الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيينَ، وسيدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانِه من النبيينَ.
أيّها المسلمون: وانقلبَ زهدُ أبي ذرٍّ في عقلياتِ الجهلةِ والموتورينَ إلى انحرافٍ يُبَرّئ عن ساحَتهِ صاحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظلموا أبا ذرّ حين زعموا أنه رائدُ الاشتراكيةِ الوضعية .. وما كانَ زُهدُ أبي ذرٍّ، بل ولا كانت حياةُ أبي ذرٍّ إلا استجابةً لوصايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل:«أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ: أمرني بحبِّ المساكينِ والدُّنوِّ منهم، وأمرَني أن أنظرَ إلى ما هو دوني، وألا أسأل أحدًا شيئًا، وأن أصِلَ الرحمَ وإن أدبرتْ، وأن أقولَ الحقَّ وإن كان مُرًّا، وألا أخافَ في اللهِ لومةَ لائم، وأنْ أُكثرَ من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فإنهنّ من كنزٍ تحتَ العرش» (1).
وأينَ هذه الوصايا النبويةِ من مبادئِ الاشتراكية العَفنةِ؟ وظلَمَ المُغرضونَ ومن في قلوبهم مرضٌ عثمانَ وأبا ذرٍّ رضي الله عنهما حين زعموا أن عثمانَ نفاهُ إلى الرّبذةِ .. وقد دلّتِ الرواياتُ الصحيحةُ وتكاثرتْ على أن أبا ذر اختارَ بنفسِه سُكْنَى الربذةِ - في آخرِ حياته، وأنه استأذنَ عثمانَ فأذِنَ له، بل وأمرَ له بنَعمٍ من نَعَمِ الصدقةِ - تغدو غليه وتَروحُ - فاعتذر عنها قائلًا: يكفي أبا ذرٍّ صُريمتَه - يعني: إبلَه وغنَمه (2).
(1) رواه أحمد وابن سعد وسنده حسن (سير أعلام النبلاء 2/ 64).
(2)
ابن سعد «الطبقات» 4/ 228، مسند أحمد 5/ 164 بإسناد صحيح، الطبقات 4/ 232 رجاله ثقات، الحلية 1/ 160، سير أعلام النبلاء 2/ 60، 63، 67.
كما تزيَّدَ المناوئونَ لمعاويةَ رضي الله عنه .. والذين يحاولونَ الاصطيادَ في الماءِ العَكرِ .. حين اتهموا معاويةَ بالإساءةِ إلى أبي ذرٍّ، وعدمِ منحِه حقَّه، وطرْدِه من الشام، ولفّقوا في ذلكَ مروياتٍ تلقَّفوها من أفواهِ أهلِ الأهواءِ والرَّيبِ .. والذينَ عجزوا عن التصريح باتهامِ عثمانَ جعلوا معاويةَ هدفًا لسهامِهم، فَمعاويةُ - كما قال السلفُ - أشبَهُ بالبوابةِ لصحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمن هزَّ البابَ أوشكَ أن يدخلَ الدارَ؛ ولذا كانوا يتهمونَ من تعرّضَ لمعاويةَ ويُعدّونه من أهلِ الرَّيب؟
وحين يحرصُ السلفُ ومن تبعَهُم بإحسانٍ من الخَلَف على حفظِ أعراضِ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدَّعونَ العصمةَ لهم، ولا ينزهونهم عن الخطأ؛ لكنهم يرونهم مجتهدينَ فيما صاروا إليه، فمن أصابَ فله أجران، ومن أخطأ فله أجرُ المجتهدِ المخطئِ.
عبادَ الله: وبشكلٍ عام فَحبُّ الصحابةِ من الإيمان، وبُغضُهم - أو أحدٍ منهم - من علاماتِ النفاق وهي سمةٌ من سيما أهلِ الأهواءِ في كلِّ زمانٍ ومكان.
أيها المسلمون: ودعونا نعودُ إلى حياةِ أبي ذرٍّ، ونعيشُ معه أيامَه الأخيرةَ، وكيفَ رحلَ من الدنيا في مشهدٍ يُحرّكُ القلوبَ، وتدمعُ له العيونُ.
فقد أخرجَ أبو حاتمٍ ابن حبانَ في «صحيحه» بسنده - حسّنهُ بعضُهم - عن أمّ ذرٍّ رضي الله عنها قالت: لما حضرَتْ أبا ذرٍّ الوفاةُ بكيتُ، فقال أبو ذرٍّ: ما يبكيك؟ فقلتُ: ما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ في فَلاةٍ من الأرضِ، وليس عندي ثوبٌ يَسعُكَ كفنًا، ولا يَدَانِ لي في تَغييبكَ. قال: أَبشري ولا تبكي، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لنفرٍ أنا فيهم:«لَيَموتَنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يَشهدُهُ عصابةُ من المسلمينَ» . وليسَ أحدٌ من أُولئكَ النفرِ إلا وقد ماتَ في قريةٍ وجماعةٍ، فأنا ذلكَ الرجلُ، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريقَ. فقلتُ: أنَّى وقد ذهبَ الحاجُّ وتقطَّعتِ الطرقُ؟ فقال: اذهبي فتبصَّري. قالت:
فكنتُ أُسندُ إلى الكَثيبِ أتبصّرُ، ثم أرجعُ فأمَرضهُ، فبينما أنا وهو كذلك، إذ أنا برجالٍ على رِحالِهم، كأنهم الرّخَمُ، تَخُبُّ بهم رواحلُهم، قالت: فأشرتُ إليهم فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليَّ، فقالوا: يا أمةَ اللهِ ما لَكِ؟ قلتُ: امرؤٌ من المسلمينَ تُكفِّنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحبُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: نعم، فَفدَوه بآبائِهم وأمهاتِهم وأسرعوا عليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لنفرٍ أنا فيهم:«ليموتنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يشهدُه عصابةٌ من المؤمنينَ» .
وليس من أولئك النفرِ رجلٌ إلا وقد هلكَ في جماعةٍ، واللهِ ما كَذَبتُ ولا كُذبتُ، إنه لو كان عندي ثوبٌ يَسعُني كفنٌ لي أو لامرأتي لم أكفّن إلا في ثوبٍ هو لي أو لها، فإني أنُشدكم اللهَ، ألا يكفنني رجلٌ منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا، وليس من أولئك النفرِ أحدٌ إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال، إلا فتىً من الأنصار، قال: أنا يا عمُّ أُكفنكَ في ردائي هذا، وفي ثوبين من عَيبتي من غَزْلِ أُمي، قال: أنت فكفِّني، فكفّنه الأنصاريُّ، وقاموا عليه وكفَّنوهُ في نَفَرٍ كلُّهم يَمانٍ (1).
تلكم إطلالةٌ يسيرةٌ على حياةِ واحدٍ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتى غِفار، والفارِس المِغوار، والمتألِّه قبلَ الإسلام، والعابدُ الزاهدُ في الإسلام، حتى لقد رُوي:«مَنْ سَرَّهُ أن ينظرَ إلى زُهدِ عيسى، فلينظرْ إلى أبي ذرٍّ» (2).
رضيَ اللهُ عنك يا أبا ذرّ وأرضاكَ وسائرَ أصحابِكَ صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، اللهم إنّا نُشهدكَ على محبَّتهم فاحشُرنا معهم.
(1) انظر ابن حبان في «صحيحه» 2260، مجمع الزوائد 9/ 331، 332، زاد المعاد 3/ 535.
(2)
رواه ابن سعد 4/ 228 بسندٍ رجاله ثقات إلا أنه منقطع، سير أعلام النبلاء 2/ 59.