الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المخدّرون المُستهزئون
(1)
الخطبة الأولى
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئات أعمالِنا.
اتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين وراقِبوه، فبالتقوى تصلُح أمورُ الدّين والدُّنيا، وبالتقوى يستقيمُ الفردُ والمجتمعُ .. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4).
أيها المسلمون: لا غَرَابة أن تُحاصَرَ الأمةُ الإسلاميةُ من قِبَلِ الأعداءِ، فذاك جزءٌ من العَدَاوةِ والبغضاء، وسعيٌ لتحقيقِ العَنَتِ كما قال تعالى:{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (5) ولا غرابةَ حين يسعى اليهودُ والنصارى أو الشيوعيون أو الوثنيون أو المنافقون للعَبَثِ بهويةِ الأمةِ، ومحاربةِ فكرِها وتشويهِ أخلاقِها، والاستهانةِ بقِيَمِها، فذلك سعيٌ منهم لسَلْكِ الأمةِ في مسلكِهم، والله يقول:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (6)، ويقول:{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (7). ولكن المستغرب حقًا حين يتسلّلُ
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة 19/ 1/ 1422 هـ
(2)
سورة الطلاق، الآيتين: 2، 3.
(3)
سورة الأحزاب، الآيتين: 70، 71.
(4)
سورة التوبة، الآية:119.
(5)
سورة آل عمران، الآية:118.
(6)
سورة النساء، الآية:89.
(7)
سورة الممتحنة، الآية:2.
نفرٌ من أبناءِ المسلمين - بعلمٍ أو بجهل - إلى عقائد الأمةِ وأخلاقِها وثوابِتها ومصادرِ التشريع فيها .. ساخرًا مستهزئًا .. أو مشوّهًا ظالمًا، أو مُستَهينًا مستحقِرًا.
وما زال المسلمون بين الفَيْنَةِ والأخرى يسمعون عن أشخاصٍ يسخرون بشيء من شعائر الدين، أو يَلمِزون المطَّوِّعين من المؤمنين، أو يقلِّلون من شأن السُّنةِ النبويةِ، أو يُطلقون لألسنتهم العَنَانَ في الطعنِ بخِيار الأمةِ من الصحابةِ أو التابعين أو العلماء الربّانيين، أو يتحدَّثون عن القِيمِ الإسلاميةِ، والحدودِ الشرعيةِ، وأحكامِ الدين القطعيةِ، على أنها قضايا مطروحةٌ للنقاشِ ولهم الخِيَرَةُ في قَبُولِها أو رفضِها، والله يقول:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1).
إن الاستهزاءَ بشيءٍ من آياتِ اللهِ أو رسلهِ أو المؤمنينَ باللهِ لإيمانهم .. كفرٌ صُرَاحٌ ورِدّةٌ عن الإسلام، وكما قال تعالى:{قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2).
حتى وإن ظن ذلك المستهزئُ عند نفسِه أنه لم يأتِ كفرًا، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في تعليقه على هذه الآية، فدلّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسِهم قد أتوا كُفرًا، بل ظنوا ذلك ليس بكفر، فبيّن أن الاستهزاءَ باللهِ وآياتهِ ورسولِه كفرٌ، يُكفّر به صاحبُه بعد إيمانه (3).
عبادَ اللهِ: ومن أواخِر ما تَسامَع الناسُ به - في مجال السُّخريةِ بآياتِ اللهِ - الغناءُ بالقرآن، وتلحينُ آياتِه على أنغام الموسيقى وآلاتِ الطّرَبِ، ولم يكن هذا غلطةَ ساخرٍ واحدٍ، بل سَرَى ذلك في عدَدٍ من أصحابِ هذه البضاعةِ المُزْجَاةِ، وتناقلت بعضُ الصُّحفِ أسماءَ عددٍ من هؤلاءِ الساخرين، ونَتَج عن هذا نظرةٌ
(1) سورة الأحزاب، الآية:36.
(2)
سورة التوبة، الآية:66.
(3)
الفتاوى 7/ 273.
مَشُوبَةٌ بالحَذَرِ والاستغراب لدى عُمومِ المسلمين، الذين يَحمِلون غيرةً على حُرُماتِ الله، سواءً كانوا ملتزمين أو غيرَ ملتزمين بجميع شعائرِ الدِّينِ، لهؤلاء المُغنيّنَ والمغنياتِ.
إن الغناءَ - بحدِّ ذاتِه - محرّمٌ شرعًا، كيف لا! واللهُ يقول في كتابه العزيز:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1).
سُئل ابنُ مسعود رضي الله عنه عن {لهو الحديث} في هذه الآيةِ، فقال: هو الغِناءُ، واللهِ الذي لا إله إلا هو - يُردّدها ثلاثًا - وكذا قال ابنُ عمرَ، وابنُ عباس وجابرٌ، ومجاهدٌ، وعكرمةُ، والحسنُ، وسعيدُ بن جُبَير، وقَتادةُ، والنّخَعيُّ وميمونُ بنُ مِهْرانَ، ومَكحولٌ (2).
وقال ابنُ القاسم: سألت مالكًا عن الغناءِ فقال: قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (3) أفحقٌّ هو؟ (4).
وقال القرطبيُّ عند تفسير هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} هذه إحدى الآياتِ الثلاثِ التي استدل بها العلماءُ على كراهةِ الغناءِ والمَنْع منه، والآيةُ الثانية قولهُ تعالى:{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (5) قال ابنُ عباس: هو الغناءُ بالحِمْيريّة: اسْمِدي لنا، أي: غنِّي لنا. والآية الثالثة قولهُ تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (6). قال مجاهدٌ: الغناء والمزامير (7).
(1) سورة لقمان، الآية:6.
(2)
تفسير القرطبي 14/ 51، 52.
(3)
سورة يونس، الآية:32.
(4)
السابق 14/ 52.
(5)
سورة النجم، الآية:61.
(6)
سورة الإسراء، الآية:64.
(7)
تفسير القرطبي 14/ 51.
وفي «صحيح» البخاري في كتاب الاستئذان «باب: كل لهو باطلٌ» إذا شَغَله عن طاعةِ الله .. ثم ساق الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} .
قال ابنُ حَجر: يشمل هذا النهيُ المُشغِلُ عن طاعةِ الله ما كان مأذونًا بفعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتغل بصلاةِ نافلة أو تلاوةٍ أو ذِكْر أو تفكّر في معاني القرآنِ مثلًا، حتى خرج وقتُ الصلاةِ المفروضةِ عَمْدًا، فإنه يدخل تحت هذا الضابط، ثم قال: وإذا كان هذا في الأشياء المُرَغّبِ فيها والمطلوبِ فِعلُها، فكيف حالُ ما دُونَها؟ (1)
وترجمةُ البخاري هنا إشارةٌ منه إلى حديثٍ رواه أحمدُ والترمذيُّ وحسّنه أبو داودَ، والنسائي، وصححه ابنُ خزيمةَ والحاكمُ من حديث عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ اللهَ عز وجل ليُدْخِل بالسَّهم الواحدِ ثلاثةَ نَفَرٍ الجَنّةَ .. إلى قوله - وهو الشاهدُ هنا - «كلُّ لَهْوٍ باطلٌ، ليس من اللهوِ محمودٌ إلا ثلاثةٌ: تأديبُ الرجلِ فرسَه، وملاعبَتُه أهلَهُ، ورَمْيَه بقوسِه ونَبْلِهِ، فإنهنّ من الحقِّ» (2).
ومن تلميح البخاريِّ إلى تصريحهِ، فقد ساق الحديثَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«ليكونَنّ من أُمتي أقوامٌ يَستحلّون الحِرَ والحَريرَ والخمرَ والمعازِفَ» (3).
والمعازفُ هنا - كما قال شُراح الحديثِ - آلاتُ الملاهي والغناء.
وتأمّل هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «يستحِلُّون» فهو مؤشرٌ إلى حُرمتها، وتأمّل كذلك كيف قُرِن تحريمُ «المعازف» مع تحريم الزِّنا وهي «الحِر» والحريرَ والخمر .. فماذا يُقال في «الغناء» بعد هذا؟
(1) الفتح 11/ 91.
(2)
انظر «جامع الأصول» لابن الأثير 5/ 41، 42، و «الفتح» لابن حجر 11/ 91.
(3)
أخرجه البخار ي (5590)، الفتح 10/ 51 وفي مواطن أخرى.
إخوة الإسلام: وتردّدت عباراتُ السّلَفِ في وصفِ المُغنيّن بأوصافٍ مُشينة، فمرةً يُوصَفون بالسّفَه، ومرةً بالفسوق، فالإمامُ مالك رحمه الله قال حين سُئِلَ عن الغناء في المدينة: إنما يفعلُه عندنا الفُسّاق (1).
وعن القرطبي قال: الاشتغالُ بالغناء على الدّوام سَفَهٌ تُرَدّ به الشهادةُ (2).
عبادَ الله: وعن أثر الغناءِ على القلوبِ قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله: «ومَن كان له خبرةٌ بحقائقِ الدِّين وأحوالِ القلوبِ، ومعارِفِها وأذواقِها ومواجيدِها، عَرَف أن سماعَ المُكاءِ والتّصْديةِ لا يَجلبُ للقلوبِ منفعةً ولا مصلحةً، إلا وفي ضمن ذلك من الضّررِ والمفسدةِ ما هو أعظمُ منه، فهو - الغناء - للروح كالخمرِ للجسد، يفعل في النفوسِ فِعْلَ حُميا الكؤوس، ولهذا يُورّث أصحابَه سُكرًا أعظمَ من سُكر الخمر، فيجدون لَذّةً بلا تمييز، كما يجدُ شاربُ الخمر، بل يحصل لهم أكثرُ وأكبرُ مما يحصل لشاربِ الخمرِ، ويصدُّهم عن ذِكْرَ اللهِ، وعنِ الصلاة أعظمَ مما يَصُدُّهم الخمرُ، ويُوقع بينهم العداوةَ والبغضاءَ أعظمَ من الخمر، حتى يَقتلَ بعضُهم بعضًا من غير مَسٍّ بيدٍ، بل بما يقترن بهم من الشياطين (3).
إخوة الإيمانِ: ومَن يقرأُ أو يسمعُ عن حياة ما يُسمّى (بالوسطِ الفني) يجدُ هذه الآثارَ .. ويسمعُ عن بعضِ حفلاتِهم من الاختلاطِ مع النساءِ .. واختلاطِ المسلم بغيرِه من الكُفَّار والفُسّاق .. وما يُسمّى بالليالي الحمراءِ، وكلُّها صَخَبٌ وكأسٌ وغانيةٌ، إلى غير ذلك من ممارساتٍ لا أخلاقيةٍ، يتعفّفُ القلمُ عن ذِكْرها وتُنزَّه بيوتُ اللهِ من التصريحِ بها .. وكلُّ ذلك شاهدٌ على آثارِ الغناءِ وتأثيره على متعاطِيهِ .. ممّا نسألُ اللهَ لنا ولإخواننا المسلمين السلامةَ منه {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
(1) تفسير القرطبي 14/ 55.
(2)
السابق 14/ 51.
(3)
الفتاوى 1/ 573، 574.
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (1).
(1) سورة فاطر، الآية:8.