الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمنُ الشامُل مسئوليتنا جميعًا
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله مَنَّ على عبادِه بنعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى، فمنهم من يشهدُها - أو بعضَها - فيزدادُ لرّبه شكرًا، ومنهم من يجهلُها أو يتجاهلُها، فلا تزيدُه النِّعمُ إلا بَطَرًا وأَشَرًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا .. وشملت رحمتُه الثَّقلين إنسًا وجنًّا .. وهي أقربُ للمحسنينَ وأظهرُ عند المسلمين.
وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه حَذّر وأنذرَ أذيّةَ المسلمينَ، فكلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه .. اللهمّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعين ومن تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).
عبادَ الله: الأمنُ مَطلبٌ لنا جميعًا، والأمنُ مسئوليتُنَا جميعًا، والحياةُ لا طعمَ لها إذا فُقد الأمنُ، والأحياءُ تسودُ حياتَهُم الفوضى، وتنقلبُ السعادةُ إلى شقاءٍ إذا فُقدَ الأمنُ وعمّتِ الفوضى، والله تعالى يُذكِّرنا بنعمةِ الأمن في أكثرِ من موطنٍ في كتابه، ويربطُ ذلك بعبوديته، ويُحذّرُ من مَغبَّةِ فقده، والكفرِ بنعمِه،
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 2/ 1421 هـ
(2)
سورة المائدة، الآية:35.
(3)
سورة التوبة، الآية:119.
ويقول تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (1).
وهكذا يتضحُ أن حاجةَ الناسِ للأمنِ لا تقلُّ عن حاجتِهم للطعامِ، ولذا قيل:«الأمنُ أهنأُ عيشٍ، والعدلُ أقوى جيشٍ» .
وإذا تنافستِ الدولُ مسلمُها وكافرُها، قديمُها وحديثُها في رعايةِ الأمنِ وتوفيرِه لرعاياها، كان للإسلامِ - بحقّ - قَصَبُ السبقِ في توفيرِ الأمن، عبرَ ضوابطَ وحدود، وأخلاقٍ وآدابٍ، وحقوقٍ وواجباتٍ على الفردِ والمجتمعِ، لا يتوفرُ مثلُها أو قريبٌ منها في غيرِه، وكانَ للمسلمينَ - كذلك - ميزةٌ على غيرهم في توفيرِ الأمنِ بطواعيةٍ واختيار .. إذ كلُّهم بوازعِ الدينِ والرقابةِ الداخلية والقيامِ بِشعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، يُشكّلونَ أنفسَهُم حُماةً للأمنِ يردعونَ الجُناةَ، ويكشفونَ أوكارَ الفسادِ، وينشرونَ المعروفَ، ويساهمونَ جميعًا في حراسةِ الفضيلةِ .. وتلك أيضًا لا تتوفرُ لغيرِهِم من الشُّعوبِ من أبناءِ المِللِ الأخرى.
أيّها المسلمون: وما فئتتِ الدولُ المتقدمةُ تُطالبُ بحقوقِ الإنسان .. وهي نفسُها التي تُهلكُ الإنسانَ وتُؤذِي كرامتَه، وما فئتت هذه الدولُ تبحثُ عن ضماناتٍ تحفظُ الأخلاقَ، وتُصانُ بها الحقوقُ .. وهي بواقِعِها ووسائِلِها تُدمّرُ الأخلاقَ وتسحقُ الحقوق.
(1) سورة قريش، الآيتين: 3، 4.
(2)
سورة النحل، الآية:112.
أما نحنُ، معاشرَ المسلمينَ، فحقوقُنا محفوظةٌ، وآدميتُنا مكرّمةٌ، وأخلاقُنا الإسلاميةُ سياجٌ للكرامةِ والفضيلة .. وحدودُنا الإسلاميةُ مكفراتٌ ومطهراتٌ للجُناة، بل وفي قِصاصِنا حياةٌ - كما أخبر العليمُ القدير - حتى وإن اتهَمَنا الآخرونَ وشنُّوا حملاتِهم الظالمةَ على تنفيذِ أحكامِ اللهِ وحدودِه، وهم حينَ عجزوا عن الوصولِ إلى تطبيقِ هذه الأحكامِ، وأفلتَ المجرمونَ من أيديهِم، وتوسّعَ الخَرْقُ على الراقع، أرادوا أن يحسدُونا ويشوّهوا صورتَنا؛ لنرتكسَ في حَمَأَةِ الرذيلةِ التي ارتكسوا فيها .. ولتعودَ حياتُنا بهيميّةً كحياتِهم، ويأبى اللهُ ذلك والمؤمنون.
إن البعضَ قد ينخدعُ بهذه الصيحاتِ الفاجرةِ، فيستصعبُ قتلَ القاتلِ أو رجمَ الزاني، أو قطعَ يدِ السارق - أو نحوها من الحدودِ، وينسى رحمةَ اللهِ بعبادِه عمومًا في تقريرِ هذه الأحكام، وما لها من آثارٍ في تقليلِ الجرائمِ والحدِّ من عنفوانِ المجرمين، وحماية المجتمع كلِّه من الفسادِ والمفسدين.
يقولُ ابن تيميةَ رحمه الله: العقوباتُ الشرعيةُ كلُّها أدويةٌ نافعةٌ، يُصلحُ اللهُ بها مرضَ القلوبِ، وهي من رحمةِ اللهِ بعبادِهِ، ورأفتِه بهم الداخلةِ في قولِه تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1).
فمن تركَ هذه الرحمةَ النافعةَ لرأفةٍ يجدُها بالمريض، فهو الذي أعانَ على عذابِه وهلاكِه، وإن كان لا يريدُ إلا الخيرَ؛ إذْ هو في ذلك جاهلٌ أحمقُ، كما يفعل بعضُ النساءِ والرجالِ بمرضاهم أو بمن يربُّونَهُم من أولادِهم وغلمانِهم في تركِ تأديبهم وعقوبَتِهم، على ما يأتونَه من الشرّ ويتركونه من الخيرِ رأفةً بهم، فيكونُ ذلك سبَبَ فسادِهم وعدوانِهم وهلاكهم (2).
(1) سورة الأنبياء، الآية:107.
(2)
الفتاوى 15/ 290.
إخوةَ الإسلام: والعقوباتُ في الإسلامِ لا يُرادُ منها التسلّطُ على الأفراد، وليس فيها ظلمٌ لهم، وليست أكبرَ من جرائمِهم .. أجل لقد أحكمَ اللهُ سبحانه وجوهَ الزجرِ الرادعةِ عن هذه الجناياتِ غايةَ الإحكام، وشرَعها على أكملِ الوجوهِ المتضمنةِ لمصلحةِ الردعِ والزجرِ، مع عدم المجاوزةِ على الجاني، فلم يشرعْ في الكذِبِ قطعَ اللسانِ، ولا في الزنا الخِصاءَ، ولا في السرقةِ إعدامَ النفس، وإنما شرعَ لهم ما تزولُ به النوائبُ وتنقطعُ الأطماعُ، وما تكون سبيلًا إلى أن يقنَع كلُّ فرد بما قسمَ اللهُ له (1).
إن أحكامَ اللهِ وحدودَه تؤمّنُ للناسِ الانتظامِ في عيشِهم، وتدفعُ عنهم الأضرارَ من غيرهم، يقول ابنُ القيم رحمه الله:«ولولا عقوبةُ الجُناةِ والمفسدينَ لأهلكَ الناسُ بعضُهم بعضًا، وفسدَ نظامُ العالَم، وصارتْ حالُ الدوابِّ والأنعامِ والوحوشِ أحسنَ من حالِ بني آدم» (2).
أيّها المسلمون: وإذا كانت مسئوليةُ الأمنِ تحظى باهتمامِ الدولةِ - وفقها الله - بكافةِ أجهزتِها وقطاعاتِها، ويشهدُ المواطنونَ والمقيمونَ آثارَها، فينبغي أن نكونَ جميعًا عونًا لها في تحقيقِ هذا المطلبِ الضروريِّ للحياةِ والأحياء، فلا نتسترُ على مجرم، ولا نعينُ ظالمًا على ظلمِه، ولا نسمحُ لمن يريدُ أن يُخِلّ بالأمن، أو يهددَ الكرامة، أو يستهينَ بالخُلقِ الكريمِ، بل يجدرُ بنا أن نكونَ جميعًا حُرّاسًا أوفياءَ للفضيلةِ، وعيونًا ساهرةً لمحاصرةِ الجريمةِ، وكشفِ أوكارِ المفسدين.
وإنَّ من السلبيةِ أن نرى أو نعلمَ ما يُخلُّ بالأمنِ ثم نتخلّى عن المسئوليةِ؛
(1) ابن القيم «إعلام الموقعين» 2/ 114، باختصار وتصرف يسير، وانظر «المسئولية الخلقية» أحمد الحليبي 467.
(2)
إعلام الموقعين 2/ 121.
بحجةِ أن هذه ليست من وظيفِتنا، علمًا بأن الفسادَ إذا وقعَ فلن نسلمَ من آثارِه جميعًا، والمجرمونَ إذا تجاوزونا إلى غيرنا حينًا .. فقد يتجاوزونَ غيرَنا ويصلونَ إلينا حينًا أخرى، والله تعالى أمرَنا بالتعاونِ على البِرِّ والتقوى، ونهانا عن التعاونِ على الإثمِ والعُدوان، ورسولُنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أننا إذا رأينا الظالمَ ثم لم نأخذْ على يديه أوشكَ اللهُ أن يعُمّنا بعقابٍ من عندِه.
وعلينا جميعًا أن نتفطنَ ولا ننخدعَ بمن يُظهرونَ الخيرَ والنزاهةَ، ويبطنونَ الشرَّ ويتلبّسونَ سِرًّا بالجرائم، وإذا وُجِدَ مثلُ هؤلاءِ المخادعينَ في عصورِ الراشدين، فما الظن بغيرِهم، ودونكم هذه الحادثةَ فتأمَّلُوها.
أخرجَ الإمامُ مالك في «موطأه» أن رجلًا من أهلِ اليمنِ أقطعَ اليدِ والرِّجلِ قدمَ المدينةَ، فنزلَ على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، فشكى إليه أن عاملَ اليمن قد ظلمَه، فكانَ يُصلّي من الليل، فيقول أبو بكر: وأبيكَ ما ليلُكَ بليلِ سارقٍ، ثم إنهم فقدوا عِقدًا لأسماءَ بنتِ عميس - امرأةِ أبي بكرٍ الصديقِ - فجعلَ الرجلُ يطوفُ معهم ويقولُ: اللهمَّ عليكَ بمن بيّتَ أهلَ هذا البيتِ الصالح. فوجدوا الحُلِيَّ عند صائغٍ زعمَ أن الأقطعَ جاءَ به، فاعترفَ به الأقطعُ أو شُهِدَ عليه بهِ، فأمرَ به أبو بكرٍ فقُطعتْ يدُه اليُسرى، وقال أبو بكر: واللهِ لدعاؤهُ على نفسِه أشدّ عندي عليه من سرقتِه (1).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (2).
(1) الموطأ مع شرح الزرقاني، كتاب الحدود: 4/ 159.
(2)
سورة الأنعام، الآية:82.