الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العشر الأواخر - قيام الليل، الاعتكاف
(1)
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيُّها المسلمونَ: ما أسرعَ الأيامَ تمضيّ! فقد كُنّا بالأمسِ نُهنئُ أنفسَنا بدخولِ شهرِ الصيام، واليومَ يحقُّ لنا أن نهنئَ بعضًا بقربِ حلولِ العشرِ الأواخرِ من رمضان .. ولئن تحدثنا - فيما مضى - عن معنى التهنئة ولوازِمِهَا - فحريٌّ بنا اليوم أن نستذكرَ قيمةَ البُشرى بإدراكِ العشرِ الأواخرِ من رمضانَ.
أجل، لقد صامَ معنا نفرٌ من إخوانِنا المسلمينَ أولَ الشهرِ، وهم اليومَ يرقدون تحت الثَّرى مرتهنونَ بأعمالِهم .. وفي غيبِ اللهِ، كذلك ستخِرمُ المنايا أقوامًا سيشهدون العشرَ ولن يستكملوها - فهل يا تُرى تُحرّكُ هذه النوازلُ والفواجِعُ هِمَمَنا، وتغذوا سيرَنا للآخرة .. لاسيما ونحن في موسمٍ عظيمٍ من مواسِمِها، والمغبونُ حقًّا من فرّطَ فيها، وموتى الأحياء أعظمُ مصابًا من أصحابِ القبور .. أولئك الذين تدخلُ المواسمُ وتخرجُ وهم في غفلةٍ معرضون.
عبادَ الله: بُشراكم بالعشرِ الأواخرِ من رمضان، وهنيئًا لمن عقدَ العزمَ على إحياءِ لياليها بالقيامِ والذكرِ والدعاءِ والتلاوةِ والاستغفار.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 9/ 1421 هـ.
ولقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يخصُّ هذه العشرَ، ويجتهدُ فيها أكثرَ من غيرِها، وفي «صحيح» مسلم من حديثِ عائشة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرها» . وكان عليه الصلاة والسلام يوقظُ أهلَه، ويحيي ليلَه، ويَشُدُّ مِئزَره، ولكم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ.
عبادَ الله: وإذا كانت أعمارُ أمتِنا محدودةً مقارنةً بالأممِ الأخرى، فقد جعلَ اللهُ لنا في مثلِ هذه الأزمانِ الفاضلةِ ما يعوِّضُ به عن قصرِ أعمارِنا، ومن وفَّقه الله لقيام ليلةِ القدرِ كان كمن عملَ ما يزيدُ عن ثلاثٍ وثمانينَ عامًا، ألا وإن المفرطينَ في هذه الليلة لم يستفيدوا من هذه الفُرصةِ الممنوحةِ لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
ألا ويحَ الكسالى ولا نامت أعينُ المفرِّطين؟
إخوةَ الإيمان: وطالما فرَّطنا في قيام الليل - وهو دأبُ الصالحينَ قبلَنا - وفيما أوحي إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1). وجاء في أوصاف المتقين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (2). وفي وصفِ الذين يؤمنون بآياتِ الله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3).
عبادَ الله: أين المشمِّرونَ هذه الليالي يدعونَ ربَّهم خوفًا وطمعًا، والفرقُ كبيرٌ بين من تتجافى جنوبُهُم عن المضاجعِ .. وبين منَ يحيونَ الليلَ في سهرٍ صاخب .. أو في سُبات نومٍ عميق، لا تحرّكُ هِمّتَهم المواسمُ - ولا يسمعون لداعي الخير.
(1) سورة الإسراء، الآية:79.
(2)
سورة الذاريات، الآيتين: 17، 18.
(3)
سورة السجدة، الآية:16.
وكم هو عظيمٌ أن تألفَ النفسُ قيامَ الليلِ في هذه العشرِ الفاضلةِ، فيكونَ ذلك دَيْدَنًا للنفسِ في سائرِ العام.
وكم هو شرفٌ للنفسِ وعِزٌّ لها قيامُ الليل، وفي الحديثِ الحسن:«جاء جبريلُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ، عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، وأحبِبْ من شئتَ فإنكَ مفارقُه، واعلم أن شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزّهُ استغناؤه عن الناس» (1).
إنها وصايا جامعةٌ نزلَ بها الروحُ الأمينُ على قلبِ محمدٍ خاتمِ المرسَلين - وهي للأمةِ عامّةً شموعٌ مضيئةٌ .. فأين يا تُرى من يبحثونَ عن شرفِ النفسِ وعِزِّها؟ أين رُهبانُ الليلِ وسهامُهم لا تكاد تخطئ؟
وعن بعضِ السلف: قيامُ الليل يُهوِّن طولَ القيامِ يومَ القيامةِ، ولله درُّ أقوامٍ تعالتْ هِمَمُهم، حتى كادت السنةُ كلُّها أن تكونَ كالعشرِ الأواخرِ عند غيرهم .. تسامتْ نفوسُهم على حُطامِ الدنيا، وحطّوا رحالَهم في الآخرةِ - وهم بعدُ في الدنيا - وحادِيهم يقول - واصفًا لحالهم ومستصرخًا لغيرهم-:
إذا ما الليلُ أظلمَ كابَدُوه
…
فيُسفِرُ عنهم وهُم رُكوعُ
أطارَ الخوفُ نومَهم فقاموا
…
وأهلُ الأمنِ في الدُّنيا هجوعُ
لهم تحتَ الظلامِ وهُمْ سجودٌ
…
أنينٌ منه تنفرجُ الضلوعُ (2)
أيها الصائمون: إن من عجبٍ أن يبادرَ المحسنونَ، ويتراخى المفرِّطون! أَوَليس أهلُ التفريط - من أمثالنا - أولى بقيامِ الليلِ لسؤالِ المغفرةِ والتكفيرِ عن السيئة على إثرِ السيئةِ؟ !
(1) الأحاديث الصحيحة (831)، صحيح الجامع الصغير (73).
(2)
أحمد بن صالح الطويان - الدرر الحسان في أحاديث رمضان 213.
فما بالُنا تأخّرنا وتقدمَ غيرُنا؟ !
وهؤلاء المتقدمونَ أهلُ علمٍ وصلاحٍ وجهادٍ ودعوةٍ وطاعاتٍ يثقلُ بها الميزانُ، ومع ذلك لازموا قيامَ الليل؛ ليضيفوا الحسناتِ إلى الحسناتِ، ولتكتملَ الهممُ في جنحِ الظلامِ حيث لا يَرى إلا الذي يراكَ حين تقوم وتقلُّبك في الساجدين .. ولا يَسمعُ إلا الذي يعلمُ السرَّ وأخفى .. ودونكم نماذجَ من هِمَمِهم عسى أن توقظَ قلبًا غافلًا، أو تهدي فؤادًا شاردًا - ومنِ اهتدى فإنما يهتدي لنفسِه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها.
في «صحيح البخاري» و «مسندِ الإمام أحمد» عن أبي عثمانَ النهديِّ رحمه الله قال: «تضيَّفت أبا هريرةَ رضي الله عنه سبعةَ أيام - أي نزلتُ ضيفًا عليه - فكان هو وزوجتُه وخادِمُه يتقسمونَ الليلَ أثلاثًا، الزوجةُ ثلثًا، وخادمُه ثلثًا، وأبو هريرة ثُلثًا» .
وفي «تذكرة الحفّاظ» أن سليمانَ التيميَّ كان عندَه زوجتان، كانوا يتقسمونَ الليلَ أثلاثًا (1).
ومع اجتهادِ القومِ كانوا يتلذذونَ بهذه العبادةِ، وينافسونَ بها أهلَ الدنيا، ويقول أحدُهم: واللهِ لولا قيامُ الليل ما أحببتُ الدنيا، واللهِ إن أهلَ الليلِ في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللَّهوِ في لهوهِم، وإنه لتمرُّ بالقلب ساعاتٌ يرقصُ فيها طربًا بذكرِ اللهِ، فأقول: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ ما أنا فيه من النعيمِ إنهم لفي نعيمٍ عظيم (2).
نعم إخوةَ الإيمان: قد يستَغربُ هذا المنطقَ المفتونونَ بالدنيا، الغافلون عن الآخرة .. ولكن الفرصةَ أمامَهم ليجرِّبوا وسيجدون ما وجدَه غيرُهم.
(1) الطويان، السابق (294).
(2)
السابق (295).
إنَّ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ فرصةً للتعويضِ والتعويدِ، فرصةً لتعويضِ ما فاتَ، وتعويد النفسِ في مستقبلِ الأيامِ، وكيف يفرِّطُ عاقلٌ في عشرِ ليالي يدركُ بها المحتسبون المؤمنون ليلةَ القدر، وليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر.
يا عبدَ الله: مهما كان تفريطُك على نفسِك فيما مضى، فإياك أن تُتْبع الغفلةَ بغفلةٍ أخرى - بل قُم مع القائمين، واركعْ مع الراكعين .. عسى أن تدركَكَ نفحةٌ من نفحاتِ المولى فتسعدَ ولا تشقى .. والرجلُ مع من أحبَّ.
كم لك من حاجةٍ تتمنى قضاءها .. وكم عندَك من همومٍ تودُّ لو فُرِجتْ عنك أثقالُها .. كم عندك من خطايا ترغبُ الخلاصَ منها .. وكم أمامَك من عقباتٍ وأنتَ أحوجُ إلى تذليلِها والتقوِّي على صعودها .. ألا فبادرْ إلى فرصِ الخيرِ .. وخذ بنفسِك بالعزيمةِ، إني لك ناصحٌ، وعليك مشفقٌ، وما أنا وأنتَ إلا خلقٌ من خلقِ اللهِ، أحوجُ ما نكونُ إلى رحمتهِ، وأفقرُ ما نكونُ إليه، ولا يُعجزه أن يستبدلَنا بخير منا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (1).
اليومُ يومُ المهلةِ، وغدًا حسابُ يوم القيامةِ، ومن عَلِمَ فليعمل، وفرقٌ بين الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ، وصدق الله:{أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2).
اللهم انفعنا بهدي القرآنِ وسنةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام أقولُ ما تسمعون.
(1) سورة فاطر، الآيات: 15 - 17.
(2)
سورة الزمر، الآية:9.