الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، يبتلي عبادَهُ بالشرِّ والخير فتنةً، ويوفّق مَنْ شاءَ لطاعتِه، ومن يضللِ اللهُ فما له من هادٍ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه، لا ملجأَ ولا مَنْجا منه إلا إليه، وهو الذي يُفَرُّ إليه ويُعتَصمُ به، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بيّن بسُنّتهِ القوليةِ وسيرَتِه العمليةِ كيف يكون الفرارُ من الفتن وسُبلَ النجاة منها .. اللهمَّ صلّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين.
إخوة الإسلام:
6 -
ومن قوارب النّجاةِ في أزمان الفتنِ: العبادةُ الحقّةُ لله، والعبادةُ لله - بشكل عام - هدفُ الوجودِ من الحياة، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1).
وتشتد الحاجةُ للعبادة كلّما اشتدتِ الفتنُ وتلاحقتْ؛ ذلك لأنَّ الإنسانَ يأنسُ بالعبادةِ وينشرحُ صدرُه، ويطمئنُّ قلبُه، وبها يحرُسه اللهُ من وَسوسةِ الشياطين وإغوائِهم، وحين ينقطعُ القلبُ عن خالقهِ تستحوذُ عليه الشياطينُ ويقع في أنواع الفتن .. والبيتُ الخَرِبُ - غالبًا - مأوى للشياطين.
لقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى العبادةِ وحَثَّ على المبادرة عليها في أوقاتِ الفتن؛ فقال: «بادِروا بالأعمالِ الصالحةِ فِتَنًا كَقِطَعِ الليلِ المُظلمِ، يُصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا» (2).
وبيّن عليه الصلاة والسلام قَدْرَ العبادةِ وقيمتَها في أوقاتِ الفتن فقال:
(1) سورة الذاريات، الآية:56.
(2)
أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (118)، وأحمد في «مسنده» 2/ 304، 372، والترمذي في «جامعة» برقم (2196).
«العبادةُ في الهَرْج كَهِجْرَةٍ إليّ» (1). والهرجُ: استحكامُ القتل بين المسلمين، وهو نوعٌ من الفتن.
أيها المسلمون: وفرقٌ بين من يشتغلون - أوقاتَ الفتن - بالقيلِ والقالِ وتخطئةِ هذا وتصويبِ ذاكَ، أو بمجرَّدِ ذِكر أنواع الفتن وما بُليَ به الناسُ دون أن يكون هناك عملٌ صالحٌ، أو دعوةٌ للإصلاح، وبين من يشتغلون بعبادةِ ربِّهم في حالِ خَلَواتِهم، ويعملونَ في الدعوةِ والإصلاحِ وتسكينِ الفتنِ في حالِ اجتماعِهِم بالناس.
7 -
أيُّها الناسُ: والدعوةُ إلى اللهِ وإلى سبيلِه قاربٌ آخرُ من قواربِ النجاةِ، فالدُّعاةُ إلى الله يُحذِّرون من الوقوع في الفتن، ويرشدون إلى سُبلِ النَّجاةِ منها، وأول ما يُنقذُ الدعاةُ أنفُسَهم، فليس من الدعوةِ الحقَّةِ أن ينهى الدعاةُ غيرَهم عن الفتنِ وهم واقعون فيها، وكم وقى اللهُ من فتنةٍ بسببِ جهودِ الدُّعاةِ وتوفيق اللهِ لهم، وكم أحيا اللهُ بالدعوةِ أشخاصًا كانوا غارقين في الفتن.
إن الفرقَ كبيرٌ بين من يُحيون الأمةَ بالدعوة، ويُجدِّدون عَزْمها ويزيدون من إيمانها .. وبين من هَمُّهُم التثبيطُ والإحباطُ والحكمُ على الناس بالهلاك، دون تقديمِ أيِّ جُهْدٍ في الإصلاح، وفي الحديث:«مَنْ قالَ: هَلَكَ الناسُ فهو أهلكُهُم» . وفي رواية: «فهو أهلَكَهُم» . وعلى أيِّ المعنييْنِ سواء كان هو أشدَّهم هلاكًا، أو كان السببَ في إهلاكِهم، فذلك معنىً سلبيٌّ، وتلك سلبيةٌ لا تليقُ بالمسلم بشكل عامّ، ولا ينبغي أن يكون ذلك جهدَه في وقتِ الفتن على وجْهِ الخصوص.
(1) أخرجه مسلم برقم (2948).
فهل يا تُرى ينشطُ المسلمون للدعوة في كلّ زمانٍ، ويشتد نشاطُهم للدعوة في أزمان الفتنِ لشدةِ الحاجة لدعوتِهم؟
8 -
وفي سبيل النجاةِ من الفتن لا بد من تحرير مصطلَحِ الفتنة ووضْعِه في موضعِه الشرعيِّ، كما جاءتْ به نصوصُ الكتابِ والسُّنةِ، وكما فَهمَه سَلَفُ الأُمةِ .. ولا ينبغي أن يكونَ مصطلحُ الفتنةِ كلًا مباحًا لكلِّ ناعقٍ .. أو بضاعةً مُزجاةً يُطلقها الجهالُ كيف شاءوا وعلى من شاءوا .. أو متنفَّسًا لأهلِ الأهواءِ يرمون بها مَن خالفهم ولو كان محقًّا.
إن الاختلاطَ في مفهومِ الفتنةِ قد يجعلُ من الحقِّ فتنةً، وقد يُصوِّرُ أهلَ الحقِّ أصحابَ فتنةٍ، وبالعكس فقد يَظهَرُ الباطلُ بصورةِ الحقِّ، وقد يُلمَّعُ المنافقُ فيقال: ما أظرفَه! وما أحسنَ مَنْطِقَه! وإن كان رصيدُه من الإيمان قليلًا .. ومن الخُبثِ والفجور كمًّا كبيرًا .. والعالِمون بكتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم هم القادرون على ضبطِ مصطلحِ الفتنةِ وتحديدِ هُويّة أهلِ الفتن.
إخوة الإيمان:
9 -
والرفقةُ الصالحةُ معينةٌ على تجاوز الأزَماتِ والفتنِ، ولقد أوحى اللهُ إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى - {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (1).
وليس عَبَثًا أن يقولَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُصاحِبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَكَ إلا تقيٌّ» (2).
(1) سورة الكهف، الآية:28.
(2)
رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح: صحيح سنن أبي داود 3/ 917.
وهو القائل: «المرءُ على دينِ خَليلهِ، فلينظرْ أحدُكم من يُخَالِل» (1). ولذا قال جماعةٌ من السلف: «اصْحَبْ من يُنهضُكَ حالُه، ويدُلُّك على الله مَقالُه» (2).
وإذا كان أثرُ القرينِ الصالح على قرينه مشهورًا في دلالتهِ على الخير ومَنْعهِ من الشرور والفتن، فَلِقرينِ السُّوءِ أثرٌ عكسيٌّ سلبيٌّ، وتأمل هذا الحوارَ القرآنيَّ في أثرِ الرفيق:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (3). وتأمل كذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (4).
عبادَ الله: تلك قواربُ تسعةٌ للنجاةِ من الفتنِ، وهي إجمالًا:
1 -
التعوذُ من الفتن بالدُّعاءِ.
2 -
الحذرُ من الانتكاسةِ في الفتن.
3 -
الحذر من السيرِ في رِكابِ المنكراتِ والحرصُ على إنكارِها.
4 -
السيرُ في ركاب جماعةِ المسلمينَ وإمامِهم، والحرصُ على أن يكون المسلمُ من الطائفةِ المنصورةِ.
5 -
العلمُ والتثبُّتُ وعدمُ اعتمادِ القصصِ والشائعاتِ.
6 -
لزومُ العبادةِ والإكثارُ من القُرُباتِ.
(1) رواه أحمد وابو داود، انظر صحيح سنن أبي داود 3/ 917.
(2)
روحانية الداعية: عبد الله علوان، صفات الداعية، حمد العمار ص 65.
(3)
سورة الصافات، الآيات: 51 - 57.
(4)
سورة الزخرف، الآيتان: 36، 37.
7 -
الدعوةُ إلى الله، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ.
8 -
تحريرُ مصطلح الفتنة، وعدمُ الخلطِ بينها وبين الإيذاءِ في سبيل اللهِ.
9 -
اختيارُ الرفقةِ الصالحة، والحذرُ من قرينِ السُّوءِ.
ألا فاحذروا أيها المسلمون أن تفتنوا أنفسَكم، أو تفتِنوا غيرَكم عن الدخولِ في الإسلام؛ بسبب تقصيركم وضعفِكم، وذلك من عجائبِ مواقع الفتنِ ومعانيها، وتلك التي حذرَ منها إبراهيم الخليلُ ومَن معه حين قالوا:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (1). قال قَتادةُ رحمه الله: «المعنى: لا تُظهِرْهم علينا فيُفَتنوا بذلك؛ يَرَون أنهم إنما ظهروا علينا لحقٍّ هم عليه» (2).
إن الفتنة تقعُ حين يرضى المسلمون بالهَوانِ، ويتركون الجهادَ في سبيل اللهِ، وينحرفون في سلوكياتِهم، فيصُدّون غيرَهم عن الدخولِ في دينِ الله، وتلك قاصمةٌ من القواصِمِ.
(1) سورة الممتحنة، الآية:5.
(2)
ذكره ابن جرير في «تفسيره» .