الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حصار الفلوجة، وحرمة الدماء المعصومة
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..
أيها المسلمون في هذه الأيام الأرض تموج بالهرج والمرج والفتن تتلاطم أمواجها وتطل برأسها هنا وهناك.
وكلما شغل الناس بحدث ما جاءهم حدث آخر وهكذا.
ظلم وعدوان، وقتل واختراب، وانتهاك للحرمات، واستهانة بشأن الدماء، مع أن أول ما يقضي فيه الدماء ..
كيف حل الرعب والخوف مكان الأمن والطمأنينة؟ من وراء التصعيد؟ ومن المستفيد عن هدر الأرواح والممتلكات وكيف المخرج من هذه الأزمات؟
تلك أسئلة تدور وتثور .. كلما اصطبغت الأرض بالدماء وتناثرت الجثث على الأرض .. وأعجب كل ذي رأي برأيه وأصبحت البندقية لغة الحوار، أساسًا للتفاهم.
إننا نشهد على المسرح الخارجي ترديًا في الأوضاع الأمنية في العراق تحاصر المدن بالدبابات .. وتقذف بالأسلحة الفتاكة والمحرمة بالطائرات والفلوجة كما هي رمزًا لمقاومة المستعمر المحتل .. هي كذلك نموذج للمأساة الإنسانية حيث شمل القصف المستوحش النساء والأطفال .. وبعض التقارير تشير في الأيام الماضية إلى سقوط ثلاثين طفلًا دون الخمس سنوات، ومن بين الضحايا تسعون طفلًا آخرون فوق الخامسة ومائة وتسعون امرأة .. (جريدة
(1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 2/ 1425 هـ.
الحياة، الأربعاء 24/ 2/ 1425 هـ) ولا تسأل عن الضحايا الآخرين .. فمن المسئول عن هؤلاء وأولئك؟
وأكذوبة الدفاع عن النفس هي العذر الجاهز لتسويغ قتل العشرات بل المئات من المحتجين على الاحتلال ..
وقبل بضعة أشخاص- ومهما كان ادعاء الخطَّاء في قتلهم- لا يسوغ بحال استحلال حرمة بلد بكامله .. واستعراض العضلات لمجاهدته وتطويقه ..
إنها حماقة الغرب- وفي مقدمتهم أمريكا- تصنع المقاومة ضدهم وتزرع البغض لهم لدى كل نفس أبيه، وتوسع دائرة العدوان عليهم، بل وتعجل بنهايتهم .. فثمة تقارير من دوائرهم .. وفي صحفهم تقول: بداية النهاية لأمريكا في العراق، وكلما زادت محاولاتنا كلما ازداد الوضع سوء هكذا كتب (روبرت) في صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) .. ويمض الكاتب يقول: مهما كان حجم التفاؤل لدى إدارة الرئيس (بوش) إلا أن ذلك لن يكون كافيًا لإخفاء الحقيقة.
وينهي الكاتب الغربي مقاله بالقول: كان عظيمًا لو انتهى الأمر بالعراق في طابور المجتمعات الديمقراطية، إلا أن الأحداث المأسوية التي شهدتها الأيام القليلة الماضية ذكرتنا مرة أخرى بأن هذه النتيجة أصبحت حلمًا بعيد المنال بحلول كل يوم جديد افترضنا فيه بأننا نعرف ما هو مناسب لبقية العالم، ونعمد إلى فرض هذه الآراء بقوتنا العسكرية المرعبة» (1).
إخوة الإسلام وثمة معالم ووقفات تبرزها الأحداث الأخيرة في العراق ومنها.
1 -
تساقطت تباعًا وسراعًا دعاوى تأمين الحرية والديمقراطية الغربية
(1)(جريدة الرياض، الأحد 21/ 2/ 1425 هـ شئون دولية).
للعراقيين، وكشف المستعمر عن وجهه الكالح لانتهاب الخيرات وكتم الحريات حتى ولو كان ثمن ذلك جثثًا متناثرة من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء!
2 -
وبات من المؤكد أن أمريكا استطاعت كسب الحرب ضد نظام البعث المستبد الظالم في العراق .. ولكنها لم ولن تكسب الحرب ضد الإسلام والمسلمين تحت أي ستار أو شعار موهوم.
3 -
وبات من المؤكد كذلك أننا- معاشر العرب والمسلمين- ساهمنا في صنع هالة موهومة لقوات الغرب .. فنحن قد فتنا وضعف هممنا استسلمنا لهم في كل شيء حتى لم يرضهم شيء إلا أن يسلخونا من ديننا ويجردونا عن هويتنا، ويفرضوا على بلادنا وشعوبنا دساتيرهم .. ويعلنوها صريحة برفض الإسلام مصدرًا أساسًا للتشريع في بلد يدين أهلها بالإسلام ..
وأحداث الفلوجة تثبت أن المقاومة ممكنة .. وأن إلحاق الأضرار بالعدو ممكن .. مهما كان فارق القوة .. ومهما كانت نتائج المعركة وجمود الفلوجة هذه الأيام- تجد ذاته- تعبير عن قوة الضعيف وضعف القوي- وماذا لو هبت العراق كلها- وماذا لو تحرك العالم العربي والإسلامي؟
4 -
وفي كل يوم وعبر الأحداث الدموية المتلاحقة يكتشف الناس مسلمهم وكافرهم خلف أمريكا في تعاملها مع الشعوب العربية والإسلامية، فلم يعد الاستعمار كافيًا، بل ومع الاستعمار خرق للقوانين وانتهاك للمواثيق الدولية، وذلك عبر استخدام أسلحة محظورة، فقد كشف مصدر طبي في مستشفى الصليب الأحمر الإيطالية في بغداد عن استخدام القوات الأمريكية قنابل حابسة للأوكسجين في قصفها للمدينة المحاصرة (الفلوجة)، كما لم يستبعد أطباء آخرون استخدام أمريكا للقنابل العنقودية والنابالم الحارقة .. وهي أسلحة محظورة دوليًا (الحياة 24/ 2/ 1425 هـ).
وهذه الخوارق الإنتهاكية الأمريكية توسع دائرة العداء لأمريكا، وتقلل من قيمة حضارتها، وتسقط دعاوى حملتها ضد الإرهاب فهذا هو الإرهاب .. وهي صانعته ومصدرته.
5 -
ومما يضاعف المأساة ويدمي المشاعر هذا الصمت أو شبهه من المسلمين تجاه إخوانهم المحاصرين، وحتى لو وجد استنكار لا يتجاوز إلى مواقف إيجابية فهو في عداد الصمت المذل .. إن من حق إخواننا المسلمين في العراق أو غيره النصرة، فالمؤمنون إخوة، ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم:«انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» ويستغرب المتابع للأحداث أن يجد استنكارًا بل ومناصرة لمقاتلي العراق من رئيس فنزويلا، فقد ألقى باللائمة على الرئيس الأمريكي في العنف المحتدم في العراق، وبعث برسالة تأييد ومناصرة للعراقيين (1). في حين لا يتوفر مثل ذلك من زعماء مسلمين؟ .
6 -
والمأساة أكبر حين يضجُّ العالم الآخر وينتقذ هذا الحصار اللامتكافئ .. ويصدر كاتب معروف في الشرق الأوسط مقالًا له بعنوان (ثوار الفلوجة) ثم لا يفهم من مناصرة المظلومين هناك إلا تصدير الإرهابيين ويقول في بداية مقاله (إلى الفلوجة انصروا إخوانكم الذين يواجهون العدوان) هذه واحدة من صيحات الاستنهاض التي تنتشر في المواقع الأصولية .. وهي في الحقيقة صيحات لتأسيس معسكرات تجنيد وتدريب ثم تصدير إرهابيين إلى بيوتنا وشوارعنا (2).
(1)(جريدة الجزيرة 25/ 2/ 1425 هـ).
(2)
(الشرق الأوسط الخميس 25/ 2/ 1425 هـ).
وكنت أتوقع أنه الكاتب سيطرح البديل حاجة العراقيين المحاصرين على إلى إغاثة ودعم مادي لمقاومة المحتل فإذا به (وكعادته) يكرس الاحتلال ويمتدح خطوات الأمريكان، وأنها في النهاية تصب في مصلحة المنطقة والدول المجاورة.
لست أدري إلى متى ستبقى هذه النوعية من الكتاب مروجة للغرب والاحتلال ومتكئة على هاجس الإرهاب في جانب، ومتناسية الجانب الأكبر في الإرهاب؟ ومشكلة ألا يبقى في ذهن هذا الكاتب من مناصرة المظلومين إلا تصدير الإرهابيين وأن يسقط آراءه في هذه الأحداث المؤلمة على من أسماهم بالأصوليين، وإذا ظن أنه بهذه الطريقة الفجة في المعالجة يحارب الإرهاب، فهو- من حيث يشعر أو لا يشعر- ممن يزرعون الإرهاب، وإن كنا نحذر من الاستجابة لأي نوع من الاستفزاز، ونشجب الإرهاب بكل ألوانه وأشكاله.
إن مشهد النساء وهن يغادرن المدن العراقية المحاصرة، حاملات على رؤوسهن أو على الدواب ما استطعن من متاع، أو أطفال هائمات على وجوههن وسط أجواء رملية عاصفة .. وهروبًا من آثار القصف والدمار .. لهو مشهد يثير من كان عنده أدنى قدر من إنسانية فضلًا عن الإسلام .. ولكن ما لجرح يميت إيلام؟
وإذا عصفت بغداد بالنازحين، وكانت المساجد مأوى لمن ضاقت عنهم بيوت إخوانهم، فهل بعد هذا من إرهاب.
7 -
وأخيرًا فنحن بحاجة إلى أن نفهم أكثر حقيقة اللعبة وهدف أمريكا من وجودها في العراق، وماذا وراء تسليم السلطة للعراقيين وقد كشفت إحدى صحافتنا المحلية النقاب عن ذلك في افتتاحيتها حيث قالت: فالحكومة العراقية القادمة حتى لو جاءت منتخبة من الشعب العراقي فهي مقيدة بأوامر
ونواهي المحتل، أي: حكومة ظل .. إلخ (1).
فلا بد أن يكون لدينا ثقة أن المحتل سيخرج راغبًا أم صاغرًا يومًا من الأيام .. ولكن ما البديل .. وكيف سيكون مستقبل العراق، هذا سؤال يهم العراقيين بالدرجة الأولى، ولا يعفي غيرهم من المسئولية، وينجح العدو المستعمر أن خرج وقد أشعل فتنة واقتتالًا داخليًا. قد لا ينتهي، تارة عند حدود العراق، ويبقى دور العلماء والمفكرين والساسة مهمًا في توجيه واقع العراق ومستقبله، بل وتوجيه مستقبل المنطقة كلها بعيدًا عن هيمنة المستعمر .. وتنازع واحتراب الأشقاء وأبناء العم .. والله غالب على أمره ..
(1)(جريدة الرياض/ كلمة الرياض 25/ 2/ 1425 هـ).