الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربّ العالمين، أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والآثامِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، كفى به حسيبًا ورقيبًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، ما فتئَ يوصي أُمتَه باغتنام الأوقاتِ بما ينفعُ، ويحذِّرهم ويذكِّرهم بالسؤالِ عن التفريط والإهمال، وهو القائل:«لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن عُمُرِهِ فيمَ أَفناهُ، وعن عِلْمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيم أنفقَه، وعن جسمه فيم أبلاهُ» (1).
اللهمَّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين.
إخوةَ الإسلام: وهناك مركزُ التربيةِ الدائم، وملتقى الإيمانِ، ومحضنٌ هامٌّ من محاضن التربيةِ للصغار، بل وللكبارِ .. لا يُغلَق أبدًا، ولا تنقطعُ رسالتُه في ليلٍ أو نهار .. ومع ذلك نغفلُ كثيرًا عن استثماره، وربما تجاوزناه إلى غيره وهو أعظمُ أهميةً .. إنها بيوتُ اللهِ مفتوحةٌ أبوابُها للكبار والصغارِ، والرجالِ والنساءِ، وأهلِ الحيِّ والزائرين، أو المسافرين والغرباءِ والمقيمين، فما هو أثرُ المسجد في الحيّ بشكلٍّ عام، وما البرامجُ التي يمكن أن يقومَ بها في إجازة الصيف مساهمةً في تربية أبنائنا وبناتِنا ورعايةً وتعليمًا للمحتاجين والوافدين؟ ما هي أنواعُ المسابقاتِ التي يمكن أن تنطلقَ من المسجد؟ إن في حفظ شيءٍ من كتابِ اللهِ أو سُنةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أو قراءةِ كتابٍ نافع .. أو صياغةِ مجموعةٍ من أسئلة نافعةٍ. يَعمُّ نفعُها للذكور والإناثِ والصغارِ والكبار .. وتكون جزءًا من رسالة المسجدِ .. هل يتعاون جماعةُ المسجدِ على معرفةِ أهلِ الحوائج في حيِّهم
(1) أخرجه الترمذي (ح 4217) والدارمي (ح 543 م) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: وانظر: صحيح الجامع الصغير 6/ 148 ح 7177.
ويسدّوها، ويتعرفون على المقصِّرين في الصلاة فيهدون لهم النُّصحَ والتوجيهَ؟ هل تنظِّم الجهاتُ الرسميّةُ - على الأقلِّ في الصيف - دوراتٍ نافعةً للأطفالِ وأخرى للشبابِ، وثالثةً للنساء، ورابعةً لإخواننا الوافدين، لتعليمهم ما يحتاجون إليه؟
إن على الأئمة كِفْلًا من المسئولية للتفكير في عدد من الوسائل تَندرجُ ضمن رسالةِ المسجد، والتنسيقِ مع جهة الاختصاص فيما يحتاج إلى تنسيق، وعلى جماعة المسجدِ أن يكونوا عونًا له، فالتعاون على الخير مطلبٌ، وهو أساسُ النجاح، وإن المساجدَ أهلٌ لأن تكونُ مناراتِ توجيهٍ وإرشادٍ في الأحياء، فهل أدّتِ المساجدُ دورَها في الأحياء؟ وهل تنتهي مهمةُ المسجد عند قضاءِ الصلواتِ؟ مع عِظَمَ هذه الشعيرة، ولكنّ صلاةَ الجماعةِ والتِقاءَ المسلمين كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ حَرِيٌّ بأن يُستثمرَ لنشر الخيرِ وسدِّ الحوائج والنهي عن المنكر.
ولقد كان مسجدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم متعددَ الأغراضِ والنفع، فيه كان يقيم الغرباءُ، وبه كان يُداوي الجرحى، وبه يُربطُ الأسراءُ، وبه يُنفقُ على الفقراء، ومنه تنطلق راياتُ الجهادِ، وبه تُعقدُ حِلَقُ العلم، وبه يَتشاورُ المسلمون فيما يحتاجون إلى مشورة، بل وبه يُنشدُ الشعرُ دفاعًا عن الإسلام، وبه كانت تَأوي النساءُ اللائي أسلمن من أحياء العربِ ولم يَجدنَ مأوىً غير المسجد (1).
إلى غير ذلك من مهام جليلةٍ - انحسر معظمُها في مساجدنا اليوم وهي محتاجةٌ إلى البعث والتجديد.
إخوة الإيمان: وما أروعَ الأمرَ حين يكون مسجدُ الحيِّ ملتقى للناشئة، من خلاله يقرؤون ويتحلَّقون ويتعلَّمون، ومن خلاله يتسابقون ويتنافسون .. فيصطبغُ
(1) البخاري ح 4309 السيرة النبوية د. مهدي رزق الله/ 297.
في قلوبهم حبُّ المساجدِ منذُ الصِّغر، ويعلمون آدابَ المسجدِ، وأحكامَ الصلاةِ، ونحوَها من معارفَ وآدابٍ وأخلاقٍ.
إن أحياءَ رسالةِ المسجدِ مسئوليةٌ لا يتحمّلُها الإمامُ وحدَه - وإن كان دورُه كبيرًا - بل هي مسئوليةُ جماعةِ المسجد، ومسئوليةُ الجهاتِ المسئولةِ عن المساجد .. ويوم أن تتضافرَ الجهودُ، فيبذلُ العالمُ من علمِه، ويشاركُ المربي في تربيته، وينفق الغنيُّ من ماله، ويشارك أهلُ الرأي برأيهم .. يومها سيغدو للمسجد شأنٌ آخر، وستتخرج أجيالٌ من المسجد كما تخرَّجت الأجيال الأولى، وسينعم أهلُ الحيّ بالهدوء والسكينةِ، وتنتهي التجمعاتُ الفارغةُ، والعبثُ بالسيارات وإيذاءُ المارّة.
إنها دعوةٌ لتفعيل دورِ المسجد لأكثر من غَرَض، فهل نبدأُها من هذه الإجازة؟
إخوة الإسلام: ومجالاتُ الخير أو فُرَصُ استثمار الوقتِ في هذه الإجازة كثيرةٌ متنوعةٌ - وما مضى قليلٌ من كثير - فالتفرغُ لحفظ كتابِ الله أو شيءٍ منه في هذه الإجازة مطلبٌ نفيسٌ .. والمطالعةُ في كتب العلم النافعةِ وتحصيلُ العلم مع الإخلاص قربةٌ إلى الله - وهو مما تُحفظُ به الأوقاتُ. والمساهمةُ في الدعوة إلى الله، إن في الحيِّ، أو في القرى النائيةِ، أو في بلادِ المسلمين القريبةِ أو البعيدةِ .. كلُّ ذلك جهادٌ في سبيل الله ودعوةٌ إلى دينه، والمساهمةُ في المراكزِ الصيفيةِ إشرافًا أو مشاركةً بهدف الإصلاح والاستصلاحِ كذلك يُعدُّ ثغرةً من ثغراتِ الدعوة، يحتاج إلى احتسابٍ وتجديد في الوسائل، واستصحابُ المسافر معه مجموعةً من الكتيبات، والأشرطةِ النافعة وتوزيعُها على المحتاجين عملٌ طيبٌ، وله آثارُه النافعةُ بإذن الله، وحين يقوم الشابُّ في العمل وظيفيًا، أو بيعًا وشراءً في هذه الإجازة لتأمين حوائجه والاستغناءِ عن المسألة .. بل والتفكير لإحصان نفسِه بالزواج مستقبلًا .. كلُّ ذلك رجولةٌ وشهامة، وقد كان خِيرةُ
الخلقِ يأكلون من كسب أيديهم، إلى غير ذلك من وسائل يمكن أن يُستثمرَ بها الوقتُ في الإجازة، وهذا عامّ للرجال والنساء والموظفين ورجالاتِ الأعمال، والصغارِ والكبارِ .. ولهؤلاء جميعًا يُقال: احذروا من البطّالين ولصوصِ الأوقات، فإنهم من أعظم الأسباب لضياع العمرِ وقتلِ الأوقات - وهم ينشطون ويكثرون في الإجازات - وهؤلاء قد حذَّر منهم قبلنا العارفون، وشكي منهم ابنُ الجوزيِّ رحمه الله، فقد عقد في كتابه «صيد الخاطر» فصلًا في (أهل الفراغ بلاءٌ) فراجعه إن أردتَ معرفةَ ذلك.
اللهمَّ ألهمْنا رُشدَنا، وأعِنّا على استثمار أوقاتِنا بما ينفع، ولا تجعلِ الدنيا أكبر هَمّنا ولا مبلغَ عِلمنا.