الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله جعلَ العزةَ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين، والذلةَ للكافرين والمنافقين، أحمدُه تعالى وأشكرُه وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأصلي وأسلم على خِيرةِ خلقهِ.
أيّها المسلمون:
8 -
وبين الحماسِ الشعبي والتراخي السياسيِّ يبرزُ مَعلَمٌ من معالمِ الموقفِ في قضيتِنا الكبرى، فالمتأملُ في الأحداثِ الجاريةِ مع اليهودِ في فلسطينَ يلحظُ حماسًا وعاطفةً إسلاميةً تَتّقِدُ في قلوبِ الشعوبِ العربيةِ والإسلامية، ليسَ فقط في حدود فلسطينَ، بل وخارجها، منددةً باليهود، ومن أطفالِ الحجارةِ إلى المنظماتِ الجهاديةِ، إلى المظاهراتِ الطلابيةِ، وفي أرضِ الكنانةِ (مصر) وغيرها نموذجٌ لهذا الحماسِ الإسلامي تُجاه المقدساتِ، وتُجاه الدماءِ الإسلامية، وفي مقابلِ ذلك هناكَ فتورٌ وتراخٍ في الموقفِ السياسي ممن يملكونَ القرارَ، ولا يزالونَ يحملونَ حقائبَهُم للمفاوضاتِ الخاسرةِ، وعلى الرغمِ من النكساتِ المريعةِ، والصَّلفِ اليهوديِّ المثيرِ، ولا تزالُ الشعوبُ العربيةُ والمسلمةُ تتطلعُ إلى قرارٍ جماعيٍّ وموقفٍ بطوليٍّ يضعُ حدًّا لعنفِ اليهودِ، ويُنهي مرحلةَ الذُّلِّ والاستسلام.
9 -
المَعْلَمُ التاسعُ: الإعلامُ والقضية .. ونلحظُ كذلك ضعفًا في إعلامنا العربيِّ والإسلامي لخدمةِ قضيةِ فلسطينَ الكبرى، وللإعلامِ دورُه في إذكاءِ حماسِ الشعوب، بل وفي الضغطِ لاتخاذِ مواقفَ جادةٍ مع بني صهيونَ .. وماذا يصنعُ الإعلامُ الغربيُّ واليهوديُّ لو أن طفلًا يهوديًّا قتلَه المسلمون .. فكيفَ بمجموعةٍ من الأطفالِ والرجالِ والنساءِ يُقتلون .. وكيف والعبثُ بالمقدساتِ والاستفزازِ في الزياراتِ دَيْدَنُ اليهود .. والمأساةُ هي التغفيلُ من قِبَل الإعلام -
إلا مجردَ عواطفَ تخرجُ عند الحدَثِ ثم لا تلبثُ أن تخبو وكأنّ شيئًا لم يكن، أما الإعلامُ الكافرُ فمعروفٌ بتحيُّزه وخدمته لقضايا فكرهِ والدفاعِ عن أبناء جنسِه وملَّتِه، وهو غيرُ ملومٍ في خدمةِ قضايا المسلمينَ، ولكن الملومَ إعلامُ العربِ والمسلمين، على أن أمرَ القضيةِ الكبرى ليس مسئوليةَ الإعلاميين وحدَهم، بل ورجالِ الفكرِ وأساتذةِ الجامعات، وذلك بإثراءِ القضيةِ بحديثهم وبحوثهم ومقالاتِهم وكتبهم .. فأين هؤلاءِ جميعًا من قضيتِهم؟ وبكل نزاهةٍ وتجردٍ وصدقٍ وإخلاص.
10 -
الهيئاتُ والمنظماتُ الإسلاميةُ والقضيةُ .. سؤالٌ يطرحُ نفسَه: كم في العالمِ العربي والإسلامي من هيئةٍ ومنظمةٍ إسلاميةٍ؟ ! وأين دورُها؟ وما أثرُ هذا الدورِ في خدمةِ القضية؟ هل يُقارنُ أثرُها وجرأتُها بالمنظماتِ والهيئاتِ الغربية؟ أم أصيبت بنوع من الإحباطِ لكثرةِ رزايا المسلمينَ، سواءٌ كان هذا أو غيرُه من الأسبابِ فلا يُبرر صمتَها في بيانِ الموقفِ الإسلامي بعيدًا عن أيِّ مؤثراتٍ أخرى .. ولا يعفيها من المسئوليةِ إن جاءَ صوتُها متأخرًا وهزيلًا ..
وأيُّ هيئةٍ أو منظمةٍ إسلاميةٍ لا يعنيها شأنُ المقدساتِ، ولا تستنكرُ نزيفَ الدماءِ المسلمةِ، ولا تنددُ بظلمِ الطغاةِ والمجرمينَ .. فماذا تُقرُّ وماذا تستنكرُ؟
وللحقّ، يُقالُ: إن ثمةَ هيئاتٍ ومنظماتٍ إسلاميةٍ تستنكرُ، لكن الحديثَ عن الأعمِّ والأغلبِ، وهو دونَ المستوى المطلوبِ في حجمه وفاعليته!
11 -
بين خسارتين: لا شك أن سقوطَ عدد من القتلى والجرحى في أرضِ فلسطينَ خسارةٌ على الفلسطينيينَ والمسلمينَ، ولاشكَّ أن إرهابَ الآمنينَ من المسلمينَ في الأراضي المحتلةُ يُسيءُ للفلسطينيين وعمومِ المسلمين .. ولكن الخسارةَ أعظمُ لو سارَ قطارُ السلامِ واستثمرَه اليهودُ والنصارى لصالحهم ضدَّ المسلمين، فتمَّ التطبيعُ وصدّرت إسرائيلُ أفكارَها وعقائدَها وروَّجتْ
للمخدِّرات، وانتشر الفسادُ الخلُقي، وراجَ سوقُ البغايا.
إن حُمقَ اليهودِ واستفزازَهم أشعلَ فتيلَ العداوةِ ضدَّهم، وذكّرَ المسلمينَ بأهدافِهم ومخططاتِهم، واستيقنَ من لم يستيقن من المسلمينَ بفشلِ عملياتِ السلامِ وضرورةِ الاستعدادِ للمواجهة مع اليهودِ مستقبلًا، وهذه وتلك إيجابياتٌ للأحداث {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1).
12 -
تحسبُهم جميعًا وقلوبُهم شتى: تلك حقيقةٌ قرآنية تكشفُ عن تنازعِ اليهودِ واختلافِهم - فيما بينهم - وهم كذلك في القديمِ والحديثِ، وينبغي أن يدركَ المسلمونَ هذا الخللَ عند يهودَ، ويستفيدوا منه لصالحِ قضيتِهم، ولئن ظهرَ للناسِ اليومَ أن اليهودَ متفقونَ ومتماسكونَ في فلسطينَ، فليسَ الأمرُ كذلك، بل تشيرُ الدراساتُ إلى عددٍ من المشاكلِ التي تُقلقُ مضاجعَهم، فهم أحزابٌ متناحرون، وصل الأمرُ إلى قتلِ المتطرفِ منهم للمعتدلِ - في نظرهم - وإن كانوا في نظرنا كلُّهم متطرفونَ، والهجرةُ المعاكسةُ، والخروجُ من فلسطينَ لدى بعض اليهودِ بسببِ عدمِ توفرِ الأمنِ لليهودِ يقلقُ الإسرائيليين، كما يُقلقهم عدمُ استجابة السكانِ اليهودِ لدعوة تكثير النسل، لاسيما وإنهم اكتشفوا أنه مقابلَ كلّ شهيدٍ فلسطينيٍّ يولدُ عشراتٌ من الفلسطينيينَ، وهكذا الطبقيةُ المقيتةُ تزعجُ اليهود؛ ولو أنّ المسلمينَ صَدقوا في جهادِهم لاكتشفوا كثيرًا من طباعِهم ومظاهر الضعفِ فيهم.
أيّها المسلمونَ: أكتفي بذكرِ هذه المعالمِ الاثنتي عشرةَ - في هذه الخطبةِ - وثمة معالمُ ووقفاتٌ أخرى في قضيتنا الكبرى أستكمِلُها في خطبةٍ لاحقةٍ بإذن اللهِ ..
(1) سورة النساء، الآية:19.
وفي نهايةِ حديثِ اليوم أقفُ ويقفُ غيري متسائلًا: وماذا ستتمخَّضُ عنه هذه المشاعرُ العربيةُ والإسلاميةُ الغاضبةُ تُجاهَ ما يصنعه اليهودُ اليومَ في أرضِ المقدسات؟
ولئن قيل: إنها ستنتهي عند حدودِ الشجبِ والاستنكارِ، كما حدثَ في مجزرةِ الخليلِ وملحمةِ صبرا وشاتيلا وسواهما من أحداثٍ داميةٍ ارتكبها اليهودُ - وهي مسطورةٌ في تاريخِهم الأسودِ - فهناك من يقولُ: إنها وإن كانت كذلك في المنظورِ القريبِ فهي على المدى البعيد ستشكلُ هذه المآسي أرضيةً تُنبتُ العزةَ والكرامةَ لدى الشعوبِ العربيةِ والمسلمةِ، وستكونُ هذه سلاحًا يُقاتلُ به اليهود، وسينشأُ في هذه المحاضنِ الصعبةِ أطفالٌ يرضعونَ كُرهَ اليهودِ ومن شايَعَهم مع ثَدْي أمهاتِهم، وسيكونونَ رجالَ المستقبلِ يقاتلونَ وهم صادقون، ويصبرونَ حتى ينتصرون.
لكنها مأساةٌ بحقّ مسلمي اليومَ حين يلوذونَ بالصمتِ وهم يرونَ الحقدَ اليهوديَّ يتزايدُ، والدعمَ الغربيَّ لدولةِ الصهاينةِ يتفاقمُ، والهيئاتُ والمنظماتُ الدوليةُ تتفرجُ، بل ربما تتلذذُ بمشاهدةِ المسرحياتِ وهي تُنفَّذُ، وهم خلفَ الستار.
أجل لا يسوغُ لأمّةٍ ولدت أطفالًا يقاومونَ بالحجارةِ أن تظلَّ تتفرجُ على هؤلاءِ الأطفالِ وهم يقضونَ نَحبَهم - كما يتفرجُ غيرُهم - دون أن يَنصروا مظلومًا أو يردعوا ظالمًا، وماذا سيكونُ موقفُ الحكوماتِ الإسلاميةِ التي تورطت بعلاقاتٍ واتفاقاتٍ اقتصاديةٍ أو ثقافيةٍ أو عسكريةٍ أو نحوها مع إسرائيلَ، وهي تفعلُ اليومَ ما تفعلُ بأبناءِ فلسطينَ ومقدساتِ المسلمينَ وإخوانِهم المسلمين؟
إنها مأساةٌ حين تتفرجُ أبناءُ المللِ الأخرى على ما يحصل لأبناءِ المسلمينَ
ولسانُ حالِهم يقول: أين أهلُ هؤلاءِ؟ أين أبناءُ مِلَّتهم؟ أليسَ دينهم يقول لهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1). أليس نبيهم يقول لهم: «انصر أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا» . فأين حقوق الأخوة؟ وأين وسائلُ النصرة؟ !
اللهم كن للمسلمينَ في فلسطينَ عونًا ونصيرًا، اللهم ارحم ضعفَهم، وقوّ عزائمَهم، واقبلَ شهداءَهم، اللهمّ فرِّج كربَهم، واخذل من خذَلَهم، وانصر من نصرَهم، اللهم طهِّر مقدساتِ المسلمينَ من عبثِ اليهودِ الغاشمينَ، اللهم إنهم بَغَوا فاخْذلْهُم، وتكبَّروا فأذِلَّهُم وأهِنْهُم، اللهم عليكَ باليهودِ والنصارى ومَن سايَرَهُم من المنافقين .. اللهم أحصهِم عَدَدًا، واقتُلهُم بَدَدًا، ولا تُبق على الأرضِ منهم أحدًا، اللهمَّ اجمع كلمةَ المسلمينَ على الهُدى، وألْزِمهُم كلمةَ التقوى وأبدِل ضعفَهم قوةً وعزًّا، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح ولاةَ أمرِنا.
(1) سورة الحجرات، الآية:10.