الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفات ما بعد الحج والوعي المروري
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
إخوةَ الإسلام: عاشَ المسلمون في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها في الأيامِ والأسابيعِ الماضيةِ أيامًا مشهودةً ومناسباتٍ سعيدةً، كتبَ اللهُ لهم فيها ما كتبَ من الأجرِ والمَغْنَمِ، أغاظوا عدوَّهم من الجِنّ وأعداءَهم من الإنسِ، وطابت نفوسُهم، وزادَ إيمانُهم، وزكَتْ قلوبُهم.
أجل، لقد قضوا عشرَ ذي الحجةِ بما فيها من فضائلَ ومغانمَ وهِباتٍ، ثم عاشوا يومَ عرفاتٍ، إذ وقفَ الحُجّاجُ على صعيدِ عرفاتٍ يبتهلونَ إلى ربِّهم بالدُّعاءِ، وربُّهم كريم يقول لهم:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2).
وما رُؤيَ الشيطانُ أحقرَ ولا أصغرَ ولا أذلَّ منه في ذلك اليوم، إلا ما كان من يومِ بدر.
أما المقيمونَ فصامَ الكثيرُ منهم هذا اليومَ، وهم موقنونَ بمغفرةِ الذُّنوبِ ومحْوِ السيئاتِ، والهادي البشيرُ يبشّرهم بذلك ويقول: «صيامُ يومِ عرفةَ أَحتَسِبُ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة، الموافق 22/ 12/ 1421 هـ
(2)
سورة غافر، الآية:60.
على اللهِ أنْ يُكفّرَ السنةَ الماضيةَ والقابلةَ».
ثم عاشَ المسلمون يومَ الحجّ الأكبرِ وعيدَ الأضحى، وهو أفضلُ أيام العام .. وبه تردّدَ الحُجّاجُ بين المشاعِر؛ فطائفةٌ ترمي الجِمَارَ، وطائفةٌ يَطَّوّفونَ بالبيتِ العتيق، وطائفةٌ يُحلّقونَ أو ينحرونَ هَدْيَهُم، ومع شَعَث الحُجاجِ في يوم العيد إلا أنهم يتقرّبونَ إلى الله بجليل الأعمالِ.
أما المقيمونَ فعاشوا فرحةَ العيد، وتقرَّبوا إلى بارئهم بنحرِ الأضاحي، والتقتْ جموعُ المسلمينَ في مُصلَّيات الأعياد، ومَنظرُهم ووحدتُهم تُرهبُ الأعداءَ، ومناسبتُهم واجتماعُهم لا مثيلَ له في المِلَلِ والأمم الأخرى.
واستمرّ فضلُ الله على الحُجاجِ وغيرِ الحُجاج في أيام التشريقِ؛ إذ هي أيامُ أكلِ وشُربٍ وذكرٍ لله .. يَنعمُ بها الموسرونَ والأغنياءُ، ويُواسى به المحتاجونَ والفقراءُ.
ألا فهنيئًا للمسلمينَ بهذه المناسباتِ السعيدةِ والأيامِ الفاضلةِ .. والبُشْرى تُزفُّ لمن تقرّبَ إلى اللهِ وزادَ في عملِ الصالحاتِ من الحُجاجِ أو غيرِ الحُجاج، وهل أعظمُ من الجنةِ منزلًا؟ ! وليس للحجّ المبرور جزاءٌ إلا الجنّة .. وكفى بمغفرةِ الذُّنوبِ فضلًا ونعمةً .. ومن حجّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجع كيومِ ولدَتْه أُمُّهُ.
ولا يُحرمُ غيرُ الحُجاجِ من فضلِ الله لا سيّما مَن تقرّب إلى اللهِ بعملِ الصالحاتِ في العشر .. وأتمّ ذلك بصيام عرفةَ، وتقرّبَ إلى اللهِ بالأُضحية.
عبادَ الله: وحين يهنأُ العاملونَ المُوَفّقونَ يُعزّى المُفرِّطونَ ويندمُ الكُسالى والمضيِّعونَ للفُرص .. ولكن الجميع يذكَّرون - بعد هذه المناسبات - بعدة أمور، منها:
1 -
استدامةُ الطاعةِ والحفاظُ على الأرصدةِ المُكتسبةِ، فمن عادت صحائفُه بيضاءَ، فحريٌّ به ألا يُلوّثَها بالمعاصي، ومن علائمِ قَبولِ الحسنةِ عملُ الحسنةِ بعدها.
2 -
الندمُ توبةٌ .. فمن فرّطَ فليُظهر الندمَ على ما مضى، وليعقدِ العزمَ على انتهاز الفرصِ القادمةِ، والباكونَ على خطاياهم والمستغفرونَ لذنوبهم حَرِيّونَ بالمغفرةِ والرِّفعةَ {وَمَنْ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (1).
3 -
وعبوديةُ الشّكرِ لله سببٌ للزيادةِ من فضلِ الله {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (2)، فمن وفّقَه اللهُ للطاعةِ فليشكُرِ اللهَ على فضلِه وتوفيقِه .. فكم من مُريدٍ للخيرِ لم يُصِبه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3).
4 -
وحين يتجاوزُ الإنسانُ ما أَلِفَهُ ويَخرجُ المرءُ عن محيطِه - ولو قليلًا - تبدو له نِعَمٌ كان يتمتعُ بها ويتفيّئُ ظِلالَها، وكأنها صعبةُ المنال
…
أجل إن الحاجَّ - أحيانًا - يَعِزّ عليه المكانُ الذي يستظلّ به، ولو لبضعِ ساعاتٍ من النهار، أو ينامُ فيه ولو لبضعِ ساعاتٍ من الليل، وهو في سائرِ أحواله يسكنُ القصورَ الفارِهةَ لسنواتٍ عديدةٍ، أفلا يدعوه ذلك لِشُكْرِ أَنْعُمِ اللهِ عليه؟ وهكذا سائرُ النّعمِ التي يتمتعُ بها المسلمُ في حال إقامتِه، وقد تَضِنّ عليه أو بعضُها في حال سفرهِ .. كلُّ هذه مُذكِّرةٌ له بأنعُمِ اللهِ عليه وداعيةٌ له لمزيدِ الذكرِ والشّكرِ لله.
5 -
وبابُ التوبةِ مفتوحٌ للإنسان على الدوام .. ولكن التوبةَ تطيبُ حين تكونُ على إثرِ مغفرةِ الذّنوبِ ومحوِ السيئاتِ السابقةِ .. وفي الحجّ أو صيامِ عرفةَ من
(1) سورة النساء، الآية:110.
(2)
سورة إبراهيم، الآية:7.
(3)
سورة النحل، الآية:16.
الأجرِ ما يُكفّرُ اللهُ به السيئاتِ ويمحو الخطيئاتِ .. أفلا يدعونا ذلك إلى الاستعانةِ باللهِ على عَقْدِ العزمِ على التوبةِ، فإن التوبةَ وظيفةُ العمر، وبدايةُ العبدِ ونهايتُهُ، وأولُ منازلِ العبودية، وأوسطُها، وآخرُها (1).
6 -
وفي الحجّ يعلو مقامُ التوحيد لله وترتفعُ أسهُمُه .. ألا ترى الحاجَّ يبدأ به مُلبيًا لله وحده، نافيًا للشُّركاءِ معه، معترفًا لله وحدَه بأنعُمِه (لبيك اللهمّ لبيكَّ، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك). وهكذا حين يطوف بالبيتِ معظّمًا لله، متذكّرًا أساسَ التوحيد الذي بُني البيت له:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} (2). وهكذا حين يسعى بين الصفا والمروةِ يستيقنُ أن الغوثَ وكشفَ الكُروبِ لا يقدرُ عليه إلا اللهُ، فهو الذي رحم أُمَّ إسماعيل، وأنبعَ لها ماءَ زمزمَ حين بلغ بها الكربُ نهايتَه، وهكذا في سائرِ المواقفِ والأحوالِ، فلا كاشفَ للكروبِ ولا مُغيثَ إلا اللهُ:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (3)، {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (4).
أجل؛ لقد طهّر الخليلُ عليه السلام البيتَ الحرامَ من الأصنام، وجاء ابنُه من بعدِه محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليُجدِّدَ تطهيرَ البيتِ، فقد حطَّمَ - حين فتحَ مكةَ - ستين وثلاثمائة صنمًا كانت تحيطُ بالكعبة.
وحين يكون تحطيمُ الأصنامِ سنةً نبويةً، فَمن حطّم الأصنامَ مِنْ بعدُ، سواء في مكةَ أو في غيرِها، فهو سائرٌ على سُننِ المرسلين، وهو واجدٌ العونَ والمددَ من ربّ العالمين.
(1) محمد الحمد «التوبة» ص (3).
(2)
سورة الحج، الآية:26.
(3)
سورة الأنعام، الآية:17.
(4)
سورة النمل، الآية:62.
إنك لتعجبُ في هذه الأزمانِ حين تثورُ ثائرةُ الكفرِ لأصنامٍ تُحطَّم .. ويأخذك العَجبُ أكثر حين يدافعُ عن الأصنامِ المحطّمةِ أناسٌ من المسلمينَ.
وحين تُحطَّمُ الأصنامُ التي تُعبدُ من دونِ الله بأيدي المسلمين، يكون الاعتراضُ بالحِفاظ على التُّراثِ أو رموزِ الحضارةِ بزعمِهم، ولكن شيئًا من ذلك لا يكون حين يُعبثُ بمقدّساتِ المسلمينَ أو تُهدمُ المساجدُ بأيدي الكافرين.
7 -
عبادَ الله: وهذه الطاعاتُ التي تقرّبتم بها إلى خالقِكم، لا يكن آخرُ عهدِكم بها الانتهاءَ منها، بل ألِحُّوا على اللهِ بالدعاءِ لقبولها، فليسَ المهمُّ الأداءَ، وإنما الأهمُّ القبولُ، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. اسألوا ربّكم أن يتجاوزَ عن التقصير، ويعفو عن الخَللِ ثم تذكّروها حين تتذكرونها فرحينَ بأدائها، مُثنينَ على الله إذ وفّقَ وأعانَ عليها، فتلك فرحةٌ مشروعةٌ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1).
وفرقٌ بين من يَذْكرِ الطاعةَ التي عملَها مستكثرًا إياها على اللهِ، مانًّا بها على ربِّه .. فذاك لا يليقُ بالعبدِ، وربما أحبطَ العملَ. وبين من يتذكرُ الطاعةَ ليزيدَ من شكره لربِّه - وليسألَه القبولَ على عملِه، وهكذا ينبغي أن نتذكرِ الطاعاتِ لا لنِمُنّ على الله بها، أو نغترّ بأعمالنا .. بل للفرحِ بفضلِ الله وتوفيقِه .. ولسؤاله القبولَ والمزيدَ من فضله. تلك مشاعرٌ قد تغيبُ أو يحصلُ بها الخلطُ في المفاهيم، والموفقُ من وفَّقه اللهُ.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2).
(1) سورة يونس، الآية:58.
(2)
سورة الإنسان، الآيتين: 2، 3.