الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبو محذورة رضي الله عنه بين الاستهزاء والاستقامة
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
عباد الله: قصة طريفة لكنها تحمل معان عظيمة، وموقف ساخر في البداية، لكنه يتحول إلى هداية واستقامة.
أجل .. بالتربية والتوجيه وحسن الأدب ولطيف العبارة تحول شاب من ساخر بالآذان إلى مؤذن ندي الصوت يتوارث الآذان من بعده ولده، وولد ولده في المسجد الحرام ..
لست أدري أأحدثكم في هذه القصة عن الآذان وفضله وطول أعناق المؤذنين يوم القيامة .. أم أحدثكم عن الشباب ومراهقته أم يكون الحديث عن آثار التربية ولطف المعاملة وحاجتنا إليها أم أكتفي بسياق القصة ليستفاد منها هذه المعالم وغيرها؟ لكني أبادر بالقول أن قصة اليوم أنها قصة من عهد النبوة .. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المشرف والموجه فيها .. أما صاحب القصة فهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤذن المسجد الحرام أوس بن مِعْير بن لوذان بن ربيعة بن سعد بن جمح .. ولئن اختلف في اسمه فهو مشهور بكنيته (أبي محذورة الجمحي) رضي الله عنه وأرضاه.
والقصة وردت بسياقين بينهما بعض الاختلاف، ولعل بعضهما يكمل بعضًا.
-السياق الأول: أورده ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب- بسنده إلى أبي محذورة قال: خرجت في نفرٍ عشرة، فكنا في بعض الطريق حين قفل
(1) ألقيت هذه الخطبة في 11/ 7/ 1425 هـ.
رسول الله صلى الله عليه وسلم من (حنين) فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عنده، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه (ونستهزئ به) فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إلي - وصدقوا - فأرسلهم وحبسني، ثم قال قم فأذن بالصلاة، فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يديه فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: قل: الله أكبر الله أكبر .. فذكر الآذان ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصيتي ثم من بين ثديي، ثم على كبدي، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرتي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله فيك وبارك عليك» فقلت يا رسول الله: مرني بالتأذين بمكة؟ قال: أمرتك به، وذهب كل شيء كان في نفسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من (كراهة) وعاد ذلك كله (محبة) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مت على عتاب بن أسيد (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة) فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
أيها المسلمون أما السياق الثاني للقصة فقد أورده الذهبي في سيره .. وبسند صحيح أيضًا - عن أبي محذورة قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من (حنين) خرجت عاشر عشرة من (مكة) نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن (نستهزئ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذنا رجلًا رجلًا فكنت آخرهم، فقال حين أذنت، تعال، فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات، ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام، قلت كيف يا رسول الله؟ فعلمني الأولى كما يؤذنون بها، وفي الصبح (الصلاة خير من
(1)(الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 136/ 138).
النوم) وعلمني الإقامة مرتين مرتين (1).
أيها المسلمون ماذا نستفيد من هذه القصة .. وما هي معالم التربية في سيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نتعامل من الخطأ والمخطئ؟
إن القصة لمن تأمل لا تبدأ بالعنف والتوبيخ، وإن كان الخطأ واضحًا، والسخرية يعترف بها أصحابها .. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالتثبت لمن وقع منه الفعل، فلا يؤخذ المتهم بجريرة المخطئ وإذا علم المخطئ كان التعامل مع الخطأ بطريقة تربوية حكيمة يعود المخطئ من كره النبي إلى محبته، ومن كره الآذان والاستهزاء به إلى محبة له تتعمق فيه وفي نسله من بعده.
إن الشباب له نزواته ولكن سهل قريب للخير إذا وجد من يأخذ بيده ويشجعه .. وكذلك صنع الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي محذورة، فهو يأمره بالآذان ويعلمه كيف يؤذن، ثم لا يبخل عليه بهدية تفتح نفسه وتحببه لمن أهدى إليه، بل يزيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمسح بيده الشريفة من ناصيته حتى بلغت يده سرة أبي محذورة .. ثم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالدعاء والتبريك لأبي محذورة .. ثم يختم الموقف النبوي بإعطاء الثقة واستثمار الموهبة لهذا الشاب ليكون مؤذن المسجد الحرام؟ ما أروعها من أساليب في التربية، وما أحوجنا إلى هذه القيم الرفيعة في المعاملة والدعوة، وكم هي كنوز التربية في السيرة النبوية.
إخوة الإسلام إنها معالم في التربية ما أحوج الآباء والمربين والدعاة والمتحدثين إلى فهمها وممارستها ..
وإذا تحدث المتخصصون في التربية كان لهم في رحاب السيرة النبوية متسع
(1) الحديث أخرجه أبو داود في الصلاة، والنسائي وأحمد بهذا الإسناد، وأخرجه غيرهم (سير أعلام النبلاء 3/ 118).
في الحديث، وكان لهم في رسول الله أسوة حسنة.
أيها المسلمون إنما أنتم مبشرون لا منفرون، ولن تسعوا الناس بأرزاقكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم .. ولكم في رسول الله قدوة في تحويل الأخطاء إلى سلوكيات منضبطة .. وفي تحويل المستهزئين الطائشين إلى أحلاس مساجد تتجاوب جبال مكة مع تكبيرهم وندائهم بالآذان، ويشهد الناس لأبي محذورة بنداوة الصوت وحسن النغمات حتى قال الشاعر:
أما ورب الكعبة المستورة
…
وما تلا محمد من سورة
والنغمات من أبي محذورة
…
لأفعلن فعلة منكورة (1)
زار عمر رضي الله عنه مكة، وأبو محذورة مؤذن المسجد الحرام، فأذن أبو محذورة ثم جاء يسلم على عمر فقال له عمر: ما أندى صوتك .. قال علمت أنك قدمت فأحببت أن أسمعك صوتي.
وبقي أبو محذورة على العهد والإيمان وقضى عمرة مؤذنًا للمسجد الحرام، وكان اللقاء الأول الذي كرهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البداية لسعادته-، إلا ما أروعك يا نبي الله في حربك وسلمك، وفي تعاملك مع أصحابك وأعدائك ولا غرابة فقد أدبك ربك فأحسن أدبك وشهد لك بحسن الخلق والرأفة والرحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
(1)(سير أعلام النبلاء 3/ 118)