الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية
أخوة الإسلام ونشهد على المسرح الداخلي بوادر فتن وفي بلادنا تطالعنا الأخبار بين الفتنة والأخرى عن قتل للأنفس المعصومة وتدمير للمنشآت والممتلكات العامة، وإخافة وترويع للآمنين وتطويق ومحاصرة وتبادل لإطلاق النار .. ولا بد أن يذكر كل مسلم يخاف الله ويرجو اليوم الآخر .. أن أمر الدماء عظيم وأنها أول ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة، ولا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا ..
وفي أواخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا .. » وطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الشاهد الغائب ..
وكم نحن بحاجة إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل شيء وفي كل حين ولاسيما في هذا الحدين وفي عصمة دماء المسلمين ورعاية حقوقهم وهو الذي نهى عن مجرد الإشارة بالسلاح فقال «ألا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» (1).
فكيف إذا تعدى الإشارة إلى الفعل .. ألا إن الأمر عظيم، فعظموا حرمات الله يا مسلمون {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
واسمعوا إلى هذا التوجيه النبوي الآخر حين يحذر عليه الصلاة والسلام من مجرد احتمال وقوع الأذى على المسلم والتحوط عن ذلك. ويقول: «من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل (السهم) فليمسك أو ليقبض على نصالها
(1) متفق عليه: (رياض الصالحين/ 563 تحقيق الألباني).
بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء» (1).
وفي القرآن زواجر تقرع القلوب وتخيف المعتدين {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
{وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58].
لا بد من معالجة الأمور بالحسنى، والرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه، ولا بد من التفكير جيدًا في عواقب الأمور ومآلاتها، ودفع الفتن والشرور قدر المستطاع، فالأمن مسئوليتنا جميعًا ومكتسبات البر لنا جميعًا.
لا بد من فقه في إنكار المنكر .. فقد يؤل الإنكار إلى ما هو أعظم من حيث يشعر أو لا يشعر .. وهنا كلام جميل وتحذير صريح من شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله وهو يرصد الفتن الواقعة بين المسلمين ويشخص أسبابها في ثلاثة أشياء أو ثلاثة فاعلين وجود الذنب والمنكر، وفي السكوت عن الإنكار، أو في الإنكار المنهي عنه، ويقول: وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارًا منهيًا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع
(1)(متفق عليه رياض الصالحين/ 131).
(يعني ارتكاب الذنب) وظلم كل من الثاني والثالث (يعني السكوت أو الإنكار المنهي عنه) وجهلها من نوع آخر وآخر.
ثم يقول: ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن ذلك في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا أصلها (1).
وبالتالي فعلينا معشر المسلمين أن نجتنب المنكر في ذواتنا وألا نسكت عن نهي الآخرين الواقعين فيه بالحسنى وألا ننكر بطريقة منكرة تضر أكثر مما تنفع وتفسد أكثر مما تصلح، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلاغُ} هكذا قيل للمرسلين، وغيرهم من باب أولى. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
عباد الله .. إخوة الإسلام لها حقوق وواجبات .. بل وكرامة الآدمي لها اعتبار في الشرع وحقوق وواجبات .. والإسلام الذي يعتز به وينتمي إليه بيَّن وأكد هذه الحقوق والواجبات ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأت للناس الذي يحب أن يؤتوه إليه ..
فإطعام الطعام وإفشاء السلام، وعيادة المريض، وتشييع الجنائز، والنصح والمعونة، والسماحة والبشر، وإعطاء الحقوق كاملة .. كل ذلك وغيره جاءت به شريعة السماء.
وكف الشر والأذى، حق لكل مسلم- بل ولغير المسلمين المسالمين-
لا يجوز لعن المسلم وسبابه فسوق، وقتاله كفر (متفق عليه) ..
أتدرون ما أكبر الكبائر؟
(1)(الفتاوى 28/ 142، 143).
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور، أو قال وشهادة الزور» (1).
ما بال أقوام فينا باتوا يستهينون بهذه الحرمات .. بل وهذه الورطات كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «إن من ورطات الأمور (الهلاك) التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله» (2).
وفي صحيح البخاري كذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» (3).
قال ابن حجر معلقًا: وفيه عظم أمر القتل لأن الابتداء إنما يقع بالأهم (4).
وأخرج الترمذي وحسنه من حديث ابن عمر: «زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم» قال ابن العربي: «ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والوعيد في ذلك، فكيف يقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح» (5).
أخي المسلم لك فسحة في دينك بقبول الأعمال الصالحة ومغفرة الذنوب .. ما لم تصب دمًا حرامًا .. هكذا فسر بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» (6).
قال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول (7).
(1)(نضرة النعيم 11/ 5292)[خ 6871، م 88].
(2)
رواه البخاري ح 6863 الفتح 12/ 187).
(3)
(6864)(الفتح 12/ 187).
(4)
(الفتح 12/ 189).
(5)
(الفتح 12/ 189).
(6)
رواه البخاري ح 6862.
(7)
(الفتح 12/ 188).
احذروا معاشر المسلمين أن تلتقوا بالسلاح فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قال الصحابي: (راوي الحديث) يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (1). قال الخطابي: هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلًا، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له بالقتال شرعًا (2).
(1)(خ 6875).
(2)
(الفتح 12/ 197).