الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصحاب السبت
(1)
الخطبة الأولى
إخوة الإسلام .. قصة تكرر عرضها في القرآن .. وقوم مسخوا قردة خاسئين .. فعلة شنيعة .. ومنكر ظهر، وتحايل مكشوف كانت الوقعة .. واختلفت المواقف .. وصار القوم فرقًا ثلاثة .. فاعلون للمنكر .. وساكتون عن الإنكار متهاونون بالنصيحة، وثالثة منكرون معتزلون للمنكر ..
وفي النهاية .. أنجى الله الذين ينهون عن السوء .. وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.
إنها قصة وفي ثناياها عبرة .. ليس فقط للذين عاشوا أحداثها بل ولمن جاء بعدهم، ويقرأ مواقفهم {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} .
كم يتكرر مثل هذا الموقف، وكم يختلف الناس حيال إنكار المنكر والقرآن وهو يعرض للقص ينبه الغافلين .. ويذكر بمصير الظالمين كم نحتاج إلى تدبر القرآن .. وكم نحتاج إلى تأمل قصص القرآن .. و {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .. تعالوا إلى هذه القصة نعرض لها باختصار ونقف عند أبرز دروسها وعبرها.
حين يكون الحديث عن انحرافات اليهود وحيلهم وتمردهم على شرع الله وأوامره وعصيانهم للأنبياء والمرسلين، فتلك مساحة كبرى، يكفي في شناعتها ما قصة القرآن من مواقف مشينة لهؤلاء القوم، فمن عبادة العجل إلى قصة البقرة
(1) ألقيت هذه الخطبة في 7/ 2/ 1429 هـ.
إلى إيذاء موسى، بل وقتل عدد من الأنبياء، فضلًا عن التكذيب والأذى وليس الحديث عن انحرافات يهود واستجماعًا لموقف اليهود ولكن يكف أن نقف على مشهد من هذه المشاهد المخزية في تاريخ اليهود في قصة واحدة تكرر عرض القرآن عنها .. لبيان الحقيقة من جانب، ولأخذ العبرة والموعظة من جانب آخر.
إنها قصة أصحاب السبت وما أدراك ما أصحاب السبت؟
هم الذين قال الله عنهم في سورة البقرة {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
وفصَّل القول عنهم في سورة الأعراف فقال تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .
لقد طلب أولئك القوم أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل لهم الله يوم السبت مقدسًا لا يعملون فيه للمعاش. وقد حرم الله عليهم أن يعملوا في السبت شيئًا، فابتلاهم الله بالحوت يخرج ويتكاثر يوم السبت .. وكان ابتلاءً لم تصمد له يهود .. وهل تتركه اليهود وفاءً بعهدٍ أو استمساكًا بميثاق؟ إن هذا ليس من طبع يهود وقد قال الله عنهم:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ} .
لقد اعتدى اليهود في السبت .. وبطريقة ملتوية، وظنوا أنهم يخدعون الله وهو خادعهم، فراحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت ويقطعونها عن البحر بحاجز ولا يصيدونها .. لقد وضعوا لها الحبائل والشخوص والبرك قبل يوم السبت، فلما جاء السبت وكثرت الحيتان نشبت في هذه المصائد ..
فيتركوها حتى انقضى ذلك اليوم تحيلًا ومخادعة .. فأخذوها .. وقالوا إنما نهينا عن السبت فلم نأخذها حتى ذهب ذلك اليوم ..
وحيث أن الجرم كبير .. والمخادعة مع الله .. كانت العقوبة مسخًا حولهم إلى عالم الحيوان والبهيمة حيث لا إرادة له، ولا عهد يرعاه .. {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
قال قتادة: صار القوم قردة تتعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالًا ونساءً.
قال ابن كثير: والصحيح أن مسخهم قردة معنوي وصوري، ولم يكن معنويًا لا صوريًا كما نقل عن مجاهد (1).
ومن دروس قصة أصحاب السبت:
1 -
أن الاستسلام لأمر الله في أوامره ونواهيه سبب للبقاء، وطريق لسعادة الدنيا والآخرة {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} .
2 -
وفي المقابل فإن الإعراض والصدود والعصيان والتمرد سبب للهلاك والعقوبة {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
3 -
استحلال المحارم والاعتماد على الحيل نهج خاطئ مارسه اليهود في القديم واستخدموه في زمن النبوة، ولا زالوا يتوارثون حتى يومنا هذا ..
4 -
حين ينزل العقاب للمجرمين يشملهم والساكنين المداهنين وينجي الله الذين اتقوا ونهوا عن السوء .. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (2) فلا بد
(1)(السير 1/ 153).
(2)
ومع اختلاف العلماء في مصير الساكتين فقد قال قتادة رحمه الله فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم (القرطبي 1/ 440)
من إنكار المنكر إبراءً للذمة ونصحًا للأمة ونجاة من العقوبة الإلهية.
5 -
في قصص الهالكين عبرة وموعظة ليحذروا صنيعهم، ولا يقعوا في أخطائهم {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} .
6 -
يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من صنيع هذه الأمة المغضوب عليها، وينهاهم عن استحلال محارم الله بأدنى الحيل، ويقول:«لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» (1).
وكم يعمد ضعاف الإيمان من هذه الأمة إلى أنواع من الحيل، ولاسيما في تعاملاتهم، وتحيلهم على الحرام، وظنهم الخاطئ أن ذلك يجعل من الحرام حلالًا، أو من المتشابه إلى الواضح النقي ألا فاحذروا الحيل يا من تتعاملون مع من يعلم السر وأخفى، ودعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه.
7 -
وهذه الأمة اليهودية كتب الله عليها البؤس والشقاء، وحكم عليهم ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسوءهم سوء العذاب، عن موسى عليه السلام حيث ضرب عليهم الخراج سبع سنين أو ثلاث عشرة سنة لما تعلم إلى قهر الملوك اليونانيين والكسانيين، والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم .. حتى جاء الإسلام وقاتلهم النبي وأخرجهم المسلمون .. وإلى زمننا هذا وهم محل كره العالم وسخطه وصدق الله {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} .
8 -
وأخيرًا فقد خاب وخسر من باع دينه بدنياه، وتغش الفواحش مخادعة وحيلًا، وحبل الخداع قصير، وطريق المكر موصد، وعاقبة الفساد في الأرض
(1) الحديث جوَّد إسناده الحافظ ابن كثير في التفسير (1/ 154).
مشينة .. وهل تعلمون أن بعض المصادر الرسمية الصهيونية تشير إلى أن أكثر من 124 صهيونيًا أقدموا على الانتحار منذ بداية العام الحالي وإن أكثر من ألف ومائة شخص منهم وصلوا إلى مراحل نهائية في التفكير بالانتحار؟
إنها عقوبة معملة، وشعور بالقلق لم يمنعه حيازة الأسلحة النووية، ولم يعطله الشعور بالغلبة .. أنهم يعانون في داخلهم {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} .