الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الائتلاف
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالِنا، ومن يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعينَ ومن تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).
عبادَ الله: كان الحديثُ في الجمعةِ الماضية عن جوانبَ من العدلِ، وكم نحن بحاجةٍ إلى مزيد الحديث في مثل هذه المواضيع. ولئن كان الحديثُ كثيرًا عن أدبِ الخلاف - والحاجةُ تدعو لمثل ذلك - فثمةَ حديثٌ عن فِقه الائتلاف .. والحاجةُ لذلك داعيةٌ إليه وأكثر، وكيف لا، والأصلُ في أمةِ الإسلام الائتلافُ لا الاختلاف، والاجتماعُ لا الفرقة والتنازع {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (4).
أيها المسلمونَ: إن من قواعدِ الائتلافِ إنصافِ عامةِ المسلمينَ وخاصتِهم .. فكيف السبيلُ لهذا الإنصاف؟
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 5/ 1422 هـ.
(2)
سورة المائدة، الآية:35.
(3)
سورة التوبة، الآية:119.
(4)
سورة الأنبياء، الآية:92.
إن مما لا شك فيه أن المسلمين - قديمًا وحديثًا - يتفاوتون في مراتبِ الإيمان؛ فهناك من هُم في الذروة من الإيمانِ، وهناك من هم في أدنى درجات الإيمان، وهناك طائفةٌ في الوسط بين هؤلاء وأولئك، ولكن الجميع تجمعهم رابطةُ الإسلام، وحسابُهم على الله، وما لم يخرجِ المسلمُ من الملةِ، فإن له حقًّا في الموالاةِ على قدرِ إيمانِه.
وما من شك كذلك أن الفِرقةَ الناجيةَ من خيرةِ المسلمين، وهم أهلُ السُّنةِ والجماعةِ الذين قالوا وعملوا بالكتابِ والسُّنة.
ولكن دائرةَ المؤمنين تتسعُ لتشملَ غيرَ الفرقةِ الناجيةِ من عُصاة المسلمين ومن وُجدَ عندهم نوعُ انحراف .. لكنهم في دائرةِ الإسلام .. وهذا ما نص عليه الشيخُ ابنُ تيميةَ رحمه الله حين قال: «وإذا قال المؤمنُ: ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يَقْصدُ كلّ من سبقَه من قرونِ الأمةِ بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويلٍ تأوَّلَه فخالف السُّنةَ، أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخلُ في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقةً، فإنه ما من فرقةٍ إلا وفيها خلقٌ كثيرٌ ليسوا كفارًا، بل مؤمنون فيهم ضلالٌ وذنبٌ يستحقونَ به الوعيدَ كما يستحقُّه عصاةُ المؤمنين» (1).
إخوةَ الإسلام وفي سبيلِ الائتلاف بين المسلمين أرشدَ العلماءُ إلى عددٍ من القواعدِ والآدابِ لا بد من مراعاتِها والوقوفِ عندها، ومنها:
1 -
أنهم لا يُخرجونَ مسلمًا من الملَّةِ إلا بتوفُّر الشروط وانتفاءِ الموانع.
2 -
ويرون أن الخطأ في الحكمِ بالإيمان أهونُ من الحكمِ بالكفر.
3 -
وهم يتحفظونَ ويتحوَّطونَ أكثر عند تكفيرِ فردٍ بعينِه أو لعنِه.
(1) منهاج السنة 5/ 240، 241، عن فقه الائتلاف (186).
4 -
بل ولا يتسرعونَ في التكفيرِ، وإن خطّأوا أو بَدَّعوا أو فَسّقوا.
5 -
وفي مسائلِ الاجتهاد يرونَ أنه لا تأثيمَ ولا هُجران.
6 -
وإذا لزمَ الهجرُ، فإنما هو للتأديبِ لا للإتلافِ، وللشفاءِ لا للقتل.
7 -
وهو يرون الأخذَ بالظاهر، واللهُ يتولى السرائرَ، ويرون إجراءَ الأحكام على ظاهرِ الناس لا على القناعاتِ القلبية، وفي هذا يقول الشاطبيُّ رحمه الله:«فإنَّ سيدَ البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامِه بالوحي يُجري الأمورَ على ظواهِرها في المنافقين وغيرِهم، وإن علِمَ بواطنَ أحوالهم» (1).
أيها المؤمنونَ: ومما يعينُ على الإنصافِ ويحققُ الائتلافَ، ألا تكون الموالاةُ والمعاداةُ خاضعةً للانتماءِ والحزبيةِ الضيِّقة، والطائفةِ والقرابةِ والهوى، بل تكون المولاةُ للحقّ ومع أهلِ الحقِّ .. والمعاداةُ للباطل وأهلِ الباطل .. مهما كان قربُهم وبعدُهم وانتماؤهم، وهنا يُنبِّه ابنُ تيميةَ على صنفٍ يغضبونَ أو يَرضون لا بقصد أن تكونَ كلمةُ الله العليا، وأن يكونَ الدينُ كلُّه لله، بل يغضبون على كلِّ من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا - لا يغضبُ الله عليه - ويرضونَ عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلًا سيِّئَ القصد، فيُفضي هذا إلى أن يَحمدوا من لم يَحمدْه اللهُ ورسولُه، ويَذموا من لم يَذمَّه اللهُ ورسُولُه وتصير موالاتُهم ومعاداتُهم على أهواءِ أنفسِهم، لا على دين الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم (2).
إن من أخطائنا - أننا نسرفُ في الثناءِ على من أحببنا - أو نُسرفُ في الذمّ، بل الهجوم أحيانًا على من أبغضْنَا وخالفْنَا، وقد يكون لهذا الذي أحببنا أخطاءُ ونغُضُّ الطرفَ عنها، وقد يكون لهذا الذي أبغضنا حسناتٌ وإيجابياتٌ غَمطناه
(1) الموافقات 2/ 271، عن «فقه الائتلاف» (199).
(2)
منهاج السنة 3/ 64.
حقَّه فيها ولم ننصِفْه في ذِكرها، والوسطيةُ منزلةٌ بين الغلوِّ والجفاء، ولهذا قال العلماء:«وإذا اجتمع في الرجل الواحدِ خيرٌ وشرٌّ، وفجورٌ وطاعة، وسُنةٌ وبدعة، استحقّ من الموالاةِ والثوابِ بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداةِ والعقاب بحسبِ ما فيه من الشر، فيجتمعُ في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانةِ، فيجتمعُ له من هذا وهذا كاللصّ الفقيرِ تُقطع يَدُه لسرقتِه، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته» (1).
أيها العلماءُ والدعاةُ وطلبةُ العلم: وأنتم قدوةٌ لغيركم في تحقيق الائتلاف وردمِ فجواتِ الاختلاف وآثارِها السيئة وإذا كان الخلافُ واردًا في بعضِ مسائل العلم، وفي عددٍ من الاجتهادات والأمور الفرعية، فينبغي أن يبقى حبلُ الودِّ متصلًا، فالخلافُ في الرأي لا يُفسد للودِّ قضيةً - كما يُقال - وإذا كان الصحابةُ رضوان اللهِ عليهم قد اختلفوا في بعض المسائلِ الاجتهادية - فميزتُهم أنهم كانوا مع ذلك أهلَ مودةٍ وتناصح، ومع تنازعهم في مسائلَ علميةٍ اعتقاديةٍ إلا أنهم حافظوا على بقاءِ الجماعةِ والأُلفة .. كما قررَ ذلك العلماءُ كالشاطبيِّ وابن تيميةَ وغيرِهم (2).
أما أنتم معاشرَ العَوامَ: فلا تظنوا أن الاختلافَ بين العلماء في بعض المسائلِ مؤشرٌ للشرور والفساد، بل قد يكون الاختلافُ رحمةً وتوسعة، ومن فقه عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله قولُه: ما يَسرُّني أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالًا، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سَعةٌ (3).
ونقل ابنُ تيميةَ أن رجلًا صنَّف كتابًا سماه «كتابَ الاختلاف» فقال الإمام
(1) الفتاوى لابن تيمية 28/ 209.
(2)
الموافقات 4/ 186، الفتاوى 19/ 123.
(3)
الفتاوى 30/ 80.
أحمدُ: سمِّه «كتاب السعة» (1).
ومع ذلكَ كلِّه فعلى العلماءِ والدعاةِ وطلبةِ العلم والوعاظِ والمربين أن يسعوا إلى التأليف واجتماع الكلمة، ولو كان ذلك بترك فعلِ المستحبّات - أحيانًا - إذ أن مصلحةَ التأليفِ وجمعَ القلوبَ أولى وأعظمُ من فعل المستَحبّ أحيانًا، وفي هذا يقول شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله:«ويستحبُّ للرجل أن يَقصدَ إلى تأليفِ القلوبِ بترك هذه المستحباتِ، لأن مصلحةَ التأليف في الدين أعظمُ من مصلحةِ فعل مثلِ هذا، كما ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم تغييرَ بناءِ البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوبِ، وكما أنكر ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه على عثمانَ رضي الله عنه، إتمام الصلاةِ في السفر، ثم صلى خلفه مُتِمًّا، وقال: الخلافُ شرٌّ» (2).
وليس فقيهًا مَنْ فَرَّق المسلمين بفعل سنةٍ، لأنه أخلّ بواجبٍ؛ ولهذا كان الشيخُ رحمه الله يرشدُ الأئمةَ إلى جمع كلمة الجماعة ولو تنازلَ عن بعض ما يراه ويقول:«ولو كان الإمامُ يرى استحبابَ شيءٍ، والمأمومونَ لا يستحبونه، فترَكه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن» (3).
(1) الفتاوى: 14/ 159، فقه الائتلاف (27).
(2)
الفتاوى 22/ 407.
(3)
الفتاوى 22/ 268.