الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُعوّقون من نوعٍ آخر
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله أعطى كلَّ شيءٍ خلْقَه ثم هدى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، عزيزٌ عليه ما عَنِتْنَا، حريصٌ علينا، وهو بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ ومن تبعُهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2).
يا أخا الإيمانِ: تخيّل نفسَكَ زائرًا لواحدٍ من معاهدِ الأملِ أو دارٍ للمعاقينَ .. فألفيتَ نفسَكَ بين مجموعةٍ من البشر يعيشونَ في عالمٍ يختلف - بعضَ الشيءِ - عن عالمِ الآخرينَ، فأحدُهم فاقدٌ للسمعِ أو البصرِ أو لهما جميعًا، وآخرُ مشلولَ اليدينِ أو الرجلينِ أو كليهِما، ومجموعةٌ ثالثةٌ مصابةٌ بأمراضٍ مُزمنةٍ، إنْ في الجسمِ أو في العقلِ أو بهما معًا.
إن من هؤلاءِ وأولئكَ من يستخدمونَ لغةً للتفاهمِ تختلفُ عن لغتِنا، ومنهم من يمشون على الأرضِ بطريقةٍ غيرِ طريقةِ مشينا، ومنهم من يُفكر بغير العقليةِ التي
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 2/ 1422 هـ.
(2)
سورة الحجرات، الآية:13.
(3)
سورة النساء، الآية:1.
نُفكرُ فيها .. وسبحانَ من أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثم هدى .. وسبحانَ من أودعَ نِعمًا عند قومٍ ونزعَها من آخرين .. ليبلُوا هؤلاءِ وهؤلاءِ أيّهم أحسنُ عملًا.
ومن عجائب خلقِ اللهِ أنكَ ربما أبصرتَ مُعاقًا يعملُ وينتجُ أكثرَ مما يعملُ وينتجُ الصحيحُ المعافى!
وهنا نتحدثُ ونلفتُ النظرَ إلى مُعاقين، ولكن من نوع آخرَ، ولكن قبل ذلك أقول: إن المُعاقَ بفقدِ حاسةٍ أو عضوٍ .. فذاكَ قدرٌ كونيٌّ، وحسبُ هذا المعاقِ أن يصبرَ ويحتسبَ وألا تقعدَ به هذه الإعاقةُ عن المشاركةِ في مسرحِ الحياةِ .. وكم من معاقٍ حفظَ القرآنَ، وكم من معاقٍ يُمارسُ الدعوةَ إلى الله، وكم من معاقٍ يُتقنُ من المهاراتِ والأعمالِ ما لا يقدرُ عليه الأسوياءُ!
كم من مُعاقٍ يملكُ هِمةً عاليةً ولم تقعدْ به إعاقتُه عن ممارستِها، وربما حرّكَ بهمَّتهِ وفاعليَّتهِ هِممَ الآخرينَ من الأسوياء!
وكم يشهدُ تاريخُنا الإسلاميُّ في القديمِ والحديثِ على وجودِ عددٍ من النُّبلاءِ الأفذاذِ، وإن فقدوا شيئًا من جَوارِحهم أو لم تكتمل لهم قواهمُ، ومع ذلك أثْرُوا وساهموا مساهماتٍ جليلةٍ، إنْ في الجهادِ أو العلمِ أو مجالاتٍ أخرى، صحيحٌ أن اللهَ قال:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (1)، ولكن هؤلاءِ لم يَعذروا أنفسَهم، فحملَ الأعمى الرايةَ في سبيلِ اللهِ، وقال ابنُ أمِّ مكتومٍ رضي الله عنه:«ادفعوا إليّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيعُ أنَ أفِرَّ وأقيموني بين الصفين» (2).
وأصَرَّ عمرو بنُ الجموح رضي الله عنه وهو الشيخُ الكبيرُ والأعرجُ المعذورُ .. إلا أن
(1) سورة النور، الآية:61.
(2)
ابن سعد في «الطبقات» ، الذهبي في «السير» 1/ 360.
يشاركَ في الجهادِ، وأن يطأ بعرجتِه الجنةَ، فدخلَ المعركةَ وكان من بين شهداءِ المسلمينَ في أحد.
وجعفرٌ الطيارُ لم تقعدْ به الإعاقةُ عن مواصلةِ القيادةِ للمسلمينَ في مؤتة .. حتى إذا سَقطَ في أرضِ المعركةِ شهيدًا على إثرِ قطْعِ يديهِ ثم بَتْرِ جسمه .. أعاضَه اللهُ عن تلك اليدينِ بجناحين يطيرُ بهما في الجنة .. إنها الهمةُ حتى الموتِ، فهل قعدتِ الإعاقةُ بهؤلاءِ عن مشاركةِ المسلمينَ في الجهادِ والدعوةِ .. وإذا كانت تلك نماذجَ العطاءِ لمن عُذروا أو من نُسميهم نحن بالمعاقين، فلا تسأل عن عطاءاتِ وتضحياتِ غيرهمِ .. وهل نُعيدُ النظرَ في مصطلحِ الإعاقةِ؟ ومن هم المعاقون؟
إذًا من هم المعاقونَ من نوعٍ آخرَ؟ إنهم أولئكَ الذينَ أنعم اللهُ عليهم بعطايا ونِعَمٍ، لكنهم لم يستثمروها، إنهم معطِّلونَ لقواهم أو صارفونَ لهذه الطاقاتِ في غير محلِّها، إنهم الكُسالى والمحرومون، والعاجزونَ وأهلُ الأماني.
1 -
إنك حين تُبصرُ شابًّا يمتلئُ حيويةً ونشاطًا، وتكتملُ حواسُّه، ولم يُصَبْ بشيءٍ في عقلِه .. لكنه كَلٌّ على المجتمع، لا يَستفيدُ ولا يُفيدُ، لا يتعلمُ ولا يعملُ، ليس سويًّا في سلوكِه، وأنّى لهُ أن يشاركَ في إصلاحِ الآخرين .. إنه ليس في عملٍ للدنيا .. ولا عبادةٍ للآخرة، لم يستفد منه والداه وأهلُه .. وأنّى للمجتمعِ أن يستفيدَ منه! !
شابٌّ تلك بعضُ صفاتِه .. أيطلقُ عليه سويٌّ أم معاق؟ إنه في نظري معاق .. ولكن إعاقتَه من نوعٍ آخر!
2 -
وحين ترى كهلًا بلغَ من العُمُر عِتِيًّا لكنه لا يحفظُ من القرآنِ إلا نَزرًا .. وقد لا يُحسنُ بعضُهم قراءةَ الفاتحةِ إلا تكسيرًا .. لا عجزًا ولكن تكاسلًا .. هذا الكهلُ في عمرِه المديدِ ليست له هِمّةٌ للمعالي، ولا يُعرفُ عنه أيُّ مشاركةٍ
في عملِ خيرٍ أو دعوةٍ، وربما عاشَ دهرَه ولم يُظل نفسَه ومن يَعولُ ببيتٍ يملكُه .. ليس فقرًا ولكن ضَعف هِمّةٍ وسوء تدبيرٍ .. ماذا يقالُ عنِ مثلِ هذا؟
أين هذا من كهلٍ يتحركُ محمولًا، ومشلولةٌ بعضُ أعضائه .. ومع ذلك يُخيفُ الأعداءَ ويَنْكأُ بهم .. سلاحُه قلبٌ قوي، ولسانٌ عَقول، وهِمّةٌ عالية، وصبرٌ على تَبعاتِ الإعاقة؟
أهو في عداد المعاقين أم الأسوياء؟ !
3 -
وماذا يُقال عن امرأةٍ سَويةٍ، لكنَّ همَّتَها مصروفةٌ للموضةِ والإسرافِ في الزينة .. تعيشُ عددٌ من النساءِ الكافراتِ لهدفٍ تخدمُه، وهذه المسكينةُ تنتهي أهدافُهَا في حدودِ المَطعمِ والملبسِ، فهي فائقةٌ في أنواعِ الطبخاتِ، ومتابعةٌ للجديدِ في الملبوسات والموديلاتِ.
إنها مكتملةُ الحواسِّ - لكنها لم تستثمِرْها في العبوديةِ الحقّةِ، فقد تؤخَّرُ الصلاةَ عن وقتِها، وقد تنامُ مِلْءَ جفونِها سحابةَ النهار وشطرًا من الليل، وأسوأُ من ذلك حين تستخدم شيئًا مما أنعمَ اللهُ به عليها في معصيةِ اللهِ .. وأسوأُ منه حين تفتنُ الآخرين أو الأُخريات بسوءِ فِعالِها ورديءِ أخلاقِها؟
أين هذه من امرأةٍ بلغت بها الشيخوخةُ حدًّا تتكئُ على عصاها حين تريد القيام لصلاتِها .. ومع ذلك فهي حافظةٌ للقرآن، ولهَا منه وِرْدٌ في الصباحِ والمساء، محافظةٌ على السُّننِ والأذكار .. ولها نصيبُها من قيامِ الليلِ والصيامِ، تَشعرُ بآلامِ المسلمينَ والمسلماتِ؛ ولذا تراها ترفعُ يدَيهَا بالدعاءِ لهم حين لا تملكُ شيئًا آخرَ تُساعدُهم به .. وهي تتفطرُ ألمًا وحسرةً حين ترى طائفةً من الفتياتِ يُضيعنَ زهرةَ شبابِهنّ في أمورٍ لا قيمةَ لها .. وكأن لسانَ حالِها يقول: يا ليتني كنتُ شابةً مِثلَكُنّ لَتَرَيَنَّ ما أصنع!
4 -
معاشرَ الشباب: وكم نُسرُّ حين نرى شابًّا أو شابةً ملتزمين، ولكن كم نتألمُ حينَ نرى الالتزامَ بصورةٍ مشوهةٍ لما أمر به الإسلامُ من أخلاقٍ وآدابٍ وعلمٍ وعملٍ وذوقٍ وجمال .. إن الالتزامَ الحقَّ ليس مظاهرَ فارغةً من مضمونها، ولا مجردَ انتماءٍ أو ادِّعاءٍ .. وكم يُسوءُكَ حينَ ترى ملتزمًا سلبيًّا لا يعيش همومَ أُمَّتِه .. ولا يفكِّر في المساهمةِ في إصلاح مجتمعه، وقد ترى حوله ثُلةً من الشبابِ المنحرفِ فلا يُحدثُ نفسَه بنُصْحِهم، وربما كان في طريقه إلى المسجدِ مجموعةٌ من شبابِ الأرصفةِ أو مجموعةٌ من العمالةِ منهمكينَ في العمل وقت الصلاة، فلا تراه يُذكّرُ هؤلاء وأولئك .. وكم يسوءُكَ كذلك أن تسمعَ عن هذا الشابِّ الملتزمِ أنه شُعلةٌ من النشاط والخدمةِ مع زملائِه فإذا كان في البيتِ كان مثالًا للكسلِ والخمول .. إنْ دعاه والداه لعملٍ أو قضاءِ حاجةٍ تبرَّمَ وتضايقَ، وإن قامَ بها قامَ مُجامِلًا كسولًا، وهو مع إخوتِه وأخواتِه نموذجٌ لسوءِ الخُلقِ، فهذا ينهرُه وذاك يضربه والكلّ يفرحُ بخروجه من البيتِ ويتضايقُ حين يسمعُ بمجيئه .. وأنّى لهذا الشابّ أن يقدمَ الدعوةَ لأهل بيتِه، ولو حاولَ وهو بهذه المثابةِ من الخلقِ، فأنّى لمن حوله أن يستجيبَ له .. هو في خارج المنزلِ كثيرُ الحديثِ عن أهميةِ التبكير للصلاة، ولكنه إذا نامَ في البيتِ كان شغلَ أهلهِ في الإيقاظ .. وربَّما قضى الصلاةَ كثيرًا في المنزل، هو اجتماعيٌّ منطلقٌ مع زملائه، لكنه مع شبابِ أسرتهِ وعشيرتِه نموذجٌ للانطوائيةِ والسلبيةِ.
فهل مثلُ هذا سَوِيٌّ أم معوَّق؟
وللحقِّ فإنّ عددًا من الشبابِ والشاباتِ الملتزمينَ والملتزماتِ يربأونَ بأنفسِهم عن هذه الازدواجية في الأخلاقِ والمعاملةِ وفيهم نماذجٌ للذوقِ الرفيعِ والخُلُق الكريم، ولكنَّ الحديثَ هنا موجهٌ إلى فئةٍ من المعوَّقينَ لكنْ من نوعٍ آخر!
إنه حديث عن فئةٍ محسوبةٍ على الشبابِ الأخيارِ، لكنّ حياتَه وبرنامَجَه
وكلامَه وخُلُقَه على خلاف ذلك، فهو عِبءٌ على الدعوةِ وخللٌ من الداخلِ، إنه معوّقٌ لنفسِه وعائقٌ لإخوانه.
5 -
عبادَ الله: وثَمّةَ نوعٌ آخرُ من معوَّقين، لكن من نوعٍ آخر - إنه العالِمُ أو طالبُ العلمِ الذي يحفظُ كمًّا من النصوص، ويستظهرُ عددًا من الأدلةِ الشرعية، ويعرفُ - أكثرَ من غيره - في الأحكامِ والآدابِ والأخلاق .. ولكن لا يرفعُ بالعلمِ رأسًا، فهو في ذاتِ نفسِه مُقصّرٌ أكثرَ من تقصير العوامِّ والجهلة .. ففي المسجدِ تراه في مؤخِّرةِ الصفوفِ وربما قضى الصلاةَ كثيرًا، وربما اطَّلَعْتَ في بيته على عددٍ من المنكراتِ لا يرضاها من هو دُونَه في العلمِ والفقه، وإذا سألتَ عن نوع تعاملِه مع الآخرين، قيلَ لك ما يسوء من الغلظةِ والفظاظةِ والطمعِ والشَّرَه، وهو مانعٌ لزكاةِ العلمِ، فلا تراه في حلقةٍ يُعلم، ولا في مسجدٍ يعظ، ولا في أسرةٍ يُذكِّر ويدعو - إنه الحرمانُ والإعاقة .. ومن النَّصفِ أن يُقال: إن عددًا ممن يحملونَ العلم ليس هذا شأنَهم .. ولكن الحديثَ تنبيهٌ عن فئةٍ معاقةٍ وما بها في الحقيقةِ من إعاقة .. ومحرومةٍ وهي تَمتلكُ ما تتجاوزُ به الحرمان - والذكرى تنفعُ المؤمنين، والنصحُ للهِ ولرسوله ولكتابه ولأئمةِ المسلمينَ وعامَّتِهم، واللهُ الهادي والموفقُ إلى سواءِ السبيل ..
اللهم انفعنا وانفع بنا.