الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقت والإجازة
(1)
الخطبة الأولى:
الحمدُ جعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفةً لمن أراد أن يذّكر أو أراد شُكورًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، أقسمَ بالوقت - في أكثر من موضع من كتابهِ - وفي ذلك إشارةٌ إلى قيمتِه والعنايةِ به، فقال تعالى:{وَالْفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالْعَصْرِ، وَاللَّيْلِ} .
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، سطّر في سيرته جليلَ الأعمال في عُمرٍ لا يتجاوزُ الثالثةَ والعشرينَ عامًا ودعا أمتَه - في غير ما حديثٍ - إلى استثمار الأوقاتِ واستغلال الأعمارِ بما ينفع في الدنيا والآخرةِ.
اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمّ عن أصحابِه والتابعين ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (2).
عبادَ الله: ومن جميلِ النصائحِ وجليلِ الحِكَم، كتبَ عالمٌ إلى عالمٍ آخرَ مذكّرًا بقيمةِ الزمان وحفظِ الأوقاتِ، وليس المُذَكَّر بأقلّ من المُذكِّر، ولكنّ الذكرى تنفعُ المؤمنين.
(1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 29/ 2/ 1421 هـ.
(2)
سورة لقمان، الآية:33.
(3)
سورة الحشر، الآية:18.
عبادَ الله: ما أعظمَ الفرقَ بين هِمَمِنا وهِمَمِهم! وكم يبعدُ تفكيرُنا عن تفكيرهم؟ حتى ليخيَّلُ إليك أحيانًا - أن للقوم أهدافًا غير أهدافِنا - أو أن لنا غايةً غيرَ غايتِهم؟
كم تمضي علينا الساعاتُ والأيامُ - فضلًا عن الشهور والسنوات - ونحن في غفلة ساهون! وللأوقات مضيِّعون، وعن الآخرة غافلون .. وكم تخرج منا
كلماتٌ لا نحسِب لها حسابًا، وقد توردُنا المهالكَ، وكم نبيعُ أغلى ما نملك - وهو الوقت بأبخس الأثمان! ! فنَفرحُ إذ نُزجيَه بالقيل والقال، والانبساط مع الأصحاب والشِّلل، دون فائدة تُذكرُ، والأدهى والأمَّرُّ إذا كان قضاءُ الأوقاتِ بما يَضُرّ في الدين والدنيا. إنك لتعجبُ غايَةَ العجب حين ترى من السلف عنايةً فائقةً بأوقاتِهم واستثمارها بما ينفعُ، إلى حدٍّ كانوا يُقلِّلون أوقاتَ الأكل، أو يعملون وهم يأكلون؟ وهذا أحدُهم يقول: وأنا أُقَصِّرُ بغايةِ جَهدي أوقاتَ أكلي حتى أختارَ سفَّ الكعكِ وتحَسِّيه بالماء على (أكل الخبز) لأجل ما بينهما من تفاوتِ المَضْغ، توفُّرًا على مطالعةٍ أو تسطيرِ فائدةٍ لم أُدركْها (1).
أيها المسلمون: وإذا كان الحديثُ يَطيب عن الوقت وأهمِّيتِه في حياة المسلم - في كلِّ وقتٍ - فماذا يُقال في الحديث عن الوقت في الإجازاتِ حين تُغلقُ المدارسُ، وتبدأ الإجازاتُ وتكثرُ السّفرياتُ؟
إن مجموعةً من التساؤلات تَرِدُ وتحتاج إلى إجابةٍ صادقة وواقعيةٍ، فإلى أيِّ شيءٍ يتطلّع جمهورُ الشباب في قضاء الإجازة؟ وبماذا تُفكّر الفتياتُ في استثمار وقتِ الفراغ؟ وماذا يدور في مخيّلةِ الأولياء نحو قضاءِ الإجازة، ما هي البرامجُ التي تتبناها المؤسساتُ التربويةُ وتسهمُ بها في استصلاح الشباب واستثمار أوقاتِ فراغِهم في عطلة الصيفِ؟ وهل تُعنى وسائلُ الإعلام ببرامجَ مفيدةٍ، وخاصةً في الإجازة لشريحةٍ مهمةٍ في المجتمع، بها تَصقلُ عقولَ الناشئةِ وتُحصِّنهم بإذن الله من التياراتِ الوافدةِ، وتملأُ فراغَهم بالنافع المفيدِ؟
ما الوسائلُ المشروعةُ التي يفكّر أصحابُ الأموالِ في استثمارها، حيث يسافرُ الناسُ ويحتاجون إلى خدمات؟
(1) هو أبو الوفاء علي بن عقيل، انظر «ذيل طبقات الحنابلة» 1/ 177 نقلًا عن: أين نحن من أخلاق السلف الجليل، عقيل/ 131.
وباختصار؛ ليسأل كلٌّ منا نفسَه بماذا يُفكِّر في هذه الإجازة، وما نصيبُ الآخرةِ؟ كيف تُقْضى الأوقاتُ، وتُنفقُ الأموالُ، وتحفظُ الطاقاتُ؟ إن أوقاتَنا وأموالَنا، وطاقاتنا أمانةٌ، وسوف نُسأل عنها.
إخوةَ الإسلام: وهناك ملاحظةٌ لا بد أن نَعِيَها، وهي تتعلّقُ بمحاضنِ التربيةِ، فمن المعلوم أنَّ المدرسةَ والبيتَ من محاضِن التربيةِ المهمةِ لأبنائنا وبناتِنا، وللحقِّ يُقال: إن المدرسةَ عونٌ للبيوت على تربية الأبناءِ والبناتِ - وذلك حين يتوفَّر معلِّمون ومعلِّماتٌ يُدركون واجبَهم في التربية وتهذيبِ السلوكياتِ ورعاية الأخلاقِ، بل ربما قيل: إن بعضَ البيوتِ تقومُ مسئوليةُ التربيةِ فيها على المدرسةِ وحدها. لكن المدرسةَ تُغلقُ الآن، فما حالُ التربيةِ في البيوت حين تنفرد في التربية؟ وهنا يقال: إن البيوتَ تتعاظمُ مسئوليّتُهَا، وربما انكشفتِ البيوتُ الضعيفةُ في التربية في حال غيابِ توجيهِ المدرسةِ، فأصبح الأبناءُ، وربما البناتُ، عالةً على المجتمع بالتجمعات الفارغةِ، والسهراتِ الصاخبةِ، والرحلاتِ الخارجيةِ، والسفرياتِ غيرِ المنضبطةِ، أو بكثرةِ خروج النساءِ إلى الأسواق دونما حاجةٍ، أو بقضاء معظمِ الوقتِ عبرَ سماعةِ الهاتف .. إنّ على رُعاة البيوتِ أن يُدركوا واجبَهم حين يغيبُ دورُ المدرسةِ، فهم أساسٌ في التربيةِ، والمدارسُ مكملةٌ لهم وليست بديلًا عنهم.
أيها المؤمنون: وحين يكون الحديثُ عن دورِ البيوتِ وأثرِها في التربية، فلا ينبغي أن نحمِّل المسئوليةَ كاملةً على الآباءِ والأمهاتِ، بل وعلى الأبناءِ والبناتِ الكبارِ كِفْلٌ من هذه المسئوليةِ لمساعدةِ آبائهم وأمهاتِهم .. وهنا عِتابٌ لطيفٌ أو همسةُ نُصْحٍ تُقال للشباب الملتزمِ والشاباتِ الملتزماتِ الذين يَضعفُ أثرُهم، أو يقلُّ عطاؤهم في بيوتِهم، إن من المؤسف - حقًّا - أن عددًا من الشباب يمتدُّ نفعُهم إلى كلِّ أحدٍ إلا أهلَ بيتهِ وعشيرتِه، فتراه يبخلُ عليهم بجلسةٍ نافعةٍ أو
بهديةٍ قيمةٍ، وربّما مَنَّ عليهم بالذهاب بهم إلى قضاء حوائجِهم، أو زيارة أقاربهم، بينما تراه يتهللُ مع الأصحابِ ويفرح بخدمةِ الزملاء، وهنا غفلةٌ في مسئولية الدعوةِ في العشيرة والأقربينَ، وغفلةٌ عن احتسابِ الأجرِ لخدمةِ الأهل، والله يقول:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1) فإذا كان هذا الخطابُ قيل لمن أُرسلَ للعالمين، فكيف بغيره؟ ! والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حين سأله سائلٌ وقال: من أبرّ؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَنْ؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَن؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَنْ؟ قال: «أبوك» .. وبشكل عام، فالأقربون أولى بالمعروف، فهل يصحُّ مع هذه النصوص أن يُقدِّمَ بالدعوة والخدمةِ الآخرون على الوالدين والأقربين؟ ! إنها لفتةٌ وهمسةٌ لا تعني التقليلَ من الجهود الطيبةِ مع الآخرين .. لكن مراعاةِ الأقربين وتوجيهِ العنايةِ بمن يُظلُّهم سقفٌ واحدٌ من الأبوين والإخوةِ والأخواتِ.
وبكلِّ حالٍ، فالدعوةُ لنا جميعًا بقوله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (2).
(1) سورة الشعراء، الآية:214.
(2)
سورة التحريم، الآية:6.