الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
الحمد لله أهل الحمد والثناء والمجد ..
إخوة الإسلام دين الله منتصر طال الزمان أم قصر وكلمته ظاهرة ولو كره المشركون، والبقاء للحق، والعاقبة للتقوى، وجند الله هم الغالبون، ذلكم وعد غير مكذوب ..
ولكن للنصر أسباب، وللتمكين شروط .. فمتى أقام المسلمون الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ومكن لهم، ومتى ما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم.
إن مراحل الضعف مرت بالأمة من قبل ومن بعد ولكن الضعف إذا كان محفزًا للنهوض كان هذا الضعف وباءً عارضًا تسترد الأمة منه عافيتها بعد حين.
ومرت الأمة بظروف من الفرقة والتناحر .. ولكن الفرقة إذا كانت درسًا بليغًا وهاديًا إلى الاجتماع والتآلف كانت هذه الفرقة نزغة من نزغات الشيطان لا تلبث أن تكون صفاء ومودة، واجتماعًا وتوحدًا على الحق ..
وهكذا تستفيد الأمة من دروس الضعف ومن أيام البلاء كما تستفيد من دروس القوة وتتعامل مع السراء.
إذًا الأمة الراشدة تبتلى لتتعافى، وتحاصر لتتفجر طاقاتها عن مبادرات نافعة، وتمتحن وتصهر ليتميز الخبيث فيها من الطيب ألا وإن من علائم ذل الأمة وهو إنها أن تتزين ظاهرًا وباطنها خراب وتلمس جلود الضأن وهي تتحرك نفسية الذئاب .. أولئك قوم مقتهم الله، وأولئك قوم يفتنون ..
جاء في كتاب الزهد للسجستاني وبالإسناد عن ابن المبارك عن بكار عن ابن منبه قال: قال الله تبارك وتعالى فيما عير به الأحبار- أحبار بني إسرائيل-
تفقهون لغير العبادة، وتعلمون لغير العمل، وتلتمسون الدنيا بعمل الآخرة وتنقون القذاة من شرابكم وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال ولا تعينونهم برفع الخناصر، وتلبسون جلود الضأن وتخفون أنفس الذئاب، وتبيضون ثيابكم فتنقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، قال تعالى «فبعزتي حلفت لأخبرنكم بفتنة يضل فيها عقل ذي العقل وحكمة الحكيم» (1).
هنا
…
وفي ظل هذه الظروف والفساد المستشري والضعف والفساد الظاهر والباطن يتذكر أهل القرآن قوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
إن الأمة الراشدة هي التي تستفيد من دروس الهزيمة كما تستفيد من دروس النصر، وستظل الأمة تعاني ويلات الذل والهزيمة، حتى تفكر في المخارج الصحيحة للطوارئ .. وكلما اعتمدت الأمة على البشر الضعيف وكلها الله إلى ما توكلت عليه، وكلما توكلت على الله والتجأت إليه أجارها وعافاها وغير ما بها .. لا ينظر الله إلى الصور والأجساد ولكن ينظر إلى القلوب والضمائر ولا ينفع بياض الثوب إن كان القلب أسودًا .. كان أبو عبيدة رضي الله عنه يسير في الجيش ويقول:«ألا رب فبيض لثيابه قد دنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم أساء ما بين السماء والأرض ثم عمل حسنة لعلت سيئاته حتى تقهرهن» (2).
لقد اختلت الموازين الحقة في دنيا الناس، وأصبحت النظرة في غالبها نظرة
(1)(الزهد لأبي داود السجستاني/ 31 بإسناد جيد كما قال المحقق).
(2)
(الزهد لأبي داود السجستاني/ 139 بإسناد رجاله ثقات).
مادية، وبات تقييم الناس على حسب ما عندهم من الدرهم والدينار لا على حسب ما لديهم من الإيمان والتقى ..
وتلك موازين تطيش لكنها لا تلبث أن تنتهي .. يروى أن ملكًا من بني إسرائيل ركب يومًا في موكب له فتشرف الناس فنظروا إليه حتى مر برجل يعمل شيئًا مكبًا عليه، فلم يرفع رأسه إليه، فوقف عليه فقال: كل الناس تشرف علي ونظر إلي، من أنت؟ قال الرجل إني رأيت ملكًا قبلك كان على هذه القرية، مات هو ومسكين، فدفن الرجل إلى جنبه فلم أزل أتعاهدهما كل يوم أنظر إليهما حتى تفرقت أوصالهما، وكشفت الريح عن قبورهما ثم اختلط رأس هذا ورأس هذا، وعظام هذا وعظام هذا، فلم أعرف رأس من رأس الناس، فلذلك لم أنظر إليك (1).
وإذا كانت الآخرة خيرًا وأبقى فأهلها هم من قال الله عنهم {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
أما الطغاة والمفسدون في الأرض فأولئك قال الله عنهم: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].
(1)(الزهد للسجستاني/ 30 وسنده ثقات).