الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله جلَّ شأنُه وتقدَّستْ أسماؤه، ولا إلهَ غيرُه، ولا معبودَ بحقٍّ سواه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، والداعي إلى رضوانِه صلى الله عليه وعلى إخوانه وآلهِ.
أيها المسلمونَ: صحّ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآنِ آيةٌ أجمعَ لحلالٍ وحرامٍ، وأمرٍ ونهي من هذه الآية:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (1).
فهل نأتمرُ بهذه الآيةِ العظيمةِ يا عبادَ الله؟ ! فنقيمُ حياتَنا على العدلِ، وننهى أنفسَنا عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي؟
إن من مظاهِرِ العدلِ قبولَ الحقِّ ممن جاءَ به، فالعِبرةُ بالقولِ لا بالقائل، وفي قصةِ الشيطانِ مع أبي هريرة رضي الله عنه حين وكَّله الرسولُ صلى الله عليه وسلم بحفظِ زكاةِ رمضانَ، ومجيء الشيطانِ إليه أكثرَ من مرةٍ حتى علّمه أن يقرأَ آيةَ الكرسي إذا أوى إلى فراشِه، وأنه بذلك يكونُ محفوظًا من الله، ولا يقربُهُ شيطانٌ حتى يُصبحَ، في هذه القصةِ صدّقَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم القولَ وإن صدرَ من الشيطانِ حيث قال:«أما إنه قد صدقَك وهو كذوب» (2).
ومن فقهِ هذا الحديثِ وفوائدِه - كما قال ابنُ حجرٍ رحمه الله: «أن الحكمةَ قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفعُ بها، وتُؤخذُ عنه فيُنتفَعُ بها، وأن الكافرَ قد يَصدقُ ببعض ما يَصدقُ به المؤمنُ ولا يكون بذلك مؤمنًا، وبأن الكذّاب قَد يَصدُقُ» (3).
وفي هذا الصددِ يُذكرُ من وصايا ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قولُه لرجل قال له: أوصني
(1) سورة النحل، الآية:90. ابن حجر: الفتح 10/ 479.
(2)
رواه البخاري برقم (2311).
(3)
الفتح 4/ 616. ح (2311).
بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: ومن أتاكَ بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطلِ فاردُدْه، وإن كان قريبًا حبيبًا (1).
إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبولِ الحقِّ قد نرفضُ حقًّا، لأنه جاء من شخصٍ نبغضُه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجَه بشكلٍ عام، علمًا بأن قبولَ الحقِّ الذي جاءَ به لا يعني موافقتَه في كلّ شيءٍ ولا الرضا عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخللُ في العدلِ في قبولِ الحقّ ورفضِ الباطل .. لقبولِ زلّةِ خطأٍ من شخصٍ نُحبُّه ونرتضي منهجَه علمًا بأن رفضَنا لهذه الزلَّةِ والخطأ منه، لا يعني بُغضَه ولا الانتقاصَ من قَدْرِه، ولا رفضَ بقيةِ الحقِّ الذي جاء به.
إنه العدلُ الذي ينبغي أن نأخذَ أنفسَنا به، ونتمنى به أن يُجريَ اللهُ الحقَّ على ألسنتِنا وألسنةِ خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله حين قال:«ما ناظرتُ أحدًا إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقَّ على قلبهِ ولسانِه، فإن كان الحقُّ معي اتبعَني، وإن كان الحقُّ معه اتبعتُه» (2).
وأين هذا يا مسلمونَ ممن يتمنونَ انحرافَ خصومِهم، أو يرمون مخالِفيهم بالباطل، ويتهمونهم، وينفِّرونَ الناسَ منهم، وهم مسلمون، بل قد يكونون علماءَ، وقد يكون ما معهم من الحقِّ أكثرَ من خصومِهم، فإلى اللهِ المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطانُ أحيانًا ببعض المحبينَ وكم يُخطئُ هؤلاء وينسفونَ قواعدَ العدلِ وهم يَحسبونَ أنهم يُحسنونَ صنعًا، وكم نظلمُ أنفسَنا ونظلمُ غيرَنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالثٍ وإشعالِ معاركَ وهميةٍ بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأولُ والأخيرُ منها هم الأعداءُ المتربِّصون - والخاسرُ الأكبرُ هم
(1) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 586 عن كتاب «فقه الائتلاف» ، محمود الخزندار ص (98).
(2)
عن فقه الائتلاف ص 104.
المعتدون الفاقدون للعدلِ والإنصاف .. وإن كانت الخسارةُ تَعمُّ والفتنةُ تقعُ على المسلمين! وأين نحنُ من هذا الموقفِ البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين .. يقدمه لنا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراحِ أسرى المسلمين من التتارِ أصرَّ كذلك على إطلاق سراحِ المأسورينَ من أهلِ الذمةِ قائلًا لمسئول التتر:«بل جميع من معك من اليهودِ والنصارى الذين هم أهلُ ذمّتِنا، فإنّا نفكُّهم ولا ندعُ أسيرًا لا من أهلِ الملَّةِ ولا من أهلِ الذمة» (1).
فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربانيُّ وعدَلَ مع غير المسلمينَ، وكان سببًا لفكّ أسرِهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعةِ بإخوانِه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟ !
إن للعدلِ - يا عبادَ اللهِ - آثارًا إيجابيةً على الفردِ والمجتمعِ والأمة، وفي الدنيا والآخرة يَشهدُها القائمونَ بالعدل، وتُنبئُ عنها تجاربُ الأفراد والأمم، وقد قال العالِمون:«إن الله يقيمُ الدولةَ العادلةَ وإن كانت كافرةً، ولا يقيمُ الظالمةَ وإن كانت مسلمةً» (2).
عبادَ الله: ويبقى السؤالُ الأخيرُ: ما السبيل للعدل؟ وكيف نسلك بأنفسِنا للعدل؟
إن تأمُّلَ آياتِ الكتابِ العزيزِ في العدلِ كفيلةٌ بأن تربّى النفوسَ على العدل، وكذا ما في هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم من نماذج العدلِ كلُّها نصوصٌ تأخذُ بالنفوسِ نحوَ العدل، ومساكينُ من يقرءون القرآنَ ثم هم يظنون أن المخاطَبَ غيرُهم، ومما يُسهمُ في العدلِ أن يتذكرَ المسلمُ أن العدلَ سببٌ للسعادةِ في الدنيا والآخرة،
(1) حياة شيخ الإسلام، محمد بهجت البيطار ص 15، عن الرسالة القبرصية، فقه الائتلاف/ 47.
(2)
ابن تيمية الفتاوى 28/ 146.
وأن الظلمَ ظلماتٌ في الدنيا والآخرة، وأن الظالمَ قد تُعجَّلُ له العقوبةُ في الدنيا، وقد ينتصرُ المظلومُ عليه وهم أحياء.
ألا يظن المفرطونَ في العدلِ أنهم مبعوثونَ ليومٍ عظيم؟
ألا يخشى الظالمونَ المعتدونَ يومًا عبوسًا قمطريرًا؟ أم تراهم ينسونَ ويذرونَ وراءهم يومًا ثقيلًا؟
إن من دواعي العدل أن يشعرَ المرءُ أنه يحبُّ من الناسِ أن يأتوا إليه ما أحبّ، أفلا يأتي إليهم بالذي يحبون؟ ! ألسنا جميعًا نكرهُ من يعتدي على أموالنا أو أعراضِنا .. أو يخدشُ في كرامِتنا .. أو يشكِّكُ في مصداقيتنا ظاهرًا وتُوكَل سرائرنا إلى اللهِ .. فلماذا نكره ذلك لأنفسنا ولا نكرهه للآخرين؟
أيها الناسُ: ورياضةُ النفس وتدريبُها على العدلِ ممكنةٌ، وما زال العقلاءُ بأنفسِهم حتى ألجموها بلجامِ العدلِ، وروّضوها على المعالي، وأدَّبوها مرةً إثرَ مرةٍ، حتى غدا العدلُ سجيّةً لها، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (1) وكُلنا يعلمُ أن أحدَ السبعةِ الذين يُظلهمُ اللهُ في ظلِّه يَومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه إمامٌ عادلٌ.
وهكذا إخوةَ الإسلام نروِّضُ أنفسَنا على العدلِ ونحنُ نرجو ثوابَ اللهِ ونخشى عقابَه .. وما أسعدَ من يسهمونَ في ملءِ الأرض عدلًا .. وما أنكدَ حياةَ من يسعونَ لملئها جورًا.
اللهم ارزقنا العدلَ في أقوالِنا وأفعالِنا مع من أحببنا ومع من لم نُحب.
(1) سورة العنكبوت، الآية:69.