الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحن وأهل الكتاب
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربّ العالمينَ، يهدي من يشاءُ ويضلُّ من يشاءُ، ومن يهدي اللهُ فما له من مضلٍّ، ومن يُضلل فليس له من سبيل.
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ، وله الخلقُ والأمر، تبارك الله ربُّ العالمين.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، ورسالتُه للناسِ كافّةً، وأخذ اللهُ له الميثاقَ على النّبيين بالإيمان والتصديق والنُّصرة له حين يُبعثُ، وكذلك أُخِذَ الميثاقُ على الأنبياءِ لتبليغ أُمِمهم بهذا الميثاق .. فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الأنبياءَ ووفى بالميثاق، ومن عصاه ضلّ وهو في عدادِ الناقضين للميثاق، واقرءوا إن شئتمَ قولَه تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (2).
أيها المسلمون: المعركةُ بيننا وبين أهلِ الكتابِ من اليهود والنّصارى معركةٌ قديمةٌ متجدِّدة، والعداوةُ متأصِّلةٌ باقيةٌ حتى يدخلَ أحدُنا في دين الآخر {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (3).
وهذه المعركةُ لها سلاحان: سلاحٌ ماديٌّ يختلفُ ويتجدّد باختلاف العصور،
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 10/ 1421 هـ.
(2)
سورة آل عمران، الآية:81.
(3)
سورة البقرة، الآية:120.
فمن الحَرْبة والسيف إلى الدّبابة والمدفعيةِ والطائراتِ المقاتلةِ، وأنواعِ الأسلحةِ الحديثةِ، ونحن وإيّاهم في هذا السلاحِ نتناوبُ النصرَ والهزيمةَ، فتارةً نغلبُهم ونحطِّمُ قُواهُم - كما حصَل في فتراتٍ من التاريخ - وتارةً يغلبونَنا ويُذلِّون أعزاءنا ويقهروننا ويحتّلون أرضَنا ويسيئون إلى مقدساتنا - كما هو واقعٌ اليومَ - ولكن السلاحَ الآخرَ وهو السلاحُ المعنويُّ - سلاحُ الفكرِ والعقيدةِ - وما يَنتجُ عنه من حقٍّ أو باطلٍ - هذا السلاحُ لنا فيه الغلبةُ والتفوقُ قديمًا وحديثًا.
حكمَ القرآنُ بتفوّقِنا وصحّةِ دينِنا وحكَم على أهل الكتاب بالكذب وتلبيس الحقائق وكَتْمِ الحقِّ .. فقال عنّا وعن ديننا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1)، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2)، وقال عن أهل الكتاب:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (3)، وقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (4).
أجل؛ لقد خاطب اللهُ علماءَ أهلِ الكتاب ناهيًا لهم عن تحريف الحقِّ وكتْمِه والتلبيسِ بالباطل فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5).
وقرّر سبحانه - وهو أعلمُ بما تخفي صدورُهم - بمعرفتهم للحقّ الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم وإن خالفوه - فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (6).
(1) سورة آل عمران، الآية:19.
(2)
سورة آل عمران، الآية:85.
(3)
سورة المائدة، الآية:17.
(4)
سورة التوبة، الآية:30.
(5)
سورة آل عمران، الآية:71.
(6)
سورة البقرة، الآية:144.
عبادَ اللهِ: إنّ عقيدَتنا - معاشرَ المسلمين - مع كونِها الأحقَّ والأجدرَ بالبقاءِ، وهي الرسالةُ الأخيرةُ للبشر .. فهي أوسعُ وأرحبُ من الأديان والعقائد الأخرى .. فنحن نؤمن بالأنبياء جميعًا، ونُجلُّهم ونقدّرُهم .. ونؤمنُ كذلك بما أُنزل عليهم ونعتقد أنه - قبل التحريف - من عند الله يجبُ الإيمانُ به والتصديقُ، أما غيرُنا من اليهود والنصارى فيضيق أُفقُهم، ويؤمنون ببعض الكتابِ ويكفرون ببعضٍ، ويعظّمون أنبياءَ إلى حدِّ عبادِتهم من دون اللهِ .. ويعتدون على آخرين ظلمًا وعدوانًا بالسبِّ والتُّهم الباطلةِ والتكذيبِ، بل وصل الأمرُ بهم إلى قتْل بعضِهم، فضلًا عن تكذيبهم {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (1).
أما نحن - معاشرَ المسلمين - فأحدُ أركانِ الإيمان عندَنا الإيمانُ بالكتب السماويةِ المنزَّلةِ، وبالرُّسل المرسلَةِ من اللهِ، وفي كتابنا العزيز:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (2).
أيها المسلمون: وهناك حقيقةٌ لا بد أن نُدركَها وهي أنّ رفضَ أهلِ الكتاب للحقّ الذي يُمثّله دينُنا ليس سببُه الجهلَ دائمًا، بل قد يعلمون الحقَّ - ولا سيَّما العلماء منهم - ويُصرُّون على الباطل، وفي «صحيح البخاري» من حديثِ أبي سفيانَ وقصة نزوله عند هرقلَ - زعيمِ الروم - ما يكشفُ هذه الحقيقةَ بجلاءٍ .. وقد قال هرقلُ زعيم النصرانيةِ حينها، لزعيم الوثنيةِ حينها أبي سفيانَ: إن كان ما تقولُ حقًّا فسيملكُ موضعَ قدميَّ هاتين، وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ، لم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أَخلصُ إليه لتجشّمتُ لقاءَه، ولو كنتُ عِندَه لَغَسَلْتُ عن قدمِه (3).
(1) سورة البقرة، الآية:87.
(2)
سورة البقرة، الآية:285.
(3)
أخرجه البخاري في «صحيحه» مطوّلًا برقم (3).
بل قال هرقلُ لعظماء الرومِ من بني قومِه: هل لكم في الفلاح والرُّشد، وأن يُثبَّتَ ملكُكم فتبايعوا هذا النبيَّ؟
ومع ذلك كلِّه، فقد ظل هرقلُ وعظماءُ الروم على نصرانيتِهم الباطلةِ وحاربوا الدّينَ الحقَّ .. وكانت معركةُ (مؤتة) بين المسلمين والنصارى والرسولُ صلى الله عليه وسلم لا زال حيًا .. ثم استمر النصارى في صراعٍ مع المسلمين حتى قضوا على دولتِهم وملكوا موضعَ قدمَي هرقلَ، وغادر الشامَ منهزمًا أمام جند المسلمين، وهو يقول:«سلامٌ عليكِ يا سوريةَ لا لقاءَ بعدَه» .
واليوم، ومع ضعفِ المسلمين وغَلبةِ أهلِ الكتابِ غلبةً ماديةً .. لا نشكُّ أنه يوجدُ من أهل الكتابِ من يعلمُ الحقَّ الذي يمتلكُه المسلمون وإنّما كتمانُ الحقِّ يتكررُ ويتجددُ بين أهل الكتابِ، ولكن مهما طال ليلُ الظالمين فستنكشفُ الحقيقةُ، وينبلجُ الصبحُ مؤذنًا بنصرةِ الحقِّ وأهلِه، وهزيمةِ الباطلِ وأنصارِه .. ولكن ذلك كذلك مرهونٌ بنصرةِ المسلمين لدينهم وثبَاتهم على حقِّهم وتمسُّكِهم بعقيدتهم {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1)، {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (3).
إنّ كُتَبَ أهل الكتابِ - التي لم تُحرّفْ - تشهدُ على هذه الحقيقةِ، وتعترفُ بحقِّ المسلمين، وباللعنةِ والغضبِ على اليهود والنصارى .. وقديمًا أُقيمت الحجةُ على أهل الكتابِ من خلال كتبهم، وتحدّاهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4)، ثم ظهرت بعد قرون من وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كتبٌ تردُّ على النصارى في دعواهم، وتكشفُ ما في كتبهم من تحريفٍ ومغالطات وتَستدلُّ بما لم يُحرَّفْ منها على الحقِّ الذي جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ..
(1) سورة محمد، الآية:7.
(2)
سورة الروم، الآية:47.
(3)
سورة الرعد، الآية:11.
(4)
سورة آل عمران، الآية:93.
وكان كتابُ شيخ الإسلامِ ابنِ تيمية رحمه الله «الجوابُ الصحيح لمن بدّل دينَ المسيح» حجةً على القوم .. وردًا على المبطلين .. وكشفًا للحقيقة أمام المصنفين.
واليوم ظهرت دراساتٌ تكشفُ عن هذه النبوءات في التوراة، وتشير - فيما تشير إليه - إلى قربِ نهايةِ دولةِ إسرائيل - والعلمُ عند اللهِ - ولعلّ من أواخر هذه الدراساتِ وأحدثِها كتابٌ بعنوان «يومُ الغضب هل بدأ بانتفاضة رجبِ؟ » (1). وهو: قراءةٌ تفسيريةٌ لنبوءات التوراةِ عن نهاية دولةِ إسرائيلَ، وهي مأخوذةٌ من كتب القومِ وأسفارِهم، وفي مقدمة الكتابِ قال المؤلفُ: إن التوراةَ لا تدلُّ فحسب على أن قضيةَ الجنديِّ الصهيونيِّ غيرُ عادلةٍ، بل تدلّ على أنّ من الواجب عليه أن يُقاتل في الصف المقابلِ، كما تفرضُ على المستوطِن أن يعلمَ أن قدومَه إلى هذه الأرضِ، إنما هو لاستنزالِ عقوبةِ اللهِ وإحلالِ غضبهِ عليه، فلا أقَلّ من أن يرحلَ.
وفي الكتاب الأنف نصوصٌ وشواهدُ من كُتب القوم تشهدُ على كذبِ اليهودِ والنصارى في دعواهم الحقَّ في قضيتهم، وتكشفُ عن الزيف في النبوءات التي يُروّجها كهنةُ الأصوليين من اليهود والنصارى .. بل وفيه كذلك ما يشهد لنبوءات
(1) للدكتور: سفر الحوالي.
المسلمين عن نهاية اليهودِ وهزيمةِ المسلمين لهم.
ومن التوقع أن يكون لهذا الكتابِ أثرُه عند الباحثين عن الحقّ من أهل الكتابِ، لاسيّما وقد بدأت ترجمةُ الكتاب إلى اللغة الإنجليزيةِ، وسواء وقع الأثر الإيجابيُّ وانتفع به أو بغيره اليهودُ والنصارى أو لم ينتفعوا، فالحقُّ ظاهرٌ بإذن الله بوعدِ اللهِ، واللهُ لا يُخلفُ الميعادَ، أعوذ بالله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (1).
(1) سورة الصف، الآية:9.