم بأمن وأمان وصحة وعافية ينبغي أن تذكر فلا تنس، ويشكر الله عليها وهل أهل الحمد والثناء والشكر وصول لن يضيع الله أجر من قدم خدمة لحجاج بيت الله وهي شغل والمرافق ووفر ما يحتاجه الحجاج خالصة لوجه الله.
أيها المسلمون كثيرة هي المعاني التي ينبغي أن يعود الحجاج مستشعرين لها، ومتلبسين بها في حال حلهم وإحرامهم وسفرهم وإقامتهم ..
ولكنني أكتفي هنا بالوقوف عند أمرين عظيمين، يبعث الذكرى بهما مناسك الحج .. وإلا فالذكرى بهما واقعة بكل حال ولا تكد تخطئ نظر اللبيب في كل لحظة .. ألا وهما ذكر الله وتعظيمه، وعداوة الشيطان ومراغمته .. ومن ذا الذي لا يتذكر عظمة الله وهو يبصر آياته في السماء والأرض، ويشهد وحدانيته في الأنفس والآفاق، وتأسره عظمة الصانع المبدع في كل من الأحياء، بل وتشهد الجمادات الصم بعظمة الخالق وتنفي ظلالها ذات اليمين والشمائل سجدًا لله وهم داخرون.
(1) ألقيت هذه الخطبة في 16/ 12/ 1416 هـ.
إن قولة «لا إله إلا الله» سهلة باللسان لكنها عظيمة في الميزان .. وهي وإن قلت حروفها فهي تحمل أسمى المعاني وترسخ التوحيد - بهذه الكلمة بعث المرسلون وبها يحكم بالإسلام أو الكفر - وعليها التقت جيوش الكفر والإيمان وبها انقسمت الخليقة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان ..
ذكر الله شعائر المسلم بكل حال، وبه أنه أتى اختلف الزمان أو تباعد المكان {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} .
وإذا تلبس الحاج بالذكر من حين يحرم ذاكرًا لله مسبحًا بحمده وملبيًا لله وحده لا شريك له .. بل وقيل ذلك من حين خروجه من بيته فابتدأ بدعاء السفر المشتمل على ذكر الله .. ثم بطل الحاج مستصحبًا لذكر الله في الطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة، وفي منى التي ترتج بذكر الله وتكبيره وفي عرفات حيث أفضل الدعاء .. وأفضل ما قال محمد صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وحين الإفاضة من عرفات يطيب الذكر عند المشعر الحرام {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وهكذا يستمر الذكر عند الجمرات وعند نحر الهدي، بل ويأمر الحاج بذكر الله بعد قضاء المناسك وفراغها والحق تبارك وتعالى يقول:{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202].
ولئن اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} فقالت طائفة: المعنى إلهجوا بذكر الله كثيرًا كما يلهج الصبي قائلًا «أبه أمه» فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك لهج المستغيث المستنصر.
وقالت طائفة أخرى: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات (من دية أو غرامة) ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} .
وثمة معنى ثالث لطيف ما أحوج المسلمين في هذه الأزمان إلى تأمله فقد قالت طائفة إن معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم أو تذبون عنهم، وفي هذا المعنى قال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل لا يذكر أباه اليوم، فيما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما» (1).
وسواء كان هذا أو ذاك فالمقصود من الآية - كما قال المفسرون- الحث على كثرة ذكر الله عز وجل، و «أو» هنا لتحقيق المماثلة في الخير، وليست للشك قطعًا، وإنما هي لتحقيق الخير عنه بأنه كذلك أو أزيد منه (2).
إخوة الإيمان وحيث يرتبط الدعاء بالذكر فتأملوا هذا المعنى الدقيق الذي أشارت إليه الآية بقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200].
(1)(تفسير القرطبي 2/ 431).
(2)
(تفسير ابن كثير: 1/ 355).
قال ابن كثير رحمه الله: أرشد تعالى إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه فطنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال:{فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} .
وهو المقصود التنفير عن التشبه بمن هو كذلك، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: «اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن» لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا فأنزل اللهم فيهم هذه الآية وكان يجيء بعدهم آخرون فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . فأنزل الله: «أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» عباد الله تأملوا كيف ترتبط الدنيا بالآخرة في نظر الإسلام وكيف يصحح الإسلام المفاهيم الخاطئة في هذا الدعاء الشامل الذي كثيرًا ما نردده بألسنتنا وقد لا تستحضره قلوبنا «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» .
فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع، وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنيء وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، وأما الحسنة في الآخرة فأعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرضات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام (1).
أيها المسلمون وهكذا ينبغي أن يستذكر الحجاج وغيرهم عظمة الله فيذكروه ويشكروه يذكروه ذكرًا كثيرًا ويسبحوه بكرة وأصيلًا .. يذكروه ذكرًا تطمئن به
(1)(تفسير ابن كثير 1/ 355، 356).
القلوب وتنشرح له الصدور .. يذكروه في حال اجتماعهم بغيرهم ليذكروهم عظمة الله ويذكروه في حال خلوتهم فتفيض أعينهم خوفًا منه ووجلًا ويذكرهم الله في ملأ خير من ملأهم ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه وذكر الله يستوجب تعظيم حرمات الله، والوقوف عن حدود الله وتعظيم شعائره {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وينبغي أن يشمل ذكر الله الذب عن دينه والدعوة إلى هداه، فليس الذب عن الأعراض والأنساب بأولى من الذب عن دين الله وحرماته .. ولا ينبغي أن يطعن ذكر الآباء والأجداد والمفاخرة بمآثرهم، على ذكر الله والانتصار لدينه، والذب عن حماه - تلك الحقيقة التي تمثلها العارفون فقال قائلهم:
أبي الإسلام لا أبل لي سواه
…
إذا فتحزوا بقيس أو تميم
إن ذكر الله يرفع أقوامًا قعدت بهم أحسابهم ولم ترق إليها أنسابهم وذكر الله يكثر القليل، ويقوي الضعيف .. هو سيما المؤمنين، وهو حرز من الشياطين .. ذكر الله عدة المجاهدين، وملاذ الخائفين، وقرة عيون الموحدين.
ألا وإنه لا يكفي أن تترد كلمات الذكر على الألسن، والقلوب غافلة غارقة في الشهوات .. إن حقيقة الذكر تعظيم من ذكر (1)، وإذا أردت يا أخا الإسلام أن تعلم قدر ذكرك لله فانظر في صدق محبتك لله وزودك عن شريعته .. والتزامك بهدي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، ويبقى بعد ذلك ذكرك لله تعظيمًا وتعبدًا واعترافًا بأنه أكبر من كل شيء، ومع ذلك كله فذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم أكبر من ذكرهم إياه في عبادتهم وصلواتهم،
(1) ومن علائم الذاكرين الصادقين أن توجل قلوبهم إذا ذكر الله، ويزداد إيمانهم إذا تليت عليهم آياته {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} .
كذلك قال ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن في معنى قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45](1).
اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين وتقبل منا أعمالنا يا رب العالمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله ..
(1)(تفسير القرطبي 13/ 349).